في
أثناء خلافة عمر رضي الله عنه ألحّت الضرورة الإداريَّة المتمثّلة في أرشفة
القرارات الصادرة، والأحداث المتعلقة بزيارات الوفود الدّاخلية والخارجيّة، والرّسائل
المتبادلة سواء مع الولاة داخل الدولة الإسلاميَّة أو مع ملوك وأمراء الدّول
الأخرى؛ إلى اعتماد آليّةٍ للتَّأريخ. ووقعت بعض الحوادث التي جعلت المسألة ضرورة
ملحّة؛ منها ما أخرجه الحاكم "أنّ أبا موسى الأشعريّ كتب إلى عمر: إنه يأتينا
منك كتب ليس لها تاريخ، فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن دعا إلى اجتماع تشاوري
لاتخاذ قرار في هذه القضيّة.
وعند
المداولات استُبعدت طريقة الفرسُ والرُّوم في التأريخ دون كثير مناقشة؛ لِما فُطر
عليه الصّحب الكرام رضي الله عنهم من استقلال الشخصيّة المسلمة وعدم تبعيّتها في
مظاهر الحياة العامة أو تفاصيلِها للأمم الأخرى، وكانت حادثة تشريع الأذان درسا
عمليّا في ذلك. وطرحت في الاجتماع عدة خيارات للتأريخ؛ منها ولادة النبيّ صلى الله
عليه وسلم أو بِعثته المبتدئة بنزول الوحي أو وفاتُه صلى الله عليه وسلّم، ثم طرحت
هجرته صلى الله عليه وسلَّم، وبعد مداولات استقرَّ الأمرُ على أن تكون الهجرة هي
مبتدأ التأريخ.
وقد
علل عمر رضي الله عنه هذا بأنَّ الهجرة هي التي كان فيها ظهور الإسلام وانتشاره.
وينقل الحافظ ابن حجر في "فتح الباري شرح صحيح البخاري" المشهد مع بعض
التعليلات فيقول: "وَقَدْ أَبْدَى بَعْضهمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ
مُنَاسَبَة فَقَالَ: كَانَتْ الْقَضَايَا الَّتِي اتّفقَتْ لَهُ وَيُمْكِن أَنْ
يُؤَرَّخ بِهَا أَرْبَعَة؛ مَوْلِده وَمَبْعَثه وَهِجْرَته وَوَفَاته، فَرَجَحَ
عِنْدهمْ جَعْلهَا مِنْ الْهِجْرَة، لِأَنَّ الْمَوْلِد وَالْمَبْعَث لَا يَخْلُو
وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ النِّزَاع فِي تَعْيِين السَّنَة، وَأَمَّا وَقْت الْوَفَاة
فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ،
فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَة" وَإِنَّمَا أَخَّرُوهُ مِنْ رَبِيع الْأَوَّل
إِلَى الْمُحَرَّم لِأَنَّ اِبْتِدَاء الْعَزْم عَلَى الْهِجْرَة كَانَ فِي
الْمُحَرَّم، إِذْ الْبَيْعَة وَقَعَتْ فِي أَثْنَاء ذِي الْحِجَّة وَهِيَ
مُقَدِّمَة الْهِجْرَة , فَكَانَ أَوَّل هِلَال اِسْتَهَلَّ بَعْد الْبَيْعَة
وَالْعَزْم عَلَى الْهِجْرَة هِلَال الْمُحَرَّم ، فَنَاسَبَ أَنْ يُجْعَل
مُبْتَدَأ , وَهَذَا أَقْوَى مَا وَفَقْت عَلَيْهِ مِنْ مُنَاسَبَة الِابْتِدَاء
بِالْمُحَرَّمِ.
الهجرة هي النُّقطة الفاصلة في انتقال الإسلام من طور الدَّعوة إلى طور الدَّولة، وهذا معنى كلام سيدنا عمر رضي الله عنه أنها كانت أوان ظهور الإسلام، وما دامت قضية التأريخ ضرورة إداريَّة تفرضها احتياجات الدولة فلا بدَّ أن يكون التأريخ مرتبطا بنشوء الدَّولة والحدث الذي أدى إليه
وَرَوَى
الْحَاكِم عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ " جَمَعَ عُمَر النَّاس
فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَوَّل يَوْم يَكْتُب التَّارِيخ، فَقَالَ عَلِيّ: مِنْ يَوْم
هَاجَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَك أَرْض الشِّرْك؛
فَفَعَلَهُ عُمَر" أ. هـ.
وأسجِّل
هنا نقطتين تتميّز بهما الهجرة عن بقيَّة الأحداث التي كانت مطروحة للنقاش
والتداول وهما:
أولا:
الهجرة هي النُّقطة الفاصلة في انتقال الإسلام من طور الدَّعوة إلى طور الدَّولة،
وهذا معنى كلام سيدنا عمر رضي الله عنه أنها كانت أوان ظهور الإسلام، وما دامت
قضية التأريخ ضرورة إداريَّة تفرضها احتياجات الدولة فلا بدَّ أن يكون التأريخ
مرتبطا بنشوء الدَّولة والحدث الذي أدى إليه.
ثانيا:
جميع الحوادث الأخرى التي طرحت متعلقةٌ بشخص النبيّ صلى الله عليه وسلم -بأبي هو
وأمِّي- فهو العنصر الوحيد في أحداثها، بينما الهجرة هي الحدثُ الذي غيَّر مجرى
التاريخ بنشوء دولة الإسلام، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حريصا على مشاركة
عناصر الأمَّة كلِّها في صناعته، من الشباب والكهول والنّساء والشّرائح الاجتماعية
المختلفة، بدءا من الرّعاة وليس انتهاء بالتجار بل أشرك في صناعتها غير المسلمين،
فهذا يجعلها الحدث المؤهَّل للتأريخ به لتميز مآلاته ونتائجه واشتراك الأمة كلها
في صناعته.
العلاقة بين حادثة الهجرة ورأس السنة الهجرية "الأول
من محرَّم"
الهجرة هي الحدثُ الذي غيَّر مجرى التاريخ بنشوء دولة الإسلام، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حريصا على مشاركة عناصر الأمَّة كلِّها في صناعته، من الشباب والكهول والنّساء والشّرائح الاجتماعية المختلفة، بدءا من الرّعاة وليس انتهاء بالتجار بل أشرك في صناعتها غير المسلمين، فهذا يجعلها الحدث المؤهَّل للتأريخ به لتميز مآلاته ونتائجه واشتراك الأمة كلها في صناعته
ليس
هناك ارتباط وثيقٌ تراتبيّ في مسار الأحداث بين وقائع
الهجرة النبوية وبين رأس
السنة الهجرية، إلّا ما ذكره ابن حجر العسقلاني أنّ ابتداء العزم على الهجرة كان
في شهر محرّم؛ إذ غادر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة
14 من النبوة، الموافق 12/13 أيلول/ سبتمبر سنة 622م، وانطلق مع صاحبه الصدِّيق
رضي الله عنه من غار ثور باتجاه المدينة ليلة الاثنين، غرة ربيع الأول سنة 1هـ/ 16
أيلول/ سبتمبر سنة 622م، وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة -وهي
السنة الأولى من الهجرة- الموافق 23 أيلول/ سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى
الله عليه وسلم بقباء. وكان دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الجمعة 12 ربيع
الأول من ذلك العام.
وأما
أن يكون الأول من محرَّم هو رأس السنة الهجرية فسببه أنَّ السنة عند العرب كانت
تبدأ في شهر محرَّم وتنتهي بشهر ذي الحجة ولكنهم لم يكونوا يعدّون السنوات، بل
كانوا يسمون السنة بأهم حدث وقع فيها مثل عام الفيل وعام البسوس وعام الفجار وعام
بعاث وغير ذلك، حتى إذا اتفق المسلمون في عهد عمر رضي الله عنه على التأريخ
بالهجرة؛ كان العام الذي وقعت فيه حادثة الهجرة كلّه السنة الأولى للهجرة، وابتدأ
العدُّ بها بصفتها عاما للهجرة لا بيوم الهجرة من حيث مبتدؤه أو منتهاه.
وقد
أشار ابن كثير في تاريخه "البداية والنّهاية" إلى هذا، مبيّنا أنّ
النّظام العام عند العرب كان ابتداء السّنة في شهر محرم فبقي الأمر على ما هو
عليه؛ فيقول: "وذلك لأنّ أوّل شهور العرب المحرّم؛ فجعلوا السّنة الأولى سنة
الهجرة، وجعلوا أوّلها المحرّم كما هو المعروف لئلّا يختلط النّظام والله أعلم".
الأحداثُ
العظيمة تصبغُ الزَّمانَ كلَّه بأنوارِها وتتنافسُ الأيام في نسبتِها إليها!!
twitter.com/muhammadkhm