اعتبر عدد من المؤرخين والاكاديميين والسياسيين
التونسيين أن تعييين أحمد
الحشاني رئيسا جديدا للحكومة، خلفا لنجلاء بودن، "رسالة سياسية لكل الأطراف
السياسية والاجتماعية التونسية، خاصة لممثلي التيار القومي العربي و"لليوسفيين"، باعتباره نجل صالح الحناشي، وهو أحد ضباط الجيش التونسي الذين أعدموا في 1963 بسبب
مشاركتهم في المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد
الرئيس الحبيب بورقيبة، وحكمه في
ديسمبر/ كانون الأول 1962 .
واعتبر المؤرخ الجامعي والديبلوماسي سعيد بحيرة، في تصريح لـ
"عربي21"،
أن تعيين الحشاني فيه رسائل "إيجابية عديدة"، من بينها "إنصاف
العروبيين القوميين واليوسفيين"، أي أنصار الأمين العام للحزب الدستوري صالح
بن يوسف الذين نظموا تمردا سياسيا وآخر مسلحا ضد الرئيس الحبيب بورقيبة وأنصاره ما
بين 1955 و1961، بدعم من القيادات القومية العربية في مصر بزعامة جمال عبد
الناصر، وفي الجزائر بزعامة أحمد بن بلا
ورفاقه.
سعيد بحيرة
ولم يتوقف ذلك التمرد إلا بعد اغتيال الزعيم صالح بن يوسف في ألمانيا
في 12 آب (أغسطس) 1961، ثم بعد إجهاض المحاولة الانقلابية التي تزعمها المناضل
الوطني والمسؤول الأمني في قصر قرطاج الأزهر الشرايطي يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول
1962. وكان صالح الحناشي والد رئيس
الحكومة المعين أحد الضباط الذين حوكموا وأعدموا
وقتها. وقد انطلقت منذ عقود، خاصة بعد سقوط حكم بن علي في يناير 2011، نداءات وجهود
لإعادة الاعتبار إليه وإلى رفاقه، ومطالبات بالكشف عن مكان رفاتهم، بعد أن وصفهم
سياسيون وعسكريون برزوا بعد 2011 بكونهم قاموا بمحاولة "إنقاذ" وليس بـ"محاولة
انقلابية "..
نقد مسؤول لسياسات بورقيبة وبن علي
وساير المؤرخ التونسي والمدير العام السابق لمعهد تاريخ الحركة
الوطنية وتاريخ تونس المعاصر لطفي الشايبي، في تصريح لـ
"عربي21"، هذا
التمشي. وأكد على "تعدد الرسائل السياسية وراء قرار قيس سعيد تعيين الحشاني
رئيسا للحكومة، بالرغم من كون والده معارضا سابقا وضابطا أعدم بعد اتهامه بالمشاركة في
محاولة انقلابية "..
لكن الشايب حذر من تضخيم دلالات هذه الرسائل، "رغم أهمية التأكيد
على كون قيس سعيد وطنيا عروبيا محافظا تعامل مع الزعيم الحبيب بورقيبة وتراثه تعاملا
نقديا، مثلما يتعامل تعاملا نقديا مع مكاسب الدولة الحديثة وإنجازاتها خلال عقدي
حكم الرئيس بن علي "..
لطفي الشايبي
واعتبر لطفي الشايبي أن "إنصاف نجل الضابط صالح الحشاني توحي
بإرادة سياسية لطي صفحة "شيطنة كل من عارض بورقيبة من العروبيين والقوميين
والوطنيين المناصرين للزعيم صالح بن يوسف"..
في نفس الوقت، دعا الشايب إلى "تنسيب الأمور"؛ لأن هذه
الرسالة التي تؤكد انتماء سعيد إلى التيار الوطني العروبي الإسلامي "المحافظ
المعتدل" يمكن تفسيرها بوجود إرادة في تقديم "مساندة نقدية للمرحلة
البورقيبية.. دون السقوط في شيطنة كل الذين عملوا مع بورقيبة أو كامل المرحلة
البورقيبة التي كانت حاسمة في بناء الدولة الوطنية الحديثة، مهما كان فيها من ثغرات،
أو مرحلة خليفته بن علي ".
ولم يستبعد لطفي الشايبي أن يكون تعيين الحشاني "مجاملة
للعروبيين والقوميين في تونس.. دون أن يعني ذلك الانخراط الكامل في مشروعهم وأجندتهم
وأولوياتهم".
التيار العروبي وشركاؤه
في سياق متصل، نوه المؤرخ والمفكر عبد الجليل التميمي في تصريح لـ
"عربي21"، بتعيين أحمد حشاني نجل الضابط المعارض سابقا صالح حشاني رئيسا
للحكومة، واعتبره "مبادرة إيجابية جدا" من الرئيس قيس سعيد في هذه
المرحلة التي تحتاج فيها البلاد إلى كل كفاءاتها للخروج من أزماتها المتراكمة، بدءا
وإلى تحقيق مصالحة مع كل الوطنيين والعروبيين والليبيراليين الحداثيين الذين
شاركوا في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، ثم في بناء الدولة الحديثة، لاسيما إذا
كانوا من ذوي الخبرة الاقتصادية، مثل أحمد الحشاني، الذي قضى أكثر من ثلاثين عاما من
حياته المهنية في البنك المركزي .
عبد الجليل التميمي
سياسيون وعسكريون من كل التيارات
في المقابل، نوه المؤرخ والمفكر محمد ضيف الله، الذي سبق له أن أصدر
دراسات علمية وكتبا مع مجموعة من المؤرخين التونسيين حول المعارضات السياسية
والمسلحة في تونس ما بين 1955 و2011، في تصريح لـ "عربي21"، بـ"تعدد
الألوان السياسية والمرجعيات الفكرية والثقافية والأيديولوجية للمعارضة "اليوسفية"
وللمجموعة المسلحة التي حاولت تنظيم انقلاب موفى 1962.
وأكد ضيف الله في حواره مع
"عربي21" بكون بعض قيادات هذه
المحاولة الانقلابية الفاشلة كانوا "قوميين وعروبيين"، لكن البعض الآخر
كان من بين كوادر الحزب الدستوري الذي يتزعمه بورقيبة والدولة، بينهم زعيم
المحاولة الأزهر الشرايطي، الذي كان تزعم المقاومة المسلحة ضد فرنسا قبل 1955، لكنه
انتمى بعد ذلك إلى اللجان التي حاربت "المنشقين اليوسفيين"، وهو ما جعل
بورقيبة يقربه ويعينه مسؤولا عن الأمن الرئاسي وعن مؤسسات عليا في الدولة .
محمد ضيف الله
كما استدل المؤرخ محمد ضيف الله بكون بعض قادة المحاولة الانقلابية
ليبيراليين و"فرنكفونيين" وليسوا قوميين أو يوسفيين. بل من بينهم من
سبق له أن عمل في الجيش الفرنسي مثل عبد الصادق بن سعيد، وهو أصيل منطقة قبلي في
الجنوب التونسي ونجل " للقايد سعيد بن نصر" .
وقد تخرج عبد الصادق بن سعيد من المدرسة الحربية الفرنسي "سان
سير" قبل الاستقلال، وتولى ما بين 1954 و1955 الإشراف على الفريق الأمني
المكلف بحماية "المقيم العام الفرنسي بيار بوايي دولاتور".
كما كان عدد من قادة "الحركة التصحيحية " لمحاولة 1962
عسكريين تخرجوا من مدارس عسكرية فرنسية بعد الاستقلال، كان بينهم الضابط الليبرالي
المنصف الماطري، الذي وافق بورقيبة على تخفيف عقوبته من الإعدام إلى السجن مدى
الحياة؛ لأنه ابن شقيق الرئيس الأول للحزب الدستوري الزعيم الوطني محمود الماطري،
الذي عينه بورقيبة وزيرا للصحة بعد الاستقلال .
ويدعم ضيف الله وجهة النظر التي تعتبر أن تعيين رئيس الحكومة الجديد أحمد
الحشاني قد يكون "رسالة مجاملة للقوميين والعروبيين"، لكنه في نفس الوقت
"لا يمكن أن يختزل في مثل هذه الرسالة؛ لأن المشاركين في حركة 1962 كانوا من
عدة تيارات فكرية وسياسية ".
المؤرخ الإنجليزي إيريك هوبسوان
إلا أن الأهم من "الرسائل الظرفية" حسبما أورده المؤرخ
والدبلوماسي سعيد بحيرة في حواره مع "عر"بي21، هو "المصالحة مع
التاريخ، وغلق ملفات لم تغلقها الحروب والمعارك السابقة، وفقا لنظرية المؤرخ الإنجليزي
إيريك هوبسوان Eric Hobsbown.
حسب هذا المؤرخ الإنجليزي، فإن الحرب العالمية الثانية نظمت لغلق
ملفات لم تحسمها الحرب العالمية الأولى، من بينها تقسيم تركة الإمبراطوريات القديمة، وإعادة رسم الخرائط، وبناء النظام الدولي الجديد.
واعتبر المؤرخ سعيد بحيرة أن "تونس شهدت خلافات وقضايا تاريخية
معقدة مثل كل البلدان. لكن بعض هذه الخلافات لم تحسم بعد، وبقيت معلقة، بين الأخذ والرد والتهدئة، من
بينها رد الاعتبار للوطنيين واليوسفيين، وتحقيق نوع من التوافق الجديد حول تقييم
المحاولة الانقلابية في 1962 بهدف طي صفحة الماضي؛ "لأن بعض القضايا لا تموت، ولا يمكن إحالته على الأرشيف إلا عندما تقع معالجتها بصفة موضوعية وبصفة توافقية
وبعقلية الإنصاف والمصالحة، وإعطاء الأولوية لقضايا المستقبل وليس لجراح الماضي.. ويمكن
أن يكون اختيار رئيس للحكومة شخصية سبق أن أعدم والده بعد حركة 1962 مبادرة
إيجابية في هذا الاتجاه "..
وفي ساعة متأخرة من مساء أمس الثلاثاء، قرر الرئيس التونسي قيس سعيد
إنهاء مهام رئيسة الحكومة نجلاء بودن، وتعيين أحمد الحشاني خلفا لها.
ولم يذكر بيان صادر عن رئاسة الجمهورية أسباب إقالة بودن، التي تولت
رئاسة الحكومة عقب إعلان إجراءات 25 يوليو/ تموز 2021 من جانب سعيد.
وأوضح البيان أن "سعيّد أشرف مساء اليوم بقصر قرطاج، على موكب
أداء اليمين من قبل أحمد الحشاني، رئيساً للحكومة".
والحناشي من كوادر البنك المركزي، وشغل رتبة مدير عام قبل أن يتقاعد،
ويأتي تغيير بودن وسط أزمة اقتصادية متصاعدة تشهدها تونس منذ شهور.
اقرأ أيضا: معاد للإسلام السياسي.. من هو رئيس الحكومة التونسي الجديد أحمد الحشاني؟