كنا خمسة أشخاص.. كلنا طبيعيون وعاديون إلا واحدا فقط..

ونحن في ضيافة دولتنا العادلة والقوية.. كنت أتساءل: لماذا يميل الإنسان إلى الانحراف بالسلطة كلما توفرت له الفرصة؟.. لماذا يلجأ الحاكم إلى الظلم والتشفي والتلذذ بسجن الخصوم، والتنكيل بهم، والتضييق عليهم، كلما تمكن من الحكم؟.. وأهم سؤال راودني: لماذا وصلنا إلى هذا الوضع العبثي والعدمي، حيث تلاشى كل شيء؟.. الثورة تلاشت.. والحرية تلاشت.. والديمقراطية تلاشت.. وفرصة تحقيق تونس التي نحلم بها تلاشت..

أسئلة كثيرة لم أجد لها جوابا، فقررت أن أتأقلم مع اللحظة، وأدفع عني هذه الأفكار الدسمة والمرهقة.. وسلاحي الوحيد في وضعية التأقلم، هو الهدوء والابتسامة.. كنا خمسة أشخاص.. كلنا طبيعيون وعاديون إلا واحدا فقط.. ويقينا بلا استثناء، كلنا غير مذنبين وغير مجرمين.. الخطأ الوحيد الذي اقترفناه، أننا قلنا لا..

انتهت رحلة العوينة، وذهبنا إلى قصر الضيافة في بوشوشة.. للأمانة المعاملة كانت في كنف الاحترام، ربما لإدراكهم أن ما يقومون به هو ضرب من ضروب العبث الوقتي، الذي لا طائل منه سوى شفاء غليل رغبة شخصية ونزعة ذاتية، تحوم حول الانتقام من كل شيء وتدمير كل شيء..

أول ما قمنا به في غرفة الإيقاف، هو تغيير هيئتها.. وفي مزاح مع أحدهم، قلت له: على الأقل الآن هناك سبب لاعتقالنا.. فتغيير هيئة غرفة الإيقاف في دولة التعليمات وفي نظام فردي كلياني ليس بالأمر الهيّن..

وفي إطار التهيئة الجديدة، خصصنا الجانب الأيمن ليكون غرفة نوم تسعنا جميعاً، وقبالة هذه الغرفة (الوهمية) دشنّا مصلى صغيرا وبجانبه قاعة جلوس مريحة لتحتضن كل النقاشات والحوارات.. وما تبقّى من الأثاث الأنيق والفخم قمت بوضعه بجانب غرفة النوم لتشكيل حاجز ضد الهواء.. وخلدنا جميعاً إلى النوم..

استيقظت بعد مدة لست أدري طويلة كانت أم قصيرة.. فشعورك بالوقت والزمن في ذلك المكان، منعدم تماما..

فتحت عيناي بتثاقل، فوجدت الشيخ راشد قد قام بتحويل الحاجز الهوائي من آخر الغرفة، ووضعه في المنتصف وطفق يدور حوله وهو يحرك يديه وقدميه.. والتفت إليّ ضاحكاً وقال: أضفت قاعة رياضة للغرفة..

حين أفكر في تلك اللحظات الآن، أشعر أن ذلك التغيير البسيط والتافه الذي قمنا به، قد هوّن علينا قليلا وطأة الاعتقال، حيث كسر نمطية ورتابة ورداءة المكان..

قول شهادة حق في شخص الشيخ راشد.. وبقطع النظر عن قبولك أو رفضك لقناعاته الفكرية وممارساته السياسية.. الرجل يبقى من أهم وأقوى الشخصيات السياسية التونسية.. رجل خاض غمار السياسة من منطلق فكر ورؤية ومشروع.. أشاع مفهوم الحرية والديمقراطية في الأوساط الإسلامية.. وله علاقات واسعة ومتينة مع مختلف رجالات العلم والفلسفة والسياسة في مختلف أنحاء العالم

على الأقل قمنا بوضع بصمتنا الخاصة وأضفنا رؤية جديدة، عكس هذا النظام تماماً.. الذي لم يضف أي شيء سوى عدد المعتقلين السياسيين.. وعدد المواطنين البائسين اليائسين.. فضلاً عن إضافته أزمات ومشاكل جديدة للبلاد والعباد.. فطوابير الخبز في كل مكان، أبسط أساسيات العيش مفقودة ومقطوعة، الماء غير متوفر، الكهرباء غير متوفرة، والحكومة أيضاً غير متوفرة، كل شيء يسير إلى الوراء بسرعة كبيرة.. لا أعرف إلى أين نذهب، فكل ما أعرفه أن بواعث اليأس تحدق بنا من كل جانب في هذا البلد..

أثناء الإيقاف، قطعنا مسافات طويلة بين الفكر والفلسفة والأدب.. رسمنا خرائط جديدة وتنقلنا في عوالم خفية.. تحدثنا عن السيرة النبوية وتحديداً عن فتح مكة ودور الطلقاء في المستقبل القريب لدولة الإسلام الناشئة.. تحدثنا عن تأسيس عمر للدواوين وعن الفتنة الكبرى بين الصحابة.. تحدثنا عن كيفية تولي البيت المرواني حكم بني أمية وعن خلافة عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك.. تحدثنا عن أبي جعفر المنصور وكيف أطلق على عبد الرحمن الداخل لقب صقر قريش.. تحدثنا عن هارون الرشيد وعن الأمين والمأمون والمعتصم وعن الإمام أحمد بن حنبل وفتنة خلق القرآن.. تحدثنا عن التتار وعن الفرس والروم.. تحدثنا عن إبراهيم بن الأغلب وعن يوسف بن تاشفين وعن محمد بن تومرت وعن أبو زكرياء الحفصي.. تحدثنا عن الأندلس وعن قرطبة وإشبيلية.. تحدثنا عن الفتنة الباشية الحسينية في تونس، وعن مذبحة القلعة في مصر، وعن حادثة قاعة الخلد في العراق.. تحدثنا عن مجازر الاحتلال الغربي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.. تحدثنا عن كل ما له علاقة بالسياسة، إلا الانقلاب، لأنه لا يرتقي إلى أهمية هذه الأحداث والأسماء..

أذكر كل هذا، وبعد كل هذه المدة.. لقول شهادة حق في شخص الشيخ راشد.. وبقطع النظر عن قبولك أو رفضك لقناعاته الفكرية وممارساته السياسية.. الرجل يبقى من أهم وأقوى الشخصيات السياسية التونسية.. رجل خاض غمار السياسة من منطلق فكر ورؤية ومشروع.. أشاع مفهوم الحرية والديمقراطية في الأوساط الإسلامية.. وله علاقات واسعة ومتينة مع مختلف رجالات العلم والفلسفة والسياسة في مختلف أنحاء العالم.. ما يُحسب للغنوشي أنه يمتلك زوايا نظر أبعد وأعمق من زوايا نظر خصومه أفرادا وجماعات.. يقينا، له زلات عديدة وأخطاء كثيرة.. ويقينا أيضاً، له أصدقاء أوفياء وأعداء ألدّاء.. وهذا شأن كل رجل يمتهن السياسة.. لكن هذا لا ينفي ولا يحجب قيمته الثابتة ودوره الفعال، في بناء فكرة الحرية والديمقراطية في الفكر الإسلامي المعاصر..

من العيب والعار على أي نظام حاكم، أن يعتقل أصحاب الرأي والفكر.. بلا جرم ولا جريرة.. ما يحصل في البلاد الآن مهزلة مكتملة الأركان.. أصبحنا نعيش في بقايا وطن، يطرد أبناءه كل يوم في قوارب الموت عبر المتوسط.. وطن بلا أمل.. بلا فرحة.. بلا كرامة.. بلا حرية.. وبلا خبز..

تعرفت على الغنوشي من خلاله كتبه ومن خلال معاصرته ومقابلته، فوجدته شخصاً صاحب حكمة وطرفة ورحابة صدر كبيرة.. لم أسمعه يوما، يسب أحداً.. أو يشتم أحداً.. أو يستصغر ويستنقص من شأن أحد.. دائما يدعوك للتعلم والتفكر والتدبر.. والصبر والمصابرة.. دائما ما يذكرك بالله، ويزرع فيك القيمة والمعنى والمبدأ..

كان طيلة فترة الإيقاف صابرا محتسبا ضاحكاً.. واثقاً أن عمره أطول من عمر خصومه.. مردداً أن ما يفعله هذا النظام معه، لن يزيد عن كونه يقربه من لقاء الله..

حتماً، بعد مائة عام من الآن، لن يذكر التاريخ من قام بسجن الغنوشي.. وسيذكر الغنوشي، وكتب الغنوشي، ومناقب الغنوشي..

من العيب والعار على أي نظام حاكم، أن يعتقل أصحاب الرأي والفكر.. بلا جرم ولا جريرة.. ما يحصل في البلاد الآن مهزلة مكتملة الأركان.. أصبحنا نعيش في بقايا وطن، يطرد أبناءه كل يوم في قوارب الموت عبر المتوسط.. وطن بلا أمل.. بلا فرحة.. بلا كرامة.. بلا حرية.. وبلا خبز..

يقيناً بالله تعالى، سيفك الله بالعز أسر جميع المعتقلين السياسيين.. وستعود تونس حرة ديمقراطية..