إنشاء الطرق والكباري له أهداف أمنية
هناك نخبة مصرية "تستعرّ" من أصولها
النموذج المهيمن على النخب السياسية والاقتصادية هو التأثر بنموذج دبي
العاصمة الإدارية تحاكي قصر فرساي الذي بناه لويس 14 لينأى بنفسه عن باريس وشعبها
ما يجري
داخل القاهرة التاريخية هو تشويه وليس تطويرا.. بهذه الكلمات وصف المؤرخ والأكاديمي
المصري،
خالد فهمي، عمليات الإزالة والهدم التي تجري على قدم وساق في العديد من المناطق
التاريخية القديمة بالعاصمة المصرية بدعوى إقامة جسور وطرق جديدة تربط أواصر العاصمة
الكبيرة المترامية الأطراف.
وقدم
فهمي، الذي يعمل أستاذا لتاريخ الشرق الأوسط الحديث بجامعة تافتس الأمريكية، في حوار
صحفي مع "عربي21" رؤيته الخاصة للغرض من بناء الكباري وإنشاء الطرق في كل
أحياء القاهرة وأنحاء البلاد، والتي تنطلق من زاوية أمنية بحتة تخالف الرواية الرسمية
التي تقوم على تسهيل حركة المرور، ولكنها في الحقيقة تسهل من تشديد القبضة الأمنية
على المدينة من خلال إمكانية وصول القوات الأمنية إلى أي نقطة.
يعتقد
المؤرخ المصري حيث ينصب اهتمامه على التاريخ الاجتماعي والثقافي للشرق الأوسط الحديث،
خاصة تاريخ القانون والطب والجيش والشرطة في مصر طوال القرن التاسع عشر، أن مشروع تحديث
أو تطوير القاهرة خلا من أهم ركيزتين وهما الاهتمام بالصحة والتعليم، وبالتالي أصبح
مثل الحفر في الرمال على شاطئ البحر دون جدوى.
ورأى
فهمي أن فكرة العاصمة الإدارية الجديدة هي محاكاة لفكرة بناء قصر فرساي في فرنسا في
القرن الـ17 عشر عندما نقل الملك لويس الـ 14 مقر الحكم خارج باريس للنأي بنفسه عن
المدينة والشعب والعامة وجمع حوله طبقة من النخبة، ولكن التجربة لم تدم طويلا.
وتاليا
نص الحوار:
مرت
عصور مختلفة على العاصمة المصرية القاهرة، وشهدت قيام دول وسقوط دول بثقافات وديانات
ولغات مختلفة.. برأيكم كيف استطاعت الجمع بين كل ذلك في وحدة تاريخية متجانسة، وحافظت
على مكانتها؟
تاريخ
القاهرة مرتبط بشكل وثيق بتاريخ مصر نفسها، يطلق عليها مصر أو مصر المحروسة لأنها كانت
مركز الحكم لآلاف السنين، وكان نفوذها يمتد بحسب قوة الدولة المركزية، إذا كانت الدولة
قوية يصل نفوذ المدينة إلى أبعد نقطة، والعكس.
ظلت
القاهرة عصب ومركز الحياة الاقتصادية والثقافية والدينية والأدبية في الإقليم العام
الذي نطلق عليه مصر بشكل يطغى على المدن الأخرى الشهيرة، وتأثيرها قوي جدا، وهناك علاقة
مهمة يجب الإشارة إليها وهي علاقة (الأخذ والعطاء) بين الحاكم أو الدولة والشعب أو
المحكومين خاصة في حيز القاهرة، حتى في العصور الحديثة وما قبلها.
السيطرة
على القاهرة كانت تعني حكم مصر، كما أنها كانت مركزا للصراع بين الحاكم والمحكومين..
كيف كان ذلك؟
سور
القاهرة الذي بناه الحاكم صلاح الدين الأيوبي (582هـ/1176م) حول الفسطاط والقاهرة الفاطمية
يقال إنه بناه لحماية العاصمة من الأخطار الخارجية وتحديدا من الصليبيين، لكن القراءة
الحديثة تقول العكس؛ إن هذا السور حول القلعة (مركز الحكم) هو لحماية النظام من المحكومين
الأهالي، واستمر هذا الوضع حتى حكم محمد علي باشا في القرن الـ 19، الحاكم طوال الوقت
كان يقبع في الأعلى، والشعب يعيش أسفلها، ويصعد إلى أعلى عندما يريد أن يوصل رسالة
إلى الحاكم، وأحيانا كان الحاكم يغلق على نفسه أسوار القلعة ويضرب المدينة بالمدافع.
عندما
نتحدث عن القاهرة نتحدث عن مستويات مختلفة وعديدة من التاريخ: القاهرة كمقر للحكم،
وكمركز ثقافي وديني وفني أيضا، والقاهرة كمركز صراع بين الحاكم والمحكومين والأهالي.
ما نراه في العاصمة الإدارية الجديدة هو قلعة جديدة لحماية النظام لكن بشكل مرتبك.
كيف
تغير مفهوم طريقة الحكم في القاهرة التي كانت مركزا للحكم ومركزا للصراع؟
في القرن
الـ 19 حدث تحول مهم في حكم مصر؛ ألا وهو نزول الحاكم من القلعة إلى الحكم من قصر عابدين
بقلب القاهرة. حدث هذا، في عهد الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر ما بين عامي (1863م –
1879م).
هذا
التحول ليس في طريقة الحياة إنما في فلسفة الحكم، الحاكم يترك المكان الآمن المرتفع
وينزل بقصره إلى المدينة، ورمزية هذا التحول كاشفة عن منطق جديد للحكم، هنا الحكم والسياسة
ليس بالضرب من أعلى القلعة إنما بالتحكم في الأمن بنظام أمني بوليسي يحمي أمن الحاكم
وأمن المجمتع في الوقت نفسه.
هل ما
يحدث الآن من بناء عاصمة جديدة في منطقة صحراوية هو ردة على فلسفة الحكم من بين الناس
ومن قلب القاهرة؟
ما نراه
الآن هو ردة على هذا المنطق الأمني السياسي الحديث الذي واكب نزول الخديوي إسماعيل
من القلعة لعابدين، نرى الحاكم بعد ثورة 2011 يخاف من المدينة ويقرر أنه لن يكون في
مأمن إلا إذا ترك المدينة برمتها، هنا يظهر نموذج مغاير، وهو أقرب إلى نموذج فرساي
في باريس (القرن الـ17 ميلادي)، فرساي لم يكن قصرا فحسب خارج باريس بل مدينة بكاملها
بناه الملك لويس الـ 14 وكانت لتكون مقرا للحكم المطلق الجديد خارج باريس، ونأى بنفسه
عن المدينة وشعبها، ولكن مقر الحكم الجديد لم يلبث كثيرا حتى قامت ثورة في عهد لويس
الـ 16 من باريس القديمة وتم إعدامه، هذا النموذج ليس ناجعا إلا لبعض الوقت.
منذ
تغير فلسفة الحكم في القرن الـ19 تغيرت ملامح القاهرة الفاطمية إلى القاهرة الخديوية،
هل فرض التطور انطلاقا وانفصالا بين القاهرتين؟
القصة
تقول إن الخديوي إسماعيل كان مبهورا بباريس بعد زيارته لها للمرة الثانية عام 1867
وانتهز الفرصة لتوجيه دعوة لملوك وأمراء أوروبا لحضور حفل افتتاح قناة السويس 1869،
ويقال إنه كان يريد أن تصبح القاهرة باريس، ويحاكي باريس في جمالها وتخطيطها العمراني،
ولم يكن لديه الوقت الكافي لإعادة تخطيط المدينة بكاملها، فترك القاهرة القديمة (الفاطمية)،
وبنى في غربها مدينة جديدة وهي وسط البلد أو القاهرة الخديوية، وحدث نتيجة لذلك ثنائية
بين القاهرة الفاطمية والقاهرة الجديدة، القاهرة الفاطمية بأسبلتها وجوامعها القديمة
وطرقها الضيقة والمتعرجة، والقاهرة الحديثة بشوارعها العريضة والمستقيمة والطراز المعماري
الحديث، لكن في رأيي هذه الثنائية لم تكن كذلك بهذا التباعد والتنافر.
هل التطور
والتحول من القاهرة الفاطمية إلى القاهرة الخديوية يشبه ما يجري الآن بالقاهرة؟ وما
الاختلاف؟
القاهرة
الفاطمية لم تهمل ولم تترك ترزح تحت أعباء زيادة السكان والأمراض والفقر كما يعتقد
البعض، بل كان هناك اهتمام بالغ بالصحة والتعليم. صحيح أننا لم نر طرقا جديدة ولا أبنية
حديثة، لكن هذا ليس المعيار الوحيد لقياس تمدن المدينة واهتمام الحاكم بها، ماذا يريد
سكان القاهرة؟ يريدون فرص العمل وخدمات مثل الصحة والتعليم، وكدارس لتاريخ الصحة في
القرن الـ 19 أكاد أجزم أن صحة الأهالي في القاهرة القديمة تحسنت وارتقت لأن الدولة
لم تهمل هذا الشق من المدينة، بل وفتحت مكاتب صحية مجانية، وتم القضاء على أوبئة وأمراض
كثيرة مثل الجدري والطاعون والكوليرا في كل أحياء القاهرة. هذا الإنجاز لا يمكن رؤيته
على الخريطة لأنه ليس له معالم بصرية، وتم أيضا افتتاح أقسام بوليس لحماية البلد، بالتالي
لم تهمل المدينة القديمة بأي حال من الأحوال، كان هناك توازن بين القاهرة الفاطمية
والقاهرة الخديوية.
لكن
ما نراه الآن يختلف تماما عما كان يجري في القرن الـ 19، ما نراه الآن هو إهمال لحاجات
الناس الحيوية في المدينة القديمة للمدينة الحقيقية وإهمال للخدمات الأساسية، والاهتمام
منصب فقط على الطرق والكباري.
من ملامح
"الجمهورية الجديدة" شق الطرق الجديدة وبناء الكباري الضخمة لتسهيل الحركة..
ولكنه يأتي على حساب مناطق تصنف على أنها تاريخية وتراثية.. هل يبرر ذلك هدمها؟ وهل
يتعارض إنشاء الجمهورية الجديدة مع التراث القديم؟
يمكن
النظر للطرق والكباري على أنها تعمل على تشجيع الاتصال بين السكان. ولكن أيضا يمكن
النظر إليها كوسيلة من وسائل احتجاز الناس وقطع التواصل بين بعضها بعضا، وكلنا نرى كيف
تم اختراق أحياء القاهرة بالطرق والكباري التي شوهت الأحياء سواء التاريخية أو الحديثة،
وقطعت الأواصر بين الأحياء. ويمكن أيضا النظر لهذه الطرق والكباري على أنها تمكن السلطات
من استخدامها لنشر قوات الأمن والوصول إلى أي نقطة احتجاج بأسرع وقت ممكن.
قراءتي
الشخصية أن الغرض من بناء هذه الكباري هو غرض أمني بحت، بالإضافة لقطع أواصر الترابط
الاجتماعي والمجتمعي الذي يجمع الناس، من ناحية والوصول بالقوات الأمنية إلى أصغر حارة
وتدمير هذه الأزقة أو الشوارع والحارات في الحال لمنع أي حراك شعبي.
هل هناك
علاقة بين طبيعة النظام العسكري وبين عدم إدراك مغبة ما يجري من عمليات هدم وإزالة
سواء لأبنية تراثية أو معالم أو رموز ثقافية وأدبية وفنية وسياسية حديثة؟ أم أن هناك
أسبابا أخرى تدفعهم للتعامل باستخفاف مع هذه المعالم والرموز؟
لا أرى
علاقة بين طبيعة النظام العسكري وبين ما يجري من عمليات هدم وتدمير وإزالة، المشكلة
أعقد من ذلك وأعمق، لدينا مجموعة عوامل متكتلة في لحظة تجعل مدينتنا مهددة، أولها منطق
السوق؛ أي طغيان المنطق الرأسمالي وهو موجود في كل مكان في العالم. هذا المنطق الذي ينظر إلى أي شيء على أنه سلعة بغض النظر
عن تاريخه وقيمته.
الأمر
الثاني، النموذج المهيمن على النخب السياسية والاقتصادية هو التأثر بنموذج دبي التي
ينظر إليها على أنها مثال التطور، والقاهرة لا يمكن أن تكون مثل دبي إلا إذا دمرناها
بالكامل، ويا ليتهم بنوا العاصمة الإدارية الجديدة على نمط دبي وتركوا لنا القاهرة
على حالها.
الأمر
الثالث، هذه النخبة رغم فهمها لأهمية التراث والأبنية الأثرية والتراثية في القاهرة
التي نشأوا فيها، لكن على أحسن الفروض، ترى أن قيمتها التجارية أفضل من قيمتها الأثرية؛
وعلى أسوأ الفروض، فيمكن القول إن هذه النخب تشعر بالعار من أصولها، وهو ما أرجحه،
فجزء من الطبقة الحاكمة التي تعود أصولها إلى مناطق قديمة بالقاهرة مثل الجمالية والسيدة
زينب وعابدين تريد التبرؤ من هذه الأصول، ولديها شعور بالغل والمرارة تجاه تلك المناطق
وهذه طامة كبرى.
هل نحن
إذن أمام آلة هدم لكل ما هو أثري وتاريخي على حساب العوامل الثلاثة الأخيرة، وهل من
سبيل لوقفها ودحرها والحفاظ على ما تبقى؟
نعم،
لذلك نجد الكباري والطرق تمر فوق مناطق تراثية وأثرية وتدمرها ولا يعتد بالاعتراض والاحتجاج،
لذلك فهي أزمة مستحكمة، عندما حدث ما يشبه هذا الأمر في إنجلترا في القرن الـ19 في
أوج الثورة الصناعية بعد أن تعرضت إلى هجمة مماثلة وطغت لغة البيزنس وتمت عمليات تدمير
واسعة للقصور القديمة والمباني التراثية وللحدائق والريف الإنجليزي، وقف مواطنون عاديون
أمام هذا المشهد العبثي وبدأوا في تشكيل جمعيات أهلية من الأهالي اشتهرت منها جمعيتان؛
مؤسسة التراث القومي أو "National Trust" وهيئة التراث الإنجليزي
"English Heritage".
وبالفعل،
نجحتا في الحفاظ على الأبنية التراثية والتاريخية وحولت العديد منها إلى مزارات سياحية،
وفي الوقت نفسه حافظ الملاك الرئيسيون على أملاكهم، المشكلة في مصر أنه ليس لدينا إمكانية
فعل ذلك لأنه غير مسموح بإنشاء جمعية لهذا الغرض تعارض توجهات النظام، إذا كان الأمن
لا يسمح بوجود تجمع لأكثر من عدة أشخاص فهل يسمح بإنشاء مثل تلك الجمعيات؟
الحكومة المصرية باعت القضية، والسوق منطقها الطاغي،
ونموذج دبي براق، ولدينا نخب تستعر من أصولها، البديل والسبيل للوقوف أمام هذه الموجة
الطاغية هو إنشاء جمعيات مجتمع مدني قوي، وهو ما نفتقده. هذه ليست أزمة القاهرة بل
أزمة البلد بأسرها وأزمة نظام الحكم فيها.