طالعنا الإعلام في الأسابيع الأخيرة حول حرص أمريكي على التقدم في مسار
التطبيع بين المملكة العربية
السعودية والسلطات الإسرائيلية، مع إشارات لما تُريده
المملكة أو قُل القيادة الحالية هناك من هكذا تطبيع، لتضع ثلاثة مطالب أساسية، وهي
برنامج نووي سلمي سعودي، واتفاق دفاع مشترك سعودي أمريكي كمثل دول الناتو أو شبيهٍ
به، والحصول على أسلحة أمريكية متقدمة. وكان هناك حديث عن مطالب محددة من طرف السعودية
تدور حول "تنازلات" من الطرف الإسرائيلي بما يخص القضية
الفلسطينية.
توماس فريدمان، الصحفي الأمريكي في صحيفة نيويورك تايمز والمعروف بقربه من
صنّاع القرار في الولايات المتحدة، أشار إلى مطالب أمريكية مرتبطة بإنهاء الحرب في
اليمن، وابتعاد السعودية عن الصين، ومساعدات سعودية للفلسطينيين. أسعى من خلال هذا
المقال لقراءة ملف التطبيع من خلال عدسات الوضع الداخلي والدولي لكل من الولايات
المتحدة وإسرائيل والسعودية والسلطة الفلسطينية.
يبدو من المشهد القائم في المنطقة أن السعودية تسعى لتثبيت دورها كقوة
إقليمية في المنطقة، مع نقطة انطلاق محلية مرتبطة بتعزيز اقتصادها المحلي ومظاهر
قوتها الخشنة (والناعمة). السياسة السعودية الحالية تسعى لتصفير مشاكلها، وتوسيع
دائرة تحالفاتها والاستفادة من التناقضات الدولية القائمة لتعزيز حضورها ومكاسبها
الدولية. وهذا الظاهر للمراقبين حتى الآن، ويبدو أن هذا يختلف عن بداية فترة الملك
الحالي وولي عهده، وكانت في حينه السياسات غير واضحة. كل هذا بالطبع لا ينفي خطوات
النظام في السعودية لتثبيت أركان حكمه، كما شهدنا من خلال الاعتقالات التي طالت
قيادات دعوية وفكرية، وتقييد للحريات التي يمكن أن تراها السلطات مهددة لها.
تضخيم سعودي للدور الإسرائيلي وإمكانية الاستفادة منه، ولو كان ذلك على حساب قضية عادلة وأخلاقية هي القضية الفلسطينية. ففي الملف الاقتصادي يمكن لحالة تنويع مصادر الدخل وعقد الصفقات التجارية وتعزيز العلاقات مع الصين وغيرها النهوض بالاقتصاد السعودي، كما أن الحالة الاقتصادية العالمية تُعطي أفضلية للسعودية في الاستفادة وعقد صفقات تجارية مع الدول المختلفة، خصوصاً مع الأزمات التي خرجت بها الدول المختلفة إثر حرب أوكرانيا وجائحة كورونا
مع التأكيد على البُعد القيمي والأخلاقي، ناهيك عن الديني والقومي الذي
رافق لسنوات الموقف في العالم العربي تجاه القضية الفلسطينية، يبدو أن القيادة
السعودية الحالية (أو بعضها) ترى أن هناك اعتبارات أخرى دولية، براجماتية ومنفعية،
يجب إدخالها في معادلة التعامل مع الملف الفلسطيني والتطبيع مع إسرائيل، وهي
اعتبارات اقتصادية وأمنية متصلة بريادة المنطقة مع أُفق لانخراط أكبر في الخارطة
الدولية.
ولكن يبدو أن هذه الحسابات ليست بالضرورة دقيقة، أو على الأقل لا تتناغم مع
الأهداف المرجوة سعودياً من ريادة وتقدم اقتصادي وضمان لأمنها. وهذا نابع من تضخيم
سعودي للدور الإسرائيلي وإمكانية الاستفادة منه، ولو كان ذلك على حساب قضية عادلة
وأخلاقية هي القضية الفلسطينية. ففي الملف الاقتصادي يمكن لحالة تنويع مصادر الدخل
وعقد الصفقات التجارية وتعزيز العلاقات مع الصين وغيرها النهوض بالاقتصاد السعودي،
كما أن الحالة الاقتصادية العالمية تُعطي أفضلية للسعودية في الاستفادة وعقد صفقات
تجارية مع الدول المختلفة، خصوصاً مع الأزمات التي خرجت بها الدول المختلفة إثر
حرب أوكرانيا وجائحة كورونا، ويبدو أن ملف التطبيع مع إسرائيل لن تكون له أي
مساهمة مركزية في هذا السياق.
في الملف الأمني ومع مطلب السعودية بمظلة أمنية أمريكية، يمكن الاستعاضة عن
كل ذلك من خلال إعادة ترتيب العلاقات بالمنطقة وتصفير المشاكل مع الجيران، كما
تقوم بذلك السعودية الآن من خلال إعادة ترتيب علاقتها مع إيران، مع العلم أن
الأخيرة تحتاج للسعودية وأموالها، كما أن توسيع علاقات السعودية مع الصين وروسيا
يمكن أن يشكل حاضنة للسعودية، ومحفزاً أمريكياً لتقديم مزيد من الدعم العسكري
الأمريكي من أجل ثنيها عن توسيع علاقتها مع الدول الكبرى الأخرى التي تنافس
الولايات المتحدة. ويشكّل ذلك نقطة ضغط سعودية يمكن أن تستخدمها في وجه الإدارة
الأمريكية لتحصل على مظلة أمنية وقدرات عسكرية دون اللجوء للتطبيع.
التوق السعودي لاعتراف أمريكي ليس بالضرورة مشفوعاً بالاعتراف بإسرائيل،
والذي هو مصلحة إسرائيلية وكذلك أمريكية لمكاسب انتخابية وسياسية، بل بمدى قدرة
النظام في السعودية على إثبات حضوره وفرض أوراق قوته في المنطقة، والذي سيجبر الولايات
المتحدة للتعامل معه، علماً أن تلويح الولايات المتحدة بملف انتهاك السعودية لحقوق
الإنسان هو ورقة مساومة لا أكثر، ناهيك عن أن حالة التصالح مع الشعوب العربية
ومطالبها من خلال خطوات عملية في هذا الاتجاه؛ تترجم في الاستماع لرأي الشارع في
العالم العربي وفتح الأبواب للتعبير عن هويته وقيمه وتطلعاته، ويمكن أن يكون هو الآخر
نقطة دفع قوية لتعزيز مكانة ودور السعودية. وهنا أنا أتكلم بصيغة المحُلّل الذي
يرى المشهد الموجود في المنطقة كما هو قائم الآن.
التوق السعودي لاعتراف أمريكي ليس بالضرورة مشفوعاً بالاعتراف بإسرائيل، والذي هو مصلحة إسرائيلية وكذلك أمريكية لمكاسب انتخابية وسياسية، بل بمدى قدرة النظام في السعودية على إثبات حضوره وفرض أوراق قوته في المنطقة، والذي سيجبر الولايات المتحدة للتعامل معه، علماً أن تلويح الولايات المتحدة بملف انتهاك السعودية لحقوق الإنسان هو ورقة مساومة لا أكثر
على ضوء هذا المشهد، يبدو السياق الإسرائيلي أكثر قتامة في ظل وجود قيادة
يمينية متطرفة تسيطر على المنظومة الحكومية الإسرائيلية ولديها معتقدات دينية
وقومية مرتبطة بالسيطرة على أراضي ومقدسات الفلسطينيين، مما يعزز رفض أي سياق
"للتنازل" وإرجاع بعض حق الفلسطينيين أو الكف عن بعض السياسات الاستيطانية
والتوسعية الاستعمارية.
داخلياً، تمر الحلبة السياسية والشعبية الإسرائيلية بحالة من الانقسام
السياسي الواضح والتشظي بين أفرادها، كما تترجم ذلك من خلال التغييرات القضائية
التي تسعى حكومة نتنياهو للقيام بها، مع بروز لأجندة دينية قومية تسعى من خلالها
التيارات الدينية والقومية لسن تشريعات تتساوق مع فكرها. حالة الانقسام
الإسرائيلي وغوص نتنياهو في حالة من النقد الدولي لإجراءاته، ناهيك عن تراجع
شعبيته وشعبية ائتلافه الحكومي، تجعل من قضية التطبيع مع السعودية ذات فائدة
تكتيكية واستراتيجية له ولإسرائيل.
على الصعيد الشخصي والحزبي، اتفاق كهذا سيعيد موضعة نتنياهو سياسياً وزيادة
قوته والكف عن النقد الدولي تجاه سياساته الداخلية، ولكن سيصطدم مسعى نتنياهو في
الوصول إلى هذا للتطبيع مع وجود التيار اليميني الديني القومي العقدي في ائتلافه
الحكومي ومعارضتهم لاتفاق تطبيع إذا ترافق مع تنازلات في القضية الفلسطينية خصوصاً
في قضايا الأرض، والاستيطان، والقدس والسيادة. وسيكون نتنياهو أمام ثلاثة
سيناريوهات؛ الأول أن تتضمن اتفاقية التطبيع تنازلات صورية مرتبطة بالقضية
الفلسطينية يمكن أن يتغاضى عنها تيار اليمين المتطرف في حكومته، الثاني تنازلات لن
يتغاضى عنها اليمين المتطرف وبالتالي سيحاول الدفع بالضغط على بعض أطراف المعارضة
القائمة حالياً بالانضمام لحكومته لتمرير مثل هكذا اتفاق، وهذا لن يتم بسهولة،
وسيكون بعد تمرير بعض التعديلات القضائية التي يسعى إليها نتنياهو والتوافق على
مصير بعضها.
وأخيراً، إذا لم يفلح في هذا وذاك سيكون أمام خيارين؛ سقوط حكومته والدخول
في انتخابات جديدة يقع في صلبها اتفاق التطبيع، أو الحفاظ على حكومته ومحاولة
المراوغة في ملف التطبيع والتقدم به بخطوات تدريجية يستفيد منها، من دون تنازلات
واضحة من طرفه.
استراتيجياً، اتفاق تطبيع كهذا يُعتبر مثل كامب ديفيد جديد، ويمكن أن يكون
أكثر أهمية وتأثيراً إذا ما ترافق مع حالة من التطبيع الدافئ وليس البارد كما كان
الحال في اتفاقيات التطبيع مع الأردن ومصر. وتنبع أهميته في كون السعودية تُمثل في
الوعي الجمعي العربي والإسلامي (إلى حد ما) الدولة المركزية ذات الثقل الديني
الكبير والتأثير على الدول الأخرى، ناهيك عن تأثيرها على القرار الفقهي الديني
الرسمي إذا ما اتجهت بمنحى التطبيع، وبالتالي قرار تطبيع كهذا سيُضعف القضية
الفلسطينية بشكل كبير (على الأقل في المستوى الرسمي) وسيصعب من نضال الفلسطينيين
لتحررهم. كما أنه سيُسمح لإسرائيل باستمرار توسعها من دون خشية من ردود الفعل،
وتصفية القضية الفلسطينية إقليمياً، لتصبح شأناً داخلياً فلسطينياً تُديره إسرائيل
بأدواتها ورؤيتها.
مثل هكذا قرار ليس بالسهل سعودياً ولن يتم في ظل ثقل هكذا قضية على الوعي
الشعبي، وكذلك مع خلافات سعودية داخلية حول ذلك كما رشح من الإعلام سابقاً، ويبقى
السؤال: هل سيستطيع ولي العهد السعودي حسم ذلك، وتكفيه المقايضات التي يسعى لها؟
أمريكياً، يمثل التقدم في ملف التطبيع مخرجاً لإدارة بايدن مع قرب الانتخابات
الرئاسية في الولايات المتحدة، ليُضاف إلى رصيده الانتخابي وحظوظه في الفوز، كما
أنه يُمثل حالة من إغلاق الدائرة بالنسبة لتطبيع وضع إسرائيل في المنطقة، وتحجيم
القضية الفلسطينية لتصبح قضية محلية محدودة لا تؤثر على مواقف الدول العربية في
المنطقة، ولتسمح لأمريكا لتدير تحالفاتها من جديد في مجابهة إيران وروسيا والصين.
الموقف الأمريكي هذا يسعى لمكاسب بمعزل عن تحقيق حل استراتيجي عادل في المنطقة.
أخيراً، فإن الحلقة الأضعف هم الفلسطينيون، وهنا نتحدث عن القيادة
الفلسطينية ومجمل الحركة الوطنية الفلسطينية، إذ تسعى السلطة الفلسطينية للحفاظ
على ذاتها وعلى وجودها كسلطة ولم تسعَ لتحصيل نقاط قوة في مجابهة مخططات الاحتلال
الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. هذا بالإضافة لحالة الانقسام الفلسطيني، وعدم
وجود رؤية فلسطينية وأدوات عمل واضحة يمكن من خلالها مجابهة الاحتلال والتحدث
للعالم من خلالها.
ويبدو أن حالة الترهل الفلسطيني والضعف، ناهيك عن تواضع الرد على التطبيع
العربي الذي كان في السنوات الأخيرة سيكون "محفزاً" للسعودية وغيرها
للولوج في هذا المسار. وإن كان في ملفات التطبيع السابقة، كان الفلسطينيون محيّدين
وتمت الاتفاقيات بين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان وإسرائيل، من دون دور فلسطيني
(في إشارة لتحييد الفلسطينيين وضعف تأثير قيادتهم)، فيبدو هذه المرة أن السلطة
الفلسطينية قد غيّرت من استراتيجيتها وتبدو ذاهبة "للتفاوض" مع
السعوديين وطرح بعض المطالب لتمثّل حالة من "مباركة" هذا التطبيع وفقاً
لهذه الشروط.
الادعاء أن قيادة السلطة الفلسطينية لا تملك خيارات أخرى وتريد العمل براجماتياً للاستفادة مما هو ممكن من التطبيع، الذي يمكن أن يكون فيها أو بدونها، هو ادعاء يدل على هشاشة هذه السلطة وضعفها وعدم قدرتها على تحريك وتدعيم ومركزة القضية الفلسطينية، وبالتالي تكمن الحاجة في العمل في هذا الجانب. وكل ما ذُكر يشير إلى الحاجة لترميم البيت الفلسطيني وتقويته ليكون قادراً على مجابهة خطوات الاحتلال الإسرائيلي
ويبدو هذا النهج خطيراً لكونه سيعيد تجزيء القضية الفلسطينية، وتفريغها من
محتواها التحرري، لتكون قضايا هنا وهناك، لن تقوم إسرائيل بالضرورة بالإيفاء فيها
(إن وافقت عليها أصلاً) وستقوم بتفريغها من محتواها، كما أنه يمكن أن يشكّل محفزاً
لدول أخرى للسير في ركب التطبيع وجعله كأنه أمر ممكن فلسطينياً. وفيما لو حصل
وباركت السلطة الفلسطينية هكذا اتفاق فسيمثل ضرباً للقضية الفلسطينية وللدعم العربي
والإسلامي والدولي لها، وحصرها بمطالب فلسطينية محدودة هنا وهناك، مقابل تنازلات عربية
وإسلامية تُقدم.
طبعاً الادعاء أن قيادة السلطة الفلسطينية لا تملك خيارات أخرى وتريد العمل
براجماتياً للاستفادة مما هو ممكن من التطبيع، الذي يمكن أن يكون فيها أو بدونها،
هو ادعاء يدل على هشاشة هذه السلطة وضعفها وعدم قدرتها على تحريك وتدعيم ومركزة
القضية الفلسطينية، وبالتالي تكمن الحاجة في العمل في هذا الجانب. وكل ما ذُكر
يشير إلى الحاجة لترميم البيت الفلسطيني وتقويته ليكون قادراً على مجابهة خطوات الاحتلال
الإسرائيلي، وتحقيق تطلعاته، والتحدث بثقة وقوة مع الأشقاء العرب والمسلمين.
بالمحصلة وتأكيداً على الفكرة الأولى، فإن القضية الفلسطينية هي قضية عادلة
وقضية تحرر وطني من الدرجة الأولى ومساندتها واجب قيمي وأخلاقي، ناهيك عن أنه وطني
وديني، ولكن وإذا ما أراد البعض تغليب لغة المقايضات والمصالح فيبدو أن هذا المنطق
سيبقى ضعيفاً، فالعالم بمصالحه وعلاقاته، سيبقى أكبر من تأثير الدور الإسرائيلي،
وإن كان موجوداً.