يميز الوجدان الشعبي
المصري بين "دعاء
الوالدين" و"دعا الوالدين"، مع أن الأخيرة تبدو عامية للأولى، إلا
أن المدلول مختلف تماماً، فالأولى خير، ولهذا يقال: "يا بركة دعاء
الوالدين"، لكن "دُعا الوالدين" سلبياً، ويتردد عند ارتباط كارثة
ثقيلة بإنسان فيكون التعليق: "وكأنه دُعا والدين"!
ويبدو أن خروج القوم من فضيحة إلى أخرى، كأنه استجابة لـ"دُعا
الوالدين" عليهم، ومن أزمة طائرة التهريب في زامبيا، إلى
رشوة رئيس لجنة
الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ
مينينديز والسيدة حرمه وصديقهما رجل الأعمال المسيحي "وائل حنا"، إنه سوء
الطالع الذي يحيط بهم، على نحو يجعلهم في ظلمات بعضها فوق بعض، إذ أخرج الواحد
منهم يده لم يكد يراها!
قصة الذهب:
من أزمة طائرة التهريب في زامبيا، إلى رشوة رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ مينينديز والسيدة حرمه وصديقهما رجل الأعمال المسيحي "وائل حنا"، إنه سوء الطالع الذي يحيط بهم، على نحو يجعلهم في ظلمات بعضها فوق بعض، إذ أخرج الواحد منهم يده لم يكد يراها!
عندما انتهت أزمة طائرة زامبيا بإخلاء سبيل من قامت
السلطات هناك بإلقاء القبض عليهم، تلقيت اتصالاً من صاحب تجربة، بأن الأمر لا يعدو
أن يكون سوى صفقة ذهب، وتسببت "العجرفة" في افتضاح أمرهم، لأنه كان
شاهداً على صفقة ذهب في بلد أفريقي أخرى، أراد رجل أعمال مصري يقيم في الولايات
المتحدة الأمريكية أن يستفيد من فرق السعر بين الذهب في أفريقيا وفي غيرها، واكتشف
الرجل أنه تعرض لعملية نصب، وأن الذهب "فالصو"، فنجا من
"الكمين" بأعجوبة بعد أن دفع ثلاثة آلاف دولار كإثبات جدية، ثم غادر
خائفاً يترقب!
فهل كانت الصفقة التي لم تتم في زامبيا هي قريبة الشبه
بهذه الحكاية، مع خلاف بطبيعة الحال بين صفقة أصحاب الطائرة، وهذا الشخص الفرد؟
وهل تفسر قضية السيناتور الأمريكي ما عجز المرء عن تفسيره وقتها؟!
عندما تم اقتحام منزل السيناتور سالف الذكر، تمثل دليل
جريمته في قيامه ببلاهة بالدخول على محرك البحث "جوجل" للوقوف على سعر كيلو الذهب،
فإذا في حوزته سبائك ذهبية، بجانب 480 ألف دولار، قالت قائمة الاتهام إنه حصل
عليها كرشوة من مصر، مقابل خدمات قدمها بحكم موقعه في الكونغرس، وبشكل مثل فضيحة
يتغنى بها الركبان!
المتهم بريء حتى تثبت إدانته، هذا صحيح، لكن اللافت هنا
أن بياناً بنفي الاتهام لم يصدر من الجانب المصري، وهو اتهام من "العيار
الثقيل" ولا يجوز الصمت حياله، لكن الصمت صار أسلوباً معتمداً، فبيان رسمي لم
يصدر في حالة طائرة زامبيا أيضاً، ولو ذرا للرماد في العيون أو لإبراء الذمة أمام
العالم، وإذا كانت قضية الطائرة يمكن تفسيرها بأنها تصرف أفراد من أصحاب النفوذ،
إلا أن الاتهام الموجه من قبل المدعي العام في "مانهاتن" كان مباشراً ضد
السلطات المصرية، فهل يمكن تفسير الصمت على أنه موافقة ضمنية على الاتهام، حيث لا
يصح دفن الرؤوس في الرمال، والفضيحة دولية؟!
اللافت هنا أن بياناً بنفي الاتهام لم يصدر من الجانب المصري، وهو اتهام من "العيار الثقيل" ولا يجوز الصمت حياله، لكن الصمت صار أسلوباً معتمداً، فبيان رسمي لم يصدر في حالة طائرة زامبيا أيضاً، ولو ذرا للرماد في العيون أو لإبراء الذمة أمام العالم، وإذا كانت قضية الطائرة يمكن تفسيرها بأنها تصرف أفراد من أصحاب النفوذ، إلا أن الاتهام الموجه من قبل المدعي العام في "مانهاتن" كان مباشراً ضد السلطات المصرية
سوابق السيناتور:
السيناتور الأمريكي المذكور سبق اتهامه في سنة 2015 من
جانب وزارة العدل الأمريكية بالضغط على مسؤولين في إدارة باراك أوباما لصالح صديق
له يعمل طبيب عيون، مقابل هدايا فخمة ومئات الآلاف من الدولارات على النحو الذي
نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، وإذا كان قد حصل على البراءة، فليس في كل
مرة تسلم الجرة، فالسيناتور ليس فوق مستوى الشبهات، وهو ما يستوجب على القوم أن
يكونوا أكثر حيطة وحذراً في التعامل معه، بدلاً من هذا الارتجال الذي حدث، لا سيما
وأن المذكور الأمريكي يبدو أنه عشوائي في تصرفاته مثلهم، على نحو يجعله يقدم الخيط
على ارتكابه للجريمة، بسؤاله عن سعر الذهب، وقد وجدوا لديه المبلغ المذكور وسبائك
ذهبية تمت مصادرتها ولم يقل إنها مثلاً ميراث آل إليه من المرحوم والده!
لقد تفجرت قضية أخرى للسيناتور الأمريكي في تشرين الأول/
أكتوبر من العام الماضي (2022) تمثلت في ضلوعه في قضية
تزوير لشهادات "اللحوم
الحلال" المصدرة إلى مصر، وهي شركة مملوكة لرجل أعمال من أصل مصري، مسيحي
الديانة، وقيل إنه الوسيط في نقل
الرشوة (دولارات وسبائك) إلى السيناتور مينينديز!
والحال كذلك، فإن "سوابق" السيناتور تدفع
لاتخاذ الحيطة والحذر عند التعامل معه، لأنه تحت المجهر من جانب سلطات التحقيق في
بلاده، فأي خيبة هذه التي دفعت أهل الحكم في مصر للتعامل معه بهذه الأريحية، وأي
نكد هذا الذي دفع لاستقباله من جانب السيسي قبل (20) يوما من واقعة تفتيش منزله؟!
كُلفة الاستبداد:
مثلي يتفهم أن كثيراً من دول المنطقة يمكن أن تقدم
الأموال والهدايا لأصحاب النفوذ في واشنطن، لكن يظل "الحرامي وشيلته"،
ويمكن تفهّم أن الدول تفعل هذ دفعاً للضرر أو جلباً للمصلحة، ما دامت الولايات
المتحدة الأمريكية تهيمن على المنطقة، وهو أمر يجعل من قادتها عرضة للغواية
والفساد، وإن كانت الديمقراطية تملك الحل لكل مشاكلها، وبتطبيق القانون على الكبير
والصغير، ما يمثل الردع ولو في الحد الأدنى لأصحاب النفوس المريضة والذمم الرخيصة،
وهذا موضوع آخر!
فاللافت في حالتنا هذه أن الرشوة المدفوعة (دولارات
وسبائك ذهبية)، لا تُستهدف بها المصالح العليا لمصر، فلم تقدم الرشوة لدفع
الولايات المتحدة للوقوف في وجه إثيوبيا مثلاً، أو للصمت على أي تدخل مصري لضرب سد
النهضة مثلاً، وقد قال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إن مصر لو فعلت هذا
فستكون محقة، لكن الرشوة دُفعت لتمرير انتهاكات حقوق الإنسان، ولصالح شرعية
النظام، ليقف الرأي العام على "كلفة الاستبداد"، فهل كان يمكن مثلاً
للرئيس المدني المنتخب أن يدفع من "لحم الحي" رشوة لسيناتور أو مسؤول
بالبيت الأبيض، سواء كان محمد مرسي أو غيره؟!
لا تُستهدف بها المصالح العليا لمصر، فلم تقدم الرشوة لدفع الولايات المتحدة للوقوف في وجه إثيوبيا مثلاً، أو للصمت على أي تدخل مصري لضرب سد النهضة مثلاً، وقد قال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إن مصر لو فعلت هذا فستكون محقة، لكن الرشوة دُفعت لتمرير انتهاكات حقوق الإنسان، ولصالح شرعية النظام، ليقف الرأي العام على "كلفة الاستبداد"
إن السيناتور المتهم لم يقدم للنظام المصري خدمات جليلة،
فكل ما قدمه هو الأسئلة التي ستطرح في ملف خاص بحقوق الإنسان، ليجهز الجانب المصري
الردود عليها قبل طرحها رسمياً، فهل يستحق هذا ما دُفع عداً ونقداً، وما تحصّل
عليه السيناتور من هدايا ثمينة يكشف سفه القوم؟!
إنها أزمة الأنظمة المستبدة في المنطقة، عندما تتعامل مع
مقدرات الأوطان وأموال الشعوب على أنها "مال سائب"، فتغدقه بكرم حاتمي
من أجل الحفاظ على مواقعها، ورأينا كيف دعم القذافي من أموال الشعب الليبي الحملة
الرئاسية للرئيس الفرنسي ساركوزي، ويا للمفارقة عندما يقتل القذافي نفسه بواسطة
قوات الرئيس الفرنسي وبقرار منه!
بيد أن جهة في فرنسا لم تكتشف هذه الرشوة، لكن من أعلنها
هو القذافي نفسه عندما قامت الثورة عليه، ووجد فرنسا تقف مع قرار عزله. والقذافي
خبرة تاريخية في تبديد أموال الشعب الليبي من أجل استمرار حكمه، وتأكيد زعامته،
والإشادة بعبقريته، وكان كريماً سخياً إذا دفع، لكن العطايا لم تكن في معظم
الأحيان تذهب لصاحب القسمة والنصيب، فقد كان هناك وسطاء من رجاله يحصلون على معظم
هذه الأموال ويعطون المقربين من النظام الفتات من المرسل إليهم!
وفي مصر حدث أن فضح أحد النشطاء الوسيط لأنه لم يسلمه
المبلغ كاملاً، والذي تعسف معه، لكن الشكوى لم تصل للقذافي، فحاميها حراميها، ومساعدو
القذافي يقرون بما فعل "الوسيط"، والذي قال إن الناشط قد يرى "حلمة
أذنه" على أن يصله تمويل مرة أخرى من الجماهيرية، وكسب الرهان مع اعتذار
المجني عليه!
فالقذافي صاحب خبرة جعلته لا يتصرف تصرفاً ارتجاليا يمكن
لجهة ما أن تكشفه، لكن القوم في القاهرة، إذ صح الاتهام، بدوا في تصرفاتهم كهواة
يحكمون دولة، لأنهم يعتقدون أنهم قضوا نصف قرن يدرسون معنى الدولة، ويبدو أنهم
كانوا يذاكرون من خارج المنهج، فإذا بهم يتصرفون كراشٍ بدائي يتعامل مع موظف حكومي
في الجمارك أو السجل المدني مثلاً، لأن الراشي المحترف لا يمكن اكتشاف أمره
بسهولة!
ولماذا لم تتم الاستعانة بخبرة
الدولة المصرية المتراكمة
في هذا الصدد، وكثيرون من قادة دولة مبارك لا يزالون على قيد الحياة، وقد يفيدون
بخبرتهم، أو على الأقل لم يكونوا سيتورطون في دفع كل هذه المبالغ والسبائك، فالرجل
يمكن شراؤه بأقل من هذا بكثير وقد يعمل لديهم بالقطعة، بدلاً من الاستعانة بشخص
تحت الميكروسكوب، هو صديق السيناتور، وصديق زوجته، وهناك تحقيقات سابقة خاصة
بتزوير شهادات اللحوم المصدرة لمصر تخص بشركته وضالع فيها السيناتور المرتشي؟
"إنه دُعا الوالدين"!
twitter.com/selimazouz1