كتب

الحرب الأمريكية الجديدة في آسيا الوسطى وقضية النفط.. قراءة في كتاب

إذا كانت الدبلوماسية الأمريكية قد اشتغلت على الدمقرطة والإصلاح السياسي، وتغيير النظم الحاكمة في الدول العربية، فقد تركت للقاعدة وداعش مهمة نشر الفوضى في الدول المستهدفة..
إذا كانت الدبلوماسية الأمريكية قد اشتغلت على الدمقرطة والإصلاح السياسي، وتغيير النظم الحاكمة في الدول العربية، فقد تركت للقاعدة وداعش مهمة نشر الفوضى في الدول المستهدفة..
الكتاب: "الجهاد الأمريكي من كابول إلى إسطنبول"
الكاتب: د. عبد الله علي صبري
الناشر: اتحاد الكتاب العرب بدمشق، الطبعة الأولى سبتمبر 2023
(199 صفحة من الحجم المتوسط).


عندما أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش أن "الحرب على الإرهاب"هي أول حروب الألفية الثالثة فعل ذلك بغبطة شديدة معتقدا في قرارة نفسه أنه يبلغ البشرية جمعاء البشارة التي تنتظرها منذ مطلع التاريخ. فهو أراد أن يقول إن الحرب هي الرسالة التاريخية للولايات المتحدة الأمريكية منذ نشأتها باعتبارها أمة قامت أساسا على الحروب، ولا يمكن لها أن تستمر في هيمنتها على العالم إلا بخوض الحروب في الخارج. وأن الله قد قيض لأمريكا في شخصه بعد طول انتظار الرسول الذي سيقودها إلى بلوغ "بشارة الرب".

لا شك أن الإرهاب هو العنف المضاد للعنف المعولم، أي العولمة المضادة لعولمة العنف التي ابتدأتها الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية، وهي بالأساس من ابتكار الولايات المتحدة ونتاج سعيها لأن تكون مركز العالم، بوصفها إمبراطورية تريد قيادة العالم وهي حاملة المشعل الأخلاقي والسياسي والعسكري للقانون والقوة..

الحرب ضد الإرهاب، هي المدخل لحرب أشمل تريد الولايات المتحدة خوضها لصوغ مستقبل التوجه الجيوسياسي لآسيا الوسطى. وفي هذا السياق، كانت أفغانستان مسرحا لهذه الحرب، بعد أن صار ينظر إلى موقع أفغانستان الاستراتيجي على أنه منفذ مهم لتوسيع النفوذ الأمريكي نحو آسيا الوسطى، أو للسيطرة على الاحتياطات الهائلة من النفط والغاز في بحر قزوين ونقلها إلى السوق الدولية. فقد كان الصراع على الثروات البترولية في هذه المنطقة هو المدخل الذي تحركت من خلاله السياسة الخارجية الأمريكية  في هذه المنطقة.

الإدارة المتوحشة بين النظرية والتطبيق

في الكتاب الأهم على الإطلاق "إدارة التوحش" لبيان استراتيجية السلفية الجهادية للانتقال من (النكاية) إلى (جهاد الجبهات) وإدارة مناطق شبه كاملة خارج الدولة المركزية؛ كتب أبو بكر ناجي ـ الشخصية المثيرة للجدل، والذي لا يُعرف إن كان هذا اسمه الحقيقي أم لا ـ، بحثًا مُختصرًا فيما يزيد عن 100 صفحة بقليل، لكنه كان واضحًا ووافيًا لأن تُنفذها داعش بحذافيرها في العراق وسوريا ثم في ولاية سيناء الآن.

عرّف "أبو بكر" إدارة التوحش باختصار على أنها "إدارة الفوضى المتوحشة"، حيث تتلخص الفكرة في خطوتين: الأولى؛ خلق الفوضى أو التوحش من خلال عمليات نكاية مستمرة في الأطراف التي لا تُسيطر عليها الدولة المركزية، وذلك وِفقًا للقاعدة العسكرية: الجيوش النظامية إذا تمركزت؛ فقدت السيطرة، وإذا انتشرت؛ فقدت الفعالية. ومن ثم تُدير هي ذلك التوحش إدارة كاملة حيث يُصبح الناس بحاجة لمن يُدير ويوفر لهم حاجاتهم الأساسية؛ فيقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم أخيارًا كانوا أو أشرارًا!

بيّن أبو بكر الصورة المثالية التي يريدها وحدد مهمات أساسية لإدارة التوحش في عدة نقاط منها نشر الأمن الداخلي، توفير الطعام والعلاج، إقامة "القضاء الشرعي" بين الناس، رفع المستوى الإيماني ورفع الكفاءة القتالية أثناء تدريب شباب منطقة التوحش وإنشاء المجتمع المقاتل بكل فئاته وأفراده عن طريق التوعية بأهمية ذلك، بث العيون واستكمال بناء جهاز الاستخبارات المصغر، وغيرها من المهام التي هي بالأساس تهدف إلى توفير بديل كامل للدولة المركزية.

السلفية الجهادية هي أكثر الحركات الإسلامية القادرة على إنفاذ أفكارها ومشاريعها على الأرض خارج إطار الدولة الحديثة وهيمنة النظام العالمي، وكتاب (إدارة التوحش) لأبي بكر ناجي مثالاً واضحًا على ذلك.. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا أطلق المؤلف تعبير "إدارة التوحش" أو "إدارة الفوضى المتوحشة"؟ وما هي الفروق بينهما؟

يجيب المؤلف بالقول: "لأنها ليست إدارة لشركة تجارية أو مؤسسة تعاني من الفوضى، أو مجموعة من الجيران في حي أو منطقة سكنية أو حتى مجتمعاً مسالماً يعانون من الفوضى، ولكنها طبقاً لعالمنا المعاصر ولسوابقها التاريخية المماثلة وفي ظل الثروات والأطماع والقوى المختلفة والطبيعة البشرية وفي ظل الصورة التي نتوقعها في هذا البحث يكون الأمر أعم من الفوضى، بل إن منطقة التوحش قبل خضوعها للإدارة ستكون في وضع يشبه وضع أفغانستان قبل سيطرة طالبان. منطقة تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية، يتعطش أهلها الأخيار منهم بل وعقلاء الأشرار لمن يدير هذا التوحش، بل ويقبلون أن يدير هذا التوحش أي تنظيم أخياراً كانوا أو أشراراً إلا أن إدارة الأشرار لهذا التوحش من الممكن أن تحول هذه المنطقة إلى مزيد من التوحش.

السلفية الجهادية هي أكثر الحركات الإسلامية القادرة على إنفاذ أفكارها ومشاريعها على الأرض خارج إطار الدولة الحديثة وهيمنة النظام العالمي، وكتاب (إدارة التوحش) لأبي بكر ناجي مثالاً واضحًا على ذلك.. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا أطلق المؤلف تعبير "إدارة التوحش" أو "إدارة الفوضى المتوحشة"؟ وما هي الفروق بينهما؟
يقدم الدكتور عبد الله علي صبري قراءة متميزة لهذا الكتاب، فهو يثول: "على إثرأحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2011م، أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية حرباً دولية على الإرهاب أفضت إلى احتلال أفغانستان والعراق وإخضاع غالبية الدول العربية والإسلامية لتوجيهات واشتراطات أمريكية، جعلت المنطقة في حالة من الصراع والفوضى، بلغت ذروتها مع أحداث ما يسمى بالربيع العربي، وبرغم الحرب الضارية على التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم القاعدة، إلا أن الواقع كشف عن لعبة كبيرة استثمرت ورقة وفزاعة الإرهاب، باتجاه زعزعة استقرار الكثير من الدول العربية التي استهدفها المشروع الصهيوأمريكي تحت عناوين التغيير والديمقراطية والإصلاح السياسي.

وبينما انشغلت النخبة السياسية بمعركة من يحكم وكيف يحكم، كانت التنظيمات الإرهابية تعمل على قدم وساق باتجاه الترجمة العملية للأفكار الأمريكية بشأن الفوضى الخلاقة التي تتمحور حول إعادة بناء مؤسسات الدولة بعد إسقاطها.

وإذا كانت الدبلوماسية الأمريكية قد اشتغلت على الدمقرطة والإصلاح السياسي، وتغيير النظم الحاكمة في الدول العربية، فقد تركت للقاعدة وداعش مهمة نشر الفوضى في الدول المستهدفة، وإلى جوار فكرة الفوضى الخلاقة أعلنت القاعدة عن نظرية "الإدارة المتوحشة كمرحلة تسبق وتهيئ لقيام دولة الخلافة الإسلامية.

ولأسباب متداخلة أصبح كتاب ومشروع الإدارة المتوحشة ومشروعها، الدليل النظري الذي سار عليه تنظيم داعش في إعلان وإدارة دولته في العراق وسوريا، التي بزغ نجمها خلال العقد الماضي، ولم يأفل إلا بعد الصحوة الشعبية والتضحيات الكبيرة التي وضعت حداً لدولة الخرافة.

يقصد بإدارة التوحش خلق منطقة خالية من إدارة وسلطة وقوانين الدولة لتعم فيها الفوضى والقتل والرعب، أو القفز على مناطق تعرضت للفوضى بسبب حرب عشائرية أو أهلية وإدارتها بالعنف، حتى يضطر الناس بأشرارهم وأخيارهم القبول بهذه الإدارة كبديل وحيد للفوضى والخراب.
فمن أجل تسويغ حالة التفكيك التي تسعى إليها التنظيمات الإرهابية المرتبطة بالوهابية الجهادية، يلفت أبو بكر ناجي مؤلف كتاب إدارة التوحش.. أخطر مرحلة ستمر بها الأمة إلى وضع الدولة القطرية العربية، التي كانت نتاجاً لاتفاقية سايكس بيكو، وانهيار الخلافة العثمانية آخر إطار جامع للدولة الإسلامية. ولأن استعادة دولة الخلافة كانت ولا تزال حلما يراود معظم الحركات السياسية الإسلامية، فإن صاحب نظرية الإدارة المتوحشة يحشد في كتابه الرؤى العملية باتجاه استرداد دولة الخلافة، في محاكاة للاستراتيجيات الميكافيلية واللينينية والماوية وأساليب الإدارة الأمريكية معاً.

يتوجه المؤلف بالخطاب وبالخطة العملية إلى تيار السلفية الجهادية، الذي يرى أن أتباعه يسيرون على النهج الرباني مقارنة ببقية الجماعات والتيارات الإسلامية، وأنهم وأعداؤهم في صراع مستمر شبيه بصراع الرسل مع أهل الكفر والطغيان.. وما دام السلفيون والوهابيون هم من يعتمد عليهم في إدارة التوحش، فلا حاجة إلى حشد الرؤى والفتاوى الدينية، فذلك ما يقوم به المشائخ منذ زمن طويل بقصد أو بغير قصد، ولولا هذا الفكر المتأصل لما ظهرت طالبان والقاعدة وقبلهما حركات الجهاد وأمراؤه في أفغانستان.

وبزعم العمل على تحقيق الهدف الأكبر ممثلا في استرداد الخلافة الإسلامية يقدم الكتاب رؤية تكفيرية واسعة تشمل العدو القريب الحكومات وأجهزتها الأمنية المرتدين الشيعة، الأقليات، السنة المعارضين)، وهو الأمر الذي استفادت منه داعش وعملت عليه بشكل واضح وصريح بزعم أن إقامة دولة الخلافة أهم من محاربة أمريكا والصليبيين.. ومن يتتبع مسار الأحداث التي أفضت إلى إعلان دولة الخلافة ـ الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، يلحظ أن داعش اكتفت بإدارة المناطق التي تسيطر عليها على طريقة الإدارة المتوحشة ولم تقدم جديدا يذكر بشأن رؤية وبرنامج الدولة الإسلامية، وبدل أن تصبح هذه الدولة الوليدة نموذجاً للعدل والأمان، غدت مرتعاً للقتل والنهب وهتك الأعراض على نحو مقزز ومنفر، ساعد ضمن عوامل أخرى على سقوط الدولة وانهيار التنظيم في عقر داره بالموصل، وبات الخليفة أبو بكر البغدادي طريداً وملاحقاً على خطى أسامة بن لادن بعيد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان وحيثما وُجدت القاعدة وداعش، لا نجد إلا القتل والخراب، أو ما يعرف بـ نكاية الشوكة"، مع إعلان الأحكام الشرعية التي تثير الرعب في نفوس الناس، فيخضعون لأمراء الحرب والإجرام، ثم يتشدقون أن استقرار الحالة الأمنية مرتبط بالعدل والإنصاف لدى مشروع دولة الخلافة.

لكن ما المقصود بالإدارة المتوحشة التي يدعو إليها الكتاب وقامت داعش بتنفيذها حرفياً؟

يقصد بإدارة التوحش خلق منطقة خالية من إدارة وسلطة وقوانين الدولة لتعم فيها الفوضى والقتل والرعب، أو القفز على مناطق تعرضت للفوضى بسبب حرب عشائرية أو أهلية وإدارتها بالعنف، حتى يضطر الناس بأشرارهم وأخيارهم القبول بهذه الإدارة كبديل وحيد للفوضى والخراب.

وإدارة التوحش بهذا المعنى هي المرحلة التي تسبق وتمهد الدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة، ولأنها كذلك فلا بد أن تقوم هذه الإدارة على أركان ومعالم مطمئنة ومشجعة بحيث يسهل استقطاب الناس إلى التنظيم الذي يتولى الإدارة. ولأهميتها فقد أسهب المؤلف في تفصيل هذه المعالم أو الأركان، وكرر الإشارة إليها في مواضع عدة. ويمكن إجمالها في النقاط الآتية:

1 ـ نشر الأمن الداخلي.
2 ـ توفير الطعام والعلاج.
3 ـ تأمين منطقة التوحش من غارات الأعداء.
4 ـ إقامة القضاء الشرعي بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش
5 ـ رفع المستوى الإيماني والكفاءة القتالية بمجتمع التوحش.
6 ـ العمل على بث العلم الشرعي والدنيوي.
7 ـ بناء جهاز استخبارات مصغر.
8 ـ تأليف قلوب أهل الدنيا بشيء من المال وإقامة التحالفات مع من يجوز التحالف معه.
9 ـ ردع المنافقين بالحجة وإجبارهم على كبت نفاقهم وكتمه وعدم إعلان آرائهم المثبطة.

ولأن هذه المرحلة هي الأهم والأخطر بنظر المؤلف، فإنه يدعو الجماعات التي ستعنى بتنظيم هذه الوصايا ـ وهي في غالبيتها تيارات سلفية ـ إلى إتقان فن الإدارة في التعامل مع مختلف شرائح المجتمع والاهتمام بالتدريب والارتقاء ونبذ العشوائية والنمطية الإدارية.

أما المناطق ذات التركيبة القبلية، فينصح كتاب إدارة التوحش بعدم الاصطدام مع القبائل، ويدعو إلى الاستفادة من الحالة العصبية التي هم عليها وتحويلها إلى عصبيات محمودة، واستغلال استعدادهم للتضحية من أجل المبادئ والشرف الذي يعتقدونه، لتكون هذه الحمية والعصبية في سبيل التنظيم.. ولكي يقتنع الأتباع بضرورة القبول بسيطرة العصابات المسلحة على الأوضاع والاستجابة لإدارتهم، فإنه يضع الناس أمام خيارين إما القبول بإدارة التوحش، أو الاستمرار - حسب زعمه - في الخضوع للكفر والقوانين الوضعية، فالشرك أكبر مظاهر عدم الأمن، وكفى بعدم الأمن من النار فتنة، حد قوله (صص 65 ـ 66).

اقرأ أيضا: القاعدة وأمريكا والحرب على الإرهاب في لعبة المجابهات الدولية.. كتاب جديد
التعليقات (0)