لا تخرج الحوارات بشأن الحرب الإسرائيلية المستمرة على
غزة في القنوات الإذاعية والتلفزية
الغربية على النمط المعهود منذ عدة عقود. يطرح المذيع السؤال، فيأخذ السياسي في الإجابة وما إن يصل إلى الجملة الثالثة أو الرابعة، حتى يذكر «حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن النفس» أو «حق إسرائيل في الدفاع المشروع عن النفس». بل الذي يحدث في كثير من الحالات، أن السياسي لا يطيق صبرا حتى الجملة الثالثة، ولهذا تراه يسارع لاستهلال إجابته بأن يقول للمذيع رأسا «أريد في المقام الأول أن أؤكد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس» وقد يضيف رغبة في التوضيح: «…ردا على الإرهابيين، أو على المنظمة الإرهابية الفلانية، التي تتمثل غايتها المعلنة في القضاء على دولة إسرائيل».
ولم يحدث طيلة أكثر من أربعين سنة أن سمعت سياسيا غربيا واحدا يذكر، ولو مرة يتيمة، حق الفلسطينيين أو اللبنانيين، أو العرب عموما، في الدفاع عن النفس. لهذا قرأت ببالغ الاهتمام التصريحات التي أدلى بها قبل أيام المؤرخ هنري لورنس التي صدّرها بالقول؛ إن الغرب لا يستطيع أن يتصور أن للفلسطينيين أيضا الحق في الدفاع عن النفس! وهنري لورنس مؤرخ فرنسي مرموق يدرّس تاريخ الشرق الأدنى في «كوليج دو فرانس»، وقد كانت أعماله، وخصوصا الكتاب المرجع «شرقيات»، من أهم المصادر التي اعتمدت عليها في إنجاز السلسلة الوثائقية التلفزية عن «الحرب العالمية الأولى في عيون العرب». وهو من طراز المؤرخين الذين تغنم منهم جديدا مفيدا كلما قرأت لهم، حتى لو تعلقت القراءة بوقائع وعهود لك سابق معرفة بشخصياتها وتفاصيلها.
يرى هنري لورنس أن الحرب المستمرة على غزة، تمثل أحدث الاعترافات الإسرائيلية بإخفاق المشروع الصهيوني؛ ذلك أننا نحيا الآن مجددا أحداث 1948، عندما استولت إسرائيل على المنطقة التي حدثت فيها مجازر 7 تشرين الأول/ أكتوبر، حيث تم قبل 75 عاما تهجير أكثرية السكان الفلسطينيين نحو المنطقة التي صارت تعرف باسم قطاع غزة. هذا لا يبرر الفظائع، ولكن لا بد من الوعي بأن الذين نفذوا الهجمات هم أحفاد أولئك الذين طُردوا وهُجّروا عام 1948. كما أن ما حدث هو من الآثار الارتدادية لحرب 1967. حيث أخذ عدد القتلى منذئذ يرتفع ارتفاعا دائما، بما يقلل احتمال التوصل إلى حل سياسي، أيا كانت طبيعة المقاومة الفلسطينية. إذ بعد فرض
الاحتلال عام 1967 لم يكن المقاتلون الفلسطينيون في قطاع غزة إسلاميين، بل كانوا من اليساريين. وكان القمع منذ ذلك العهد شديدا قاسيا، ويشمل كثيرا من عمليات هدم البيوت، خصوصا عندما كان الأمر في يد شارون.
أما ما يردده الساسة الغربيون من وجوب عدم استيراد النزاع الفلسطيني الإسرائيلي إلى صلب السياسة الداخلية في الديمقراطيات الغربية، فإن لورنس يرى أنه موقف يفتقر إلى الواقعية؛ إذ إن من خصوصية هذا النزاع أنه مستحوذ على اهتمام الرأي العام في معظم بلدان الغرب منذ عام 1967. من ذلك أن الفظائع التي ارتكبتها القواتُ الآذرية المسلحة تسليحا إسرائيليا، في قرة باغ قبل أسابيع، لم تُعْقِب إلا بعض الردود الغَضْبَى ولم تُثِر أي مشاعر لدى الجماهير الغربية. فلا يمكننا تخيل قدوم حاملة طائرات أمريكية إلى البحر الأسود لحماية الأرمن. أما النزاع العربي الإسرائيلي، فهو مثار مواقف حادة ومشاعر جياشة بسبب من ارتباطه بالأرض المقدسة والديانات السماوية الثلاث. وقد كان شعور الرأي العام الفرنسي بالنصر الإسرائيلي في حرب 1967 شعور فخر وبهجة؛ باعتباره ثأرا من (هزيمة) حرب الجزائر. لقد تحولت القضية الفلسطينية إلى قضية نضالية عند اليسار المناهض للاستعمار، أي اليسار الذي ناضل في سبيل استقلال الجزائر. كما أنها صارت رمزا لدى الشتات العربي، حيث أظهرت الدراسات أن الموقف من إسرائيل، هو عنصر قوي في بناء الهوية لدى أبناء المهاجرين العرب والمسلمين في البلدان الغربية.
ويلاحظ لورنس أن المناهضة الغربية الرسمية لكل أشكال التضامن مع الفلسطينيين، بعنوان مناهضة الإرهاب، إنما تلقى صدى سياسيا قويا لدى الرأي العام الغربي؛ لأنها تتجاوب مع كراهيته للجاليات المسلمة. كما أن الحكومات الغربية ضاربة منذ 15 سنة عن المسألة الفلسطينية صفحا؛ لأنها توهمت أنه يمكن تركها تتعفن في نزاع منخفض الحدة، بحيث تكفي صدقات الإغاثة الإنسانية للتستر على انعدام الإرادة السياسية.
(القدس العربي)