تستمر الحرب الدموية البربرية التي تشنها إسرائيل على قطاع
غزة منذ شهرين، ولا يوجد في الأفق ما يوقف هذه الحرب، حسب ما صرح به وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت. الذي قال، أول من أمس: إنه "يتوقع أن تستمر الحرب بشدتها الحالية شهرين آخرين على الأقل"، وأن تتواصل أشهراً أخرى. طبعاً بفضل الدعم الأميركي؛ حيث عبرت الإدارة الأميركية عن رضاها من مستوى القتل الذي تقوم به قوات الاحتلال في جنوب قطاع غزة. وبناء على تصريحات الخارجية الأميركية، أول من أمس، فهذه الإدارة رأت تحسناً في الخطط العسكرية الإسرائيلية في خان يونس والجنوب حيث تم إخلاء بعض المناطق. وأن ما تقوم به إسرائيل لا يعتبر إبادة جماعية. وهو نفس الموقف الذي عبر عنه مستشار الأمن القومي جاك سوليفان بأن الإسرائيليين يتخذون إجراءات فريدة من نوعها هذه المرة لتحديد الأهداف ومناطق إجلاء المواطنين.
إسرائيل تشعر أنها تسابق الزمن في حربها ضد غزة لإنجاز جزء من أهدافها على الأقل. ولو فرضنا أنها اتفقت مع الإدارة الأميركية على شهرين من القصف الدموي المقبول أميركياً، والذي يوقع مئات الشهداء يومياً، فنحن أمام كارثة كبرى لا تقل شدة وخطورة عن الشهرين الماضيين، وأننا مقبلون على فقد عشرات آلاف الشهداء والجرحى ومئات آلاف المشردين، وكارثة إنسانية تشمل عدم القدرة على معالجة الجرحى، وفقد كل أسباب الحياة من غذاء وماء ودواء ووقود وملجأ آمن، وكوارث بيئية وصحية تسبب انتشار الأوبئة والأمراض الخطيرة، خاصة مع قدوم الشتاء والأمطار واختلاط مياه الأمطار بالمجاري والقمامة وبقايا الجثث المتعفنة التي لم تحظ باستخراجها أو دفنها بصورة إنسانية لائقة.
الخطر الأكبر بعد عمليات الإبادة والقتل التي تتعمدها قوات الاحتلال هو في مسالة التهجير القسري. فبعد أن تراجعت الحكومة الإسرائيلية عن تصريحاتها العلنية بشأن تهجير المواطنين إلى مصر، هي تقوم بفعل ذلك بصمت بحيث لا تترك مجالاً للفلسطينيين في غزة سوى مغادرة البلاد. صحيح أنه حتى اللحظة يرفض
الفلسطينيون هذا الخيار، وترفض مصر ذلك بصورة رسمية، ولكن عندما تدفع القوات الإسرائيلية غالبية سكان القطاع إلى منطقة رفح وتدمر الجنوب كما حصل في الشمال، وعندما يصبح القتل في كل متر مربع، فقد يذهبون للحدود للنجاة.
وحتى لو توقفت الحرب لن يجد المواطنون مكاناً يلجؤون إليه. تخيلوا لو خرج جميع المواطنين النازحين في مدارس وكالة الأونروا ومراكز الإيواء المختلفة، والخيام البائسة المتناثرة في كل مكان بغزة - ونحن نتحدث عن حوالى 2 مليون نازح - وأرادوا العودة لحياتهم الطبيعية، فماذا يجدون؟ لا مساكن صالحة للسكن لأكثر من نصف مواطني القطاع، ولا أماكن حتى للاستئجار، ولا مستشفيات ولا مدارس، ولا مرافق عامة يمكنها أن تقدم لهم الخدمات الأساسية. ولا ماء ولا كهرباء ولا وسائل نقل ولا وقود ولا اقتصاد لا زراعي ولا صناعي ولا عمل، ولا أي مورد يمكن أن يعتاشوا منه، علماً أن البطالة كانت قبل الحرب 50%، وستصل بعد الحرب إلى 70% على الأقل. وعندها قد يذهب المواطنون إلى أي مكان في العالم يوفر لهم أسباب الحياة فقط ليعيشوا. وهذه ستكون هجرة طوعية ولكنها في الواقع هجرة قسرية أُجبروا عليها.
من لا يستوعب حجم الكارثة في غزة، عليه ببساطة أن يتواصل مع أحد المواطنين هناك، وليس مهماً أي فصيل يؤيد أو يعارض. فهذه الأيام لا تصل سوى عينات صغيرات من المساعدات التي لا تلبي الحد الأدنى من احتياجات المواطنين، وحتى هذه المساعدات القليلة، التي تصل بعد أن تحررها إسرائيل للأسف، تجري سرقة جزء منها ويباع للمواطنين بأسعار خيالية، فتجار الحرب أيضاً يساهمون بدورهم في معاناة الناس ويفاقمون مشكلاتهم ويشعرونهم بالضيم والغبن لتضاف معاناة جديدة إلى معاناتهم. ولا يعرف المواطنون إلى من يلجؤون، فقد فشلت كل القيادات في التعاطي مع مشكلات قطاع غزة، الذي أضحى ضحية لمغامرات غير محسوبة ولانقسام لم يفعل أحد شيئاً جدياً للقضاء عليه وإنهاء معاناتهم والظلم الواقع عليهم من ذوي القربى، ومن العدو الهمجي البربري.
لا يوجد شيء في هذا العالم يعوّض عشرات آلاف الضحايا الذين يسقطون نتيجة لعمليات الإبادة التي يتعرض لها المواطنون في القطاع، ولا يوجد أي ضوء في نهاية النفق، ولا أحد يدري كيف سيكون اليوم التالي للحرب. فالعالم يتحدث عن رفضه للتهجير القسري ولا أحد يفعل شيئاً لمنعه، وإسرائيل تريد احتلال القطاع وإبقاء السيطرة الأمنية عليه لسنوات طويلة قادمة. وهي ترفض وجود "حماس" والسلطة الوطنية هناك لتدير القطاع. والولايات المتحدة تريد عودة السلطة، ولكن ليست القائمة حالياً في رام الله، فهي تريد سلطة متجددة، والناطق باسم البيت الأبيض، جون كيربي، يقول في مقابلة مع قناة "ABC" قبل يومين: إن السلطة الحالية لا تملك المصداقية لإدارة قطاع غزة. بمعنى أن علينا الانتظار لنرى كيف يمكن لأميركا أن تنتج سلطة جديدة ذات مصداقية لإدارة حياة الفلسطينيين، على فرض أن إسرائيل ستنجح في السيطرة على كامل القطاع. وأزمتنا الداخلية قائمة وتتفاقم.
(الأيام الفلسطينية)