مما لا شك فيه أن غالبية سكان إسرائيل اليهود يشعرون بمرارة الهزيمة التي لحقت بجيشهم في غلاف قطاع
غزة، حيث انهارت فرقة غزة ومعها كل أذرع الأمن المتواجدة على الحدود مع غزة خلال ساعات معدودة واستغرقت إعادة لملمة صفوفهم واستعادة زمام المبادرة عدة ساعات، بل عدة أيام حتى نجحوا في السيطرة على كامل مستوطنات الغلاف.
وأثر كثيراً في الرأي العام الإسرائيلي ما نشر حول فظائع نفذتها حركة حماس ضد المدنيين وتمت مبالغة كبيرة في حجم استهداف المدنيين لدرجة الحديث عن قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء وحرق المواطنين أحياء. والحقيقة أن الأمر الأكثر مرارة هو ما لحق بالجيش الأقوى في منطقة الشرق الأوسط والمصنف رابع جيش على مستوى العالم.
وما حدث في غلاف القطاع كان اختراقاً كبيراً بمستوى تاريخي غير مسبوق بالمقارنة بين عناصر «حماس» وفصائل المقاومة التي التحقت بالعملية وبين جيش الاحتلال. وحصول تجاوزات واعتداءات على المدنيين بما في ذلك أخذ عدد منهم كأسرى واحتجازهم في قطاع غزة، لا يغطي على حجم الضربة التي تلقاها الجيش.
ردود الفعل الإسرائيلية تجاوزت مجرد التفكير في الهجوم على «حماس» وهزيمتها ورد الاعتبار للجيش المهزوم إذا كان هذا الشيء ممكناً، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير إلى الانتقام من كل قطاع غزة وتحميل كل المواطنين
الفلسطينيين هناك مسؤولية هجوم «حماس». وقد اتخذ القرار على أعلى المستويات وبمشاركة الولايات المتحدة لجعل غزة تدفع ثمن هذه العملية. وعمليات القصف التي طالت كل مناطق قطاع غزة من رفح وحتى بيت حانون استهدفت المدنيين بصورة رئيسة، وتعمدت سلطات الاحتلال تدمير البنية التحتية المدنية بالكامل ولم تسلم أي مرافق من الدمار خاصة في شمال قطاع غزة ومدينة غزة ولا تزال عملية التدمير والإبادة الجماعية مستمرة.
وفي إطار هذا العدوان البربري، تم قطع الكهرباء والماء ومنع إدخال المواد الغذائية والطبية والوقود وكل السلع إلى القطاع المحاصر أصلاً. وكان واضحاً أن عملية انتقام همجية تجري في إطار هذا العدوان غير المسبوق في العالم.
لقد ذهبت إسرائيل في عدائها للشعب الفلسطيني ولأبناء قطاع غزة على وجه التحديد إلى حد التفكير جدياً بطردهم من القطاع وتهجيرهم بشكل جماعي إلى مصر. على اعتبار أنه لا يمكنها تفكيك البنية التحتية العسكرية للفصائل المسلحة دون تدمير ما فوق الأرض وما تحتها في غزة.
من جهة ثانية، بات الكثيرون من صناع القرار في إسرائيل على قناعة بأنه لا يمكن السيطرة على غزة حتى مع الانتصار التام على «حماس» وتجريدها من السلاح والقضاء على سلطتها. وأن أفضل الحلول لمشكلة غزة التخلص من جميع سكانها وإفراغ القطاع تماماً. طبعاً هذا المشروع تم رفضه قطعياً من الشعب الفلسطيني ومن مصر والدول العربية التي رأت فيه محاولة للتخلص من القضية الفلسطينية وتحويلها إلى قضية عربية - عربية.
حرب الإبادة الجماعية على غزة ترافقت مع صعود موجة عالية وطاغية من العنصرية والكراهية لكل من هو فلسطيني. فامتلأت وسائل الإعلام بالأحاديث عن قتل كل الفلسطينيين وعدم التمييز بين فلسطيني وآخر واعتبار كل قطاع غزة إما «حماس» أو داعمين لها وبالتالي هم جزء من المعركة ويجب القضاء عليهم. ولم يقتصر الأمر على دعوة الوزير عميحاي إلياهو الذي طالب بقصف غزة بالسلاح النووي، بل إن شخصيات كانت محسوبة على اليسار مثل رئيس الدول اسحق هرتسوغ أطلق تصريحاً غبياً ينم عن كراهية وعدم اتزان عندما اعتبر أنه لا يوجد مواطنون أبرياء في غزة.
العنصرية ضد الفلسطينيين دفعت الكثير من الإسرائيليين إلى فصل الموظفين والعمال في الكثير من المرافق وهذا شمل المواطنين حملة الهويات الإسرائيلية وسكان
الضفة والقدس وقطاع غزة، بل حصلت عمليات اعتداء كثيرة وصل بعضها إلى مستوى القتل.
وانطلقت حملات تلاحق كل من يكتب أو ينطق كلمة تدافع عن المواطنين في غزة وتهاجم جرائم الاحتلال. وأصبح الصوت العربي مغضوباً عليه باستثناء حفنة من الذين تساوقوا مع دولة الاحتلال. وتلاشت أصوات العقلاء الذين نادوا بالتوصل إلى سلام على أساس حل الدولتين. ولم يعد مسموعاً سوى صوت الحرب والتدمير والإبادة.
مشكلة إسرائيل أنها تساهم في تنمية بذور الكراهية والعنف، وفي كل مرة تحاول فيها حل الصراع عن طريق القوة ومن خلال حلول وهمية لإدارة الصراع تتسبب في المزيد من تأجيج المواجهات التي يرفض في إطارها الفلسطينيون القبول بالأمر الواقع الاحتلالي.
وسيصحو الإسرائيليون بعد انتهاء هذه الحرب على واقع أكثر تعقيداً وخطورة حتى على مستقبل وجودهم في هذه البلاد. ولن يتغير الواقع مهما فعلوا. فلا يوجد بديل عن الإقرار بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وخاصة حقه في تقرير المصير في دولة خاصة به على أساس حدود العام 1967. غير ذلك سيستمرون في زرع وتنمية بذور الكراهية والتطرف.
(
الأيام الفلسطينية)