بداية
أنا لا أستهين أبدا بمقدّرات وإمكانيّات تحرّك أمّة العرب، ولولا أن أملي فيها
كبير لما كتبت هذا المقال. والهدف من هذه المقارنة ليس التبخيس والاستخفاف، بل هو
الاستنهاض والتحريك بإذن الله.
لو
افترضنا أن فريقا عربيا لكرة القدم قد تأهل للمباراة النهائية في كأس العالم، كيف
ستتفاعل جماهير الأمة العربية مع هذا الحدث؟ ستحطّم الشاشات أرقاما قياسية وستقام
العروض في الأماكن المفتوحة والصالات ودور العرض، سيخرج الناس بكلّ أحاسيسهم
ومشاعرهم العروبيّة، باختصار سيلتهب الشارع العربي ويهيج ويموج ويصرخ ويهتف
ويصفّق، سيقف على قدم وساق بانتظار هذه المباراة الحاسمة في تاريخ العرب الكروي،
ولا شكّ سيسافر آلاف العرب إلى حيث المونديال لحضورها مباشرة، وسيدفعون ثمن التذاكر
حبّا وطواعية، وستمتلئ الصحف بالمقالات والتحليلات والتوقعات. سيكون الأمر قضيّة
العرب الأولى، ولن يقف أحد مكتوف الأيدي، بل سيساهم ويتحرّك ويشجّع بكلّ إمكاناته، وبكل ما أوتي من جهد وقوّة.
اليوم
أيها الإخوة الكرام، تأهلّ فريق
غزة لمباراة نهائية في كأس العالم لكرة الدمّ واللهب، بين أنصار الحقّ وأنصار الباطل، تأهلت غزّة لتقود أمّة العرب والإسلام وكلّ أحرار
العالم وكلّ الباحثين عن الحق والعدالة الكونية للبشر أجمعين، تأهلت لمباراة
تاريخيّة فاصلة.
فرضت
نفسها بالقوّة والجدارة العالية، بعد أن أهملها العالم ولم يعطها فرصتها في إثبات
ذاتها، طرقت جدران الخزان بقوّة سمعها كلّ العالم، أبدعت وتألقت وأحدثت ثغرة كبيرة
في الجدار الفاصل بين فريق المستكبرين وفريق المستضعفين، نجحت في شقّ طريقها وسط
غابات وأدغال عالم متوحّش، يدعم المحتلّ ويتنكّر لحقوق المحتلين. ببراعة عالية
سدّدت ضربة قاسمة لجحافله المتقدّمة في ديارنا، والمتوغّلة في دمائنا، والمستهترة
بحقوقنا، والمستعلية على آمالنا وطموحنا. بهذا تأهلت للدوري الممتاز بحق وجدارة.
عندئذ، وقف عالم الاستكبار داعما بكلّ ما أوتي من قوّة فريقه المجرم في وجه هذا الفريق
الغزّاوي الفلسطيني الحرّ، لم يكتف بالتشجيع كما تُشجّع فرق كرة القدم، بل مدّه
بأعتى أنواع الأسلحة المدمّرة، وفتح كلّ مخازنه ومدّه بجسر يتدفّق كالنهر بالقذائف
والصواريخ والمعدّات والآليّات، وكل وسائل القتل والتدمير.
أمّا
العالم العربي، فلم يقف مع فريقه بالدعم والنصرة ولا بأي شكل من الأشكال، ولم يسلك
طريق المؤازرين للفريق المعادي أبدا، بل بالعكس تماما، اكتفى بالفرجة الباهتة التي
لا ترتقي لتفاعله مع مباراة كرة قدم عاديّة محليّة. قامت مسيرات أسبوعية في بعض
الدول، ودول أخرى ما زالت تعدّ المسيرة والمظاهرة بدعة، بينما تشجيع فريق كرة
القدم واجب شرعي.
أنا
لا أنكر الدموع التي ذرفتها العيون الحزينة المشفقة، ولكن حجم الحدث يتطلّب أكثر
من هذا بكثير. المباراة التي تجري في ملعب غزّة ليست مباراة كرة قدم، هي مباراة ستنتج
عنها أمور عظيمة جدا، سينتج عنها إن كانت الغلبة (لا سمح الله) للمحتلّ، تسويد
الاحتلال على المنطقة كلّها والذهاب نحو التطبيع، وكلمة التطبيع هذه غير كافية، إذ
تعني بعد هذه المعركة ما لم تكن تعنيه قبل المعركة، ستطبّع المنطقة بالطبع
الإسرائيلي لا العكس، وهذا الإسرائيلي يريد أن يقود المنطقة على الهوى الأمريكي
والصهيوني، ومن ثم تفريغ العربي من المحتوى العربي وإعادة تعبئته بالمحتوى
الإسرائيلي، يعني ذلك أننا سنكون خدما وعبيدا للسيّد الإسرائيلي، سياساتنا
وأسواقنا مفتوحة له ومربوطة به.
أمّا
إذا خرج مهزوما وانتصر فريق غزّة بعدم تمكين هذا الفريق المجرم من الوصول إلى
أهدافه؛ فستبقى الثغرة التي فتحت في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في توسّع مستمر، وستبقى مفاعيل الهزيمة تفعل فعلها نفسيّا وروحيا، نحو المباراة الفاصلة في الموسم
القادم، الذي لن يكون بعيدا، وسيكون تفكيك المشروع الصهيوني أمرا ممكنا، خاصّة إذا
أنتج هذا الفوز في المباراة تأثيره الكبير على ثقافة أمّتنا المأزومة، وصار هذا
الفريق نموذجا للتحرّر وطريقة عمل في الوقوف في وجه الظالمين.
وهنا، لا بدّ للجماهير العربية المتفرّجة على هذه المعركة أن تغيّر من طريقة إسنادها،
فلا يمكن استيعاب أن المساندة لا ترتقي لمستوى تشجيع فريق كرة قدم. وهنا لا بدّ من
الاهتمام بثقافة هذه الأمّة هذه الأيام وعن دور الدين فيها، وهنا لا بدّ وأن نفرّق
بين الدين الشكلي الذي لا يُنتج إلا في هوامش ضيّقة، وتحت سقف منخفض (حسب ما يريده
أعداؤه)، وبين الدين الذي يُنتج ثورة على الباطل والفساد والظلم بكلّ أشكاله،
الدين الذي يسحب البساط من تحت الصنميّة والجاهلية بكلّ أشكالها وألوانها
وأنواعها، باختصار الدين الذي يحرّر الانسان، وهذا الذي حرّره الإسلام يكون عنصرا
من عناصر جيل التحرير، ومن ثم تحرير شعوبنا العربية من الطغاة الذين يمنعون
الناس من الوقوف مع قضيتهم المركزية، القدس وفلسطين، ويمنعون الناس من النصرة
الكاملة لإخوانهم الذين يتعرضون لمجازر الصهيونازية والأمريكية المتصهينة.
لقد
تأهلت
المقاومة في غزة لقيادة الأمّة، ونجحت نجاحا باهرا في صناعة النموذج الذي
يطبّق الدين كما هو: ثورة في حياة الناس وثورة على الظلم والظالمين، وبطريقة عملية
منظورة للعالمين. لقد أخرجت الأمر من الحيّز النظري والمعرفي إلى الميدان العملي،
لذلك تكالبت كلّ قوى الشرّ على هذا النموذج؛ لأنها تعرف ديننا جيّدا وتعرف الطاقة
الكامنة فيه، ولأنها تريده لنا فقط تحت السقف المنخفض الذي يريدونه لأمتنا، دين إسقاط
الواجب ودون أن يكون لأهله قوة أو تمكين، بل تبع للآخرين، وفي ذيل القافلة.
لقد
تأهلت غزّة لقيادة الأمة بجدارة، والمطلوب من الأمّة أن تأخذ الكتاب بقوّة، وأن
تفعّل دين الثورة بدل الدين الذي تريده أنظمة المحور الأمريكي في المنطقة. وقد
قالها عبد الوهاب المسيري؛ إن قوة كيان الاحتلال تكمن في
الدعم الأمريكي غير
المحدود، والغياب العربي بلا حدود.