إنها لأيام بالغة الثقل، يحتار بها أعتى الكُتَّاب تجربة وخبرة بأحداث
الحياة فيها، فماذا -يا ترى- يستطيع القلم أن يكتب؟ وكيف يعبر؟ وأنّى له وحبر
الكتابة نفسه إنما يسيل بدم إخوتنا! ليس هناك في
غزة أو عموم
فلسطين، فلا "هناك"
في الأمر، وليس أهل غزة أو فلسطين "جيرانا" لنا كما يجرؤ المزيفون على
القول، وإنما هذا الضرب والقصف والقتل والتجويع والتعطيش والهدم والأشلاء والدماء، إنما هو في أجسادنا نحن الذين نشاهد؛ دون أن ندري أن الجروح ليست جميعها تُرى، وإنما
الفيصل فيها أن تُحس، فإنما تُقصف بيوتنا، تتآكل أرواحنا، تثور دماؤنا علينا وهي
لا تدري متى تسيل.
تزداد جراحنا عمقا لأنها مخذولة، سلبت حتى حق الظهور إلى العلن، نمضي
ويتأصل الجرح فينا، بالإضافة لشعور لا يُعبَرُ عنه بالذنب، فحينما لا ننصر أنفسنا
في غزة وفلسطين مرات عديدة، لا يسكن الجرح أو يصمت، بل يزداد توغلا والتهابا في الداخل،
فإنما تتعود الكائنات الأخرى الأبعد عن البشرية والإنسانية بمسافة على الأحداث
المريرة، فكيف يمكن لإنسان أن يرى بعضا منه يُقطع ويُمزّق بل يُؤكل، يهجّر بعيدا
عن جسده ويستمر في الحياة؟ نشعر بأننا مشاركون على نحو ما غامض في قتل أنفسنا
واستنزاف طاقتنا وقواتنا، يخجلنا الصمت وتقتلنا قلة الحيلة، نتمنى لو استطعنا
التنكر حتى لأنفسنا لكي لا نُسلّم بأن جزءا عزيزا من قلوبنا وأرواحنا وأنفسنا يقذف
بأعتى الأسلحة المحرمة منذ أكثر من نحو ثلاثة أشهر، فيُستشهد الآلاف ويجرح ويصاب
أضعافهم. نشاهد في المقابل، نمصمص الشفاه، نتواصى بالمقاطعة وترك منتجات الدول
التي تعين المحتل الغاصب، نحاول إقناع أنفسنا بأنه دور رادع فتاك أو حتى مناسب،
نهدأ وتتناسى الأمور بعد مضي المأساة فننسى حتى المقاطعة، كما فعلناه وتناسيناها
مرات عديدة من قبل.
يُلبس البعض أعذاره ثوب المنطقية، يحمل
المقاومة الفلسطينية المسؤولية،
يتقولون بأنه لم يكن من داع لكي تبدأ المواجهة التي تكاد تكون الأولى في تاريخ
العرب، فقد تعوّدنا أن يبدأ الكيان الغاصب الحرب علينا خاصة في داخل حدودنا
المحتلة، يكون لنا حق الدفاع عن النفس، ويبقى له حق المبادرة وإحسان إعداد التفاصيل
البالغة الأهمية؛ من المكان والأجواء وتحصين نفسه وإرهاقنا بالصمود والاستبسال
أمام ضرباته، لكن كسرت المقاومة الفلسطينية المعادلة تماما، محت من الوجود معنى
التفوق الصهيوني والغربي على العقلية العربية، بل إننا نستطيع تكرار الخيبة على
أعدائنا مرتين في نفس التوقيت خلال 50 عاما، دون أن يعي الدرس أو يستوعبه أو حتى
يتفهمه، وإن كان الرئيس المصري الراحل أنور السادات كاد يضيّع انتصار 10 رمضان/ 6
أكتوبر 1973م، فإن المقاومة لن تكرر ذلك!
يريد البعض تلبيس الأمور على الأمة أكثر، بإفهام فصائل المقاومة بأن الصمت
وتقبل الواقع خير وسيلة لبقاء الآمنين والصغار والنساء على قيد الحياة، إلا أنهم
لا يفهموننا: أي حياة هي؟ يُقتلُ الفلسطينيون عند المسجد الأقصى والمعابر بدم بارد
كالثلج؛ من جنود تجمعوا في فلسطين ليهينوا الدم العربي دون أن يخافوا ردعا أو حتى
مجرد رد..
أهي حياة منزوعة الكرامة والفاعلية معا؟ يرتع العدو تحت ضغط السلاح في
ربوعنا هناك، يُغتال منا مجرد الشعور بالبقاء على قيد الحياة، نستهلك الحياة أو
تستهلكنا دون أمل في ردعه أو إيقاف مخططاته، فإذا ما همَّ بعض من الأمة بالبدء في
المنحنى التصاعدي الطويل لدحره، راح البعض يلومهم ويكرر على مسامعنا وجوب المسالمة
للنجاة، ورحم الله المتنبي إذ يقول:
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ
وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ
وَكُلُّ شَجاعَةٍ في المَرءِ تُغني
وَلا مِثلَ الشَجاعَةِ في الحَكيمِ
تساهم المواقع الإخبارية مع مواقع التواصل في تجسيد شعورنا
بانتظار دورنا في الفاعلية وتقديم شيء مادي ملموس، بعد المقاطعة التي نتمنى دوامها
واستمرار تفعيلها، يرانا صغارنا محملقين في الشاشات متمنين فعل شيء ما أمام حقيقة
تكالب الأنظمة الغربية ضدنا، يستمر العدوان على المدنيين ومنع سُبل الحياة عنهم. كبر صغارنا وصاروا شبابا، نضج هذا الجيل الذي طالما تمنى غيرنا أن يتناسى قضاياه
وعلى رأسها فلسطين، تسألنا أعينهم: ماذا نحن فاعلون أمام دموع الصغار اليتامى
والكبار المفجوعين في أطفالهم وأقرانهم إن لم يكن آباؤهم أو أندادهم؟
نختزل الرد داخل أنفسنا، يقوى يقيننا بعدالة وقوة قضيتنا مع
اكتمال تجرد العدو من كل معاني
الإنسانية، وصمت وتواطؤ الغرب رسميا في القرن
الحادي والعشرين مع جريمة بشعة في حق قطاع غزة كله، وإن يوم عودة حضارتنا ليؤذن
بالإشراق ومحو لحظة عربية طالت وحضارة مادية ربضت على صدر العالم، فجعلتنا نمر
بأحداث مريرة، ويوم تسود حضارتنا مجددا -بإذن الله- ستعرف الأرض معاني العدل
واستحقاق المحاسبة والأمن الحقيقيين.