يقف من أطلق على نفسه
العالم المتحضر أمام مرآة الحقيقة؛ النظام الدولي بقوانينه ومواثيقه ومبادئه الذي
فصّلها بعد الحرب العالمية الثانية، لينظر إن كان ذلك النظام لا يزال على مقاسه أم
إنه أصبح واسعا عليه بعد أن تقلصت أردافه بفعل ضربات الشعوب الحرة خلال الأعوام الخمسين
الماضية.
في لاهاي، حيث مقر
محكمة
العدل الدولية، تتجه أنظار العالم لخمسة عشر قاضيا يعتلون منصة أعلى منبر
للعدالة في العالم، وينظرون أيهتدون أم يكونون من الذين لا يهتدون، إذ إن دور
القضاة الخمسة عشر هو حل النزاعات بين الدول، طبقا للقانون الدولي و"العدالة
الدولية"، وصولا للحفاظ على السلم والأمن الدوليين. كما أن دورهم تعزيز
وحماية حقوق الإنسان، مما يسهم في تحقيق العدالة والإنصاف، ومحاسبة الأطراف
المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي، مثل جرائم الحرب والإبادة
الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وهي كلها جرائم تضمنتها عريضة الدعوى المرفوعة من
دولة
جنوب أفريقيا ضد الكيان المحتل لفلسطين منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
الماضي. وعلى الرغم من أن العريضة ربطت الجرائم بهذا التاريخ، إلا أن جرائم
الاحتلال سبقت حتى الإعلان عن الكيان، والضحايا يتجرعون مرارات انتهاكاته وويلات جرائمه
منذ ما يقارب الثمانين عاما، من قتل وتهجير قسري واغتصاب للأموال والنساء واختطاف
للأطفال.
من المفترض أن هذه الهيئة العدلية
العليا مؤسستية ومهنية، ولا يخضع قضاتها لسياسات الدول التي ينحدرون منها، لكن هذا
الكلام العظيم، إلى أي مدى يمكن أن ينسحب على ذلك الكيان المدلل؟
من المفترض أن هذه الهيئة العدلية العليا مؤسستية
ومهنية، ولا يخضع قضاتها لسياسات الدول التي ينحدرون منها، لكن هذا الكلام العظيم،
إلى أي مدى يمكن أن ينسحب على ذلك الكيان المدلل لدى أكثر من خمس دول، ينحدر عدد
من القضاة منها، وعلى رأسهم رئيسة الهيئة القاضية جوان دونوهيو، الأمريكية الأصل،
التي وقفت كمحامية لبلادها أمام المحكمة نفسها في الدعوى المرفوعة من نيكارجوا،
التي بالمناسبة خسرتها واشنطن، لكن أمريكا لا تنسى أبناءها، فقد عينت السيدة
دونوهيو في الخارجية الأمريكية، وتشربت من سياساتها و"ألاعيبها" قبل أن
تختارها قاضيا في محكمة العدل الدولية، وهي القاضية الوحيدة في التشكيلة الحالية
للمحكمة، التي لم يصبها دور التغيير الذي يتم كل ثلاث سنوات، وتتم الآن دورتها
الثالثة.
حديث المجتمع الدولي عن العدالة تنقصه العدالة، إذ إن كل
الآليات والأدوات أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، ونظّر لها المفكرون من أمثال
هوجو جروتيوس، والمكنى بــ"أبو القانون الدولي"، وإيمانويل كانط، وهانز
كيلسن، وغيرهم. فحتى لو كانت النظريات والأفكار غُلفت بالمثالية، إلا أن تطبيقها
طوع لمصلحة الأقوى، ولعل بعض هؤلاء المنظرين رأى بأم عينه هذا الإجحاف وليّ عنق
النظريات لمصالح سياسية في دوائر استخلاص الحقوق، فأُذل فيها الضعيف وأُعز القوي
ولو كان باغيا، أو أُنصف المظلوم نكاية في الظالم أو من يدعمه.
ومن
ذلك، قضية
الإبادة الجماعية في البوسنة والهرسك ضد صربيا والجبل الأسود، التي
نُظرت عام 2007، فعلى الرغم من أن المحكمة انتهت إلى أن صربيا انتهكت التزامها
بمنع الإبادة الجماعية، لكنها لم تجد صربيا مسؤولة بشكل مباشر عن ارتكاب الإبادة
الجماعية، وضاع دم المسلمين البوسنيين في أروقة قصر السلام في لاهاي، حيث مقر
العدل الدولي
من المهم أن نضع في اعتبارنا أنه بينما تعالج محكمة العدل الدولية النزاعات
بين الدول، فإن قراراتها قد تكون لها آثار أوسع على حقوق الإنسان والعدالة، وهو ما
يكفينا كانتصار إذا ما أدانت المحكمة فعل الاحتلال. ومع ذلك، علينا أن نتفهم أن
سلطة محكمة العدل الدولية تقتصر على إثبات موقف وإقرار حال، وفي حالتنا هذه،
يكفينا انتصارا أن كسرنا ذلك الحاجز الذي لم نستطع أن نعبره على مدار خمسين عاما،
في ظل محاباة من الغرب المنحاز للاحتلال والجائر على حقوق الفلسطينيين والعرب
والمسلمين.
والحقيقة التي يجب أن يقف العالم عندها، هي أن
غزة
وحدها بشعبها الصامد تكتب تاريخ العالم الآن، غزة وحدها اليوم هي من تضع العالم
عند حقائق، طالما تم تزويقها لكي يختفي قبح ما حوته سياسات ومصالح الأنظمة أمام
عدالة القضايا وحقوق الشعوب، غزة وحدها هي من كشفت فساد تلك الأدوات والآليات التي
وضعتها الدول التي تدعي التحضر لتكيل مكيالين؛ مكيالا يزن العدالة بين شعوبها
ودولها، وآخر صُنع خصيصا من أجل تلك الشعوب المستضعفة. لكن جنوب أفريقيا، التي
تصنف ضمن الفئة الثانية، أرادت أن تعدل تلك الموازين وتكسر قواعد القياس بمقاييس
عنصرية تقيس المظالم بقياس من يطالب بها، وهي بدعواها هذه تضع المرآة أمام هذا
العالم، كما تضعها أمام من يدعي العروبة ويدعي الإسلام ويدعي الإنسانية.
من
المهم أن نضع في اعتبارنا أنه بينما تعالج محكمة العدل الدولية النزاعات بين
الدول، فإن قراراتها قد تكون لها آثار أوسع على حقوق الإنسان والعدالة، وهو ما
يكفينا كانتصار إذا ما أدانت المحكمة فعل الاحتلال. ومع ذلك، علينا أن نتفهم أن
سلطة محكمة العدل الدولية تقتصر على إثبات موقف وإقرار حال، وفي حالتنا هذه يكفينا
انتصارا أن كسرنا ذلك الحاجز الذي لم نستطع أن نعبره على مدار خمسين عاما، في ظل
محاباة من الغرب المنحاز للاحتلال والجائر على حقوق الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
وعلينا أن نعلم أن المحكمة ليس لديها من آليات التنفيذ ما يجعل أحكامها قاطعة
ملزمة، إلا أنها ستدعم موقف المظلومين أمام المحكمة الجنائية الدولية لملاحقة كل
مجرمي الحرب، كما حدث في البوسنة ورواندا. وعلينا أخيرا أن نؤمن بأن شجرة العدالة
لن تورق إلا بالتضحيات؛ فإن أردت أن تشارك في إنماء ثمارها، فعليك أن تتحرك في هذه
الفاصلة التاريخية التي تجني فيها الشعوب مكتسبات، وتنتزع حقوقها انتزاعا ممن
سلبها.