في مقال بصحيفة "فايننشال تايمز"، كتب الصحفي جدعون راشمان، كبير
المعلقين في قسم الشؤون الخارجية في الصحيفة: "لقد سمعت كبار المسؤولين في
الاتحاد الأوروبي يقولون بشكل صريح؛ إن أوروبا لن تدفع تكاليف إعادة إعمار
غزة
(خاصة أن ما تحتاجه أوكرانيا من أموال يعد كبيرا)".
وبعيدا عن السيناريوهات السياسية التي تطرحها مراكز الأبحاث؛ سواء باجتهاد
أو نيابة عن حكومات، وسواء كانت تلك السيناريوهات يحضّر لها فعليا، أو مجرد تمنيات،
أو حتى أحلام تصطدم بواقع المقاومة وصمود الشعب في غزة، فإن الحقيقة التي لا يمكن
تأجيل الحديث عنها هي إعادة إعمار غزة، لتبقى لأهلها ولو كره الكارهون فرادى أو
متحدين. والحقيقة الثانية التي يجب أن تظل أمام أعيننا كشعوب، أن غزة وأهلها حاربوا
وسيحاربون نيابة عن الأمة، سواء رأى ذلك من يديرون أمور بلادنا أو لم يروا، وسواء
فهموا أو تواطؤوا.
هو ما حرك الشعوب الحرة في أنحاء العالم وأخرج الملايين للتظاهر ضد الوحشية الغربية الداعمة للاحتلال وآلته، وهو ما أثر كثيرا في ذاك الدعم. مع ذلك لا يزال نفوذ الاحتلال بلوبياته المتشعبة والمتجذرة في دوائر الحكم في العالم، كل العالم، له تأثير كبير حتى على المنظمة الأممية وأمينها العام، الذي اضطر للتراجع عن تصريحاته في الوقوف محايدا وفقا لمهام وظيفته، وهو الموقف الذي لا يعجب الاحتلال ولوبياته.
لقد أبلت الشعوب العربية والإسلامية بلاء حسنا فيما تملك من قدرات وعلى قدر
المتاح من مساحة لنصرة غزة، خلال أيام الحرب ولا يزالون، سواء بالدعم المالي أو
الإعلامي على مستوى القنوات الحرة أو الإعلام الاجتماعي، من خلال مواقع التواصل
الاجتماعي، وهو ما حرك الشعوب الحرة في أنحاء العالم، وأخرج الملايين للتظاهر ضد
الوحشية الغربية الداعمة للاحتلال وآلته، وهو ما أثر كثيرا في ذاك الدعم. مع ذلك، لا يزال نفوذ الاحتلال بلوبياته المتشعبة والمتجذرة في دوائر الحكم في العالم. كل
العالم له تأثير كبير حتى على المنظمة الأممية وأمينها العام، الذي اضطر للتراجع
عن تصريحاته في الوقوف محايدا وفقا لمهام وظيفته، وهو الموقف الذي لا يعجب
الاحتلال ولوبياته.
عودا إلى ما كتب الصحفي جدعون راشمان، الذي يندرج تحت بند "خذّل عنا
يا نعيم" لإجهاض أي جهود محتملة لإعادة إعمار غزة من الاتحاد الأوروبي، لا سيما
ألمانيا؛ الداعم الأكبر في هذا الاتحاد لغزة بعد كل عدوان من الاحتلال، فإن جهود
الإعمار سواء كتب راشمان أو لم يكتب، ستكون أصعب هذه المرة، وذلك لعدة أسباب، أولها: الحالة الاقتصادية التي يعيشها العالم منذ خمس سنوات، سواء بسبب الانكماش
الاقتصادي الذي دخل فيه العالم، أو بسبب تفاقم ذلك الانكماش بجائحة كورونا، أو
بسبب ما تلتها من حرب في أوكرانيا، وما تبعها من تقلص سلاسل الإمدادات.
وثانيها: موجة التطبيع التي شهدها العالم العربي، وهو ما أثر سياسيا خلال
فترة الحرب في غزة على تحرك جاد لوقف المجزرة في عرضها المستمر طوال أيام الحرب.
وثالثها: الدعم غير المحدود من الإدارة الأمريكية للاحتلال وأهدافه في غزة، سواء
بإنهاء المقاومة نهائيا ولو على حساب المدنيين، أو إفراغ الأرض بالكامل وتوزيع
سكانها على بعض الدول، كما طرحت وزيرة الاستخبارات
الإسرائيلية غيلا غملئيل، في
مقال نشرته لها صحيفة جيروسالم بوست العبرية.
وبالمناسبة، فإن فكرة إعادة توطين أهالي غزة طرحت عام 1971 في أثناء احتلال جيش
العدو لسيناء، بمعنى أن الفكرة طرحت قبل أن تولد حماس، لكنها طرحت لأن غزة
ومخيماتها كانت بؤرا للمقاومة، إذ الأزمة في أن تقاوم، الأزمة أن تبحث عن حرية،
الأزمة أن تطالب بحقك المسلوب.
إعادة إعمار غزة ستكون مهمة معقدة، لأنها بالأصل كذلك، إذ إن آلية إعمار غزة التي أقرت بعد عملية "العصف المأكول" عام 2014 باتفاق في الأمم المتحدة، كانت تنص على تدقيق مخابرات الاحتلال لعمليات إدخال مواد البناء ومستلزماته، ومع ذلك توقفت، لكنها ستظل مرجعا إذا اتخذ القرار، لذا وجب العمل والضغط شعبيا وسياسيا من الدول الحرة، لاستبدال تلك الآلية باتفاق آخر يشرف عليه داعمون.
لقد كانت لفتة طيبة من أمير قطر بتبرعه بمئة مليون ريال قطري لحملة
"واجب
فلسطين" التي أطلقتها هيئة تنظيم الأعمال الخيرية، وهو ليس بجديد
على قطر وأميرها؛ الذي طالما وقف ودولته سندا لغزة ولا يزال. ولعل الأمير ليس وحده
في هذه الساحة، فالكويت داعم قوي، مع تركيا وغيرها كثير ممن لا تزال النخوة
الإسلامية تدفعهم، وهناك من تدفعهم شعوبهم لهذه المساعدة أو تدفعهم دول كبرى، لكن
الخلاصة هنا وصلب المقال، أنه إذا كانت الدول ستدعم، فإن الدعم الأكبر يجب أن يكون
من تلك الشعوب الحرة العظيمة التي دفعتها إنسانيتها أولا ثم دينها لدعم غزة
للصمود، وعليها أن تكمل معركتها التي ستبدأ بعد الحرب.
مجرم الحرب نتنياهو أخذ قرار الرد على "مرمغة" شرفه وشرف جيشه
الذي لا يُقهر في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، واستعادة هيبة كيانه
الغاصب أمام حكام المنطقة، وهو الذي كان يرشح نفسه لقيادتها. وهنا دعني عزيزي
القارئ أستدعي في هذا المقام تغريدة أحد مستشاري حاكم دولة خليجية بعد عملية طوفان
الأقصى، حيث وصف العملية بالكاشفة، فقد كانت ترد على بلاده
والخليج فكرة أن تتخذ الكيان حاميا لها من أطماع إيران، وهو ما يوضح لماذا
هذا القصف العنيف للاحتلال، الذي يهدف ألا يبقى في غزة حجر على حجر، لكنه أيضا
يريد أن يفرغ فلسطين من أهلها ليتفرغ لنهب المنطقة بداعي قيادتها.
التقديرات الأولية، وحتى قبل انتهاء الحرب، لكلفة إعادة الإعمار حوالي 500
مليار دولار، ستتحملها دول الخليج في الخطة الأمريكية، بعد بناء نظام سياسي منزوع
السلاح والصلاحيات في القطاع، وهو السيناريو الثاني إذا لم يتم إنجاز خطة التهجير،
لكن إعادة إعمار غزة ستكون مهمة معقدة؛ لأنها بالأصل كذلك، إذ إن آلية إعمار غزة
التي أقرت بعد عملية "العصف المأكول" عام 2014 باتفاق في
الأمم المتحدة، كانت تنص على تدقيق مخابرات الاحتلال لعمليات إدخال مواد البناء
ومستلزماته، ومع ذلك توقفت، لكنها ستظل مرجعا إذا اتخذ القرار، لذا وجب العمل
والضغط شعبيا وسياسيا من الدول الحرة لاستبدال تلك الآلية باتفاق آخر يشرف عليه
داعمون، لكن الأهم هو الدور الشعبي والنخبوي في هذه المرحلة، سواء لطرح فكرة
الاتفاق وبنوده بما لا يضر المقاومة، أو بالضغط لإنفاذه.
إنها معركة النفس الطويل، والاحتلال يراهن على قصر أنفاسنا. إن هذه المعركة هي معركة الإنسانية التي ترفض الاستعباد والظلم والقهر والكيل بمكيالين، إنها معركة العدالة قبل العدل، إنها معركة يمكن أن تغير وجه العالم لو اتحد الأحرار، فقد كشف العدوان على غزة عورات القواعد التي تحكم العالم.
ويبقى الأهم في هذه الفكرة، هي الأموال التي ستضخ من أجل تثبيت الفلسطينيين
في أراضيهم، ولا شك أن المبلغ المقدر كبير، وهنا أقترح لتمويل إعادة الإعمار
فكرتين، طبعا بالتوازي مع التمويل الحكومي المنتظر من بعض الدول، الفكرة الأولى هي
ملاحقة حكومة الاحتلال من خلال دعاوى ترفع لتعويض المتضررين، سواء على المستوى
المادي في بنايتهم وأملاكهم، أو المستوى المعنوي عن الأضرار التي أصيبوا بها جراء
فقدان الأهل في القصف الوحشي للاحتلال، على أن تظل هذه الدعاوى مستمرة يُستنزف بها
الاحتلال. والفكرة الثانية هي إنشاء صندوق، أو عدة صناديق شعبية لتمويل إعادة
إعمار غزة وتثبيت أهلها، ويشرف على هذه الصناديق شخصيات ذات ثقل، كرؤساء أو وزراء
سابقين لهم وزن ويتمتعون بثقة شعوبهم، وفي الوقت نفسه لهم قبول دولي، أو شخصيات
عامة تتمتع بالمواصفات نفسها، تعمل على تنظيم عمل هذه الصناديق وضمان إيصال مواردها؛ تحقيقا للهدف الذي أنشئت من أجله.
عزيزي القارئ إن معركة غزة ليست معركة عسكرية أو سياسية؛ تنتهي الأولى
لتبدأ الثانية ونجلس نحن نتابع عن كثب أو مع الوقت على مضض، أو نلتهي بمشاغل الحياة
الرأسمالية التي جعلتنا عبيدا لآلة يتحكم فيها الذين دمروا غزة نفسهم. إنها معركة
النفس الطويل، والاحتلال يراهن على قصر أنفاسنا. إن هذه المعركة هي معركة
الإنسانية التي ترفض الاستعباد والظلم والقهر والكيل بمكيالين، إنها معركة العدالة
قبل العدل، إنها معركة يمكن أن تغير وجه العالم لو اتحد الأحرار، فقد كشف العدوان
على غزة عورات القواعد التي تحكم العالم، والتي تتأثر أنت بها خلال دوامك في العمل
بقوانينه التي لولا نضال من قبلنا ما حظينا بهذا القدر من المنافع. مع ذلك عزيزي
القارئ، لا يزال الظلم هو السائد وعلينا محاربته، وأول معاركنا معه ستكون تثبيت أهل
غزة وإعادة إعمار قطاعهم.