تبدو سردية الوقوف العربي الرسمي مع
فلسطين قضية وشعبا ومقاومة وحقوقا، وهي تواجه أزمتها الخاصة الرسمية منذ العدوان على
غزة، في حالة
انهيار كبير، بعد استهلاك معظم الرواية الرسمية العربية لتلك السردية عن المصلحة
المشتركة والأمن العربي والمصير الواحد، ورسم الخطوط الحمراء حول جرأة الجرائم
الإسرائيلية.
ورهن هذه المصائر مع المشروع الاستعماري في فلسطين، وربط مصالح النظام الرسمي
العربي معه، يفسر شراسة المعركة الدائرة ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته، والتي بلغت
ذروتها في مواقف عربية مخزية من العدوان على غزة، وعجزٍ مجلل بعار المواقف من
جرائم الإبادة في غزة.
بعيدا عن إنشاء لغة البيانات العربية بالتعبير عن مواقف
من الجامعة العربية إلى وزراء الخارجية والزعامات، تدعو لوقف إطلاق النار وتقول إنها
ضد كل ما يجري من انتهاكات ضد الفلسطينيين، وتدين سلوك الاحتلال، فإن السردية
العربية وإشكالياتها تبقى مرتبطة مع الاستجابة الفعلية للشروط الأمريكية والإسرائيلية،
والتي تقول بجوهرها: إن مصلحة النظام الرسمي العربي هي الاحتفاظ بالشريك الإسرائيلي
سرا وعلنا، وهذا يعود على النظام العربي بفائدة مرتبطة بمصالح سيطرة الاستبداد
والقمع والقهر على مجتمعات عربية. ومن هنا نشأت الصعوبة لهذه الأنظمة بعدم التوفيق
في الاستثمار على جانبي الشعارات، وفي لحظة الحقيقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني
في مواجهة العدوان والتصدي لحكومة صهيونية فاشية، لا تخفي مُطلقا سياساتها الإجرامية
بحق الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته.
مسألة التمييز بين الأقوال والأفعال حول قضية فلسطين
وشعبها الذي يتعرض للإبادة، أثيرت منذ عقود طويلة، واليوم هناك استحقاق آخر
للتمييز بين الأوهام والواقع الذي يقصف فيه بنيامين نتنياهو وحكومته الفاشية
بقنابل وصواريخ مُحطمة لرؤوس وأجساد الفلسطينيين، ولأوهام عربية وفلسطينية عن
التطبيع والسلام، وعن الدولة الفلسطينية الموعودة.
فبنيامين نتنياهو لا يخفي تفاخره المعطل لقيام دولة
فلسطينية، ومعارضته لأي سيادة فلسطينية على الأرض، وبأن مواقفه الثابتة من التسوية
تقوم على عدم العودة لحدود حزيران 67، وعدم إقامة دولة فلسطينية، وعدم وجود سلطة
للشعب الفلسطيني في القدس الشرقية، وهو موقف منسجم مع مواقف وسياسات ائتلافه
الفاشي، الذي يدعو فيه بن غفير وسموتريتش وعميحاي وميكي زوهر، لإبادة جماعية في
غزة وطرد جماعي للفلسطينيين من مدنهم وقراهم في الضفة أو لحرق قرى وبلدات بعينها،
وتوسيع دائرة الاستيطان ومصادرة مزيد من الأراضي، وتسريع هدم المسجد الأقصى وبناء
الهيكل.
ورغم الموقف الأمريكي الرافض لبعض المواقف الإسرائيلية ومنها
تصريحات نتنياهو الأخيرة عن رفضه قيام دولة فلسطينية، وعزمه السيطرة الأمنية
الدائمة على قطاع غزة مستقبلا وعلى البقاء في غور الأردن، فلا يمكن حسم هذا لصالح
الشعب الفلسطيني، لأسباب وظروف عدة أهمها أن المشروع الصهيوني سيبقى نتاج الجهد المشترك
بين الحركة الصهيونية والولايات المتحدة الأمريكية، وأن الأخيرة ستحسم أي خلاف
بينهما لصالح المشروع الصهيوني.
ومسألة التسوية والسلام في المنطقة العربية قائمة من
وجهة نظر أمريكية وإسرائيلية، يراعى فيها أولا وأخيرا مصلحة المشروع الاستعماري.
وقد كان لاتفاقات "أبراهام" تجسيد قوي لهذه المصلحة، وإن كانت بعض
الأطراف العربية المُطبعة قد ألحقت خطوتها التطبيعية بالربط بينها وبين مصلحة
الفلسطينيين، لكن كما رأينا أن هذا السيناريو قد صب في المصلحة الأمريكية الإسرائيلية
المشتركة وبعيدا عن الحقوق الفلسطينية.
كنا ننتظر أن يقلب العدوان على غزة الأمور رأسا على عقب،
على الأقل في المواقف العربية، وحين نقرأ مواقف غربية من تصريحات ومواقف رئيس وزراء
إسرائيل وحكومته الفاشية حول رفض الدولة الفلسطينية، وموقفه من "السلام"،
وتهديد بعض دول الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات على إسرائيل لرفضها مبدأ حل الدولتين،
ومراقبة انضمام كل من المكسيك وتشيلي، إلى الدعوات للمطالبة بإجراء تحقيق من جانب
المحكمة الجنائية الدولية، مع غضب واضح مقرون بأفعال من دول في أمريكا اللاتينية
إلى جنوب أفريقيا وشوارع غربية ترفض سياسة "الأبارتايد" الصهيوني في
فلسطين، فإننا بالمقابل نقرأ ثباتا عربيا أكثر خزيا وعارا بعد 109 أيام من جرائم
الحرب والإبادة الجماعية في غزة والتي أصبحت يومية وعلى مدار الساعة.
تحجيم دور الشعارات المرتبطة بالسلام والدولة الفلسطينية،
قد نجح فعليا باعتماد أدوات وأدوار أخرى منذ ما بعد أوسلو 1993، بفضل سياسات
صهيونية واضحة، وبفصاحة نتنياهو وأركان ائتلافه من مستقبل الشعب الفلسطيني وحقوقه،
ومع تأمين الضمانات اللازمة للاحتلال الإسرائيلي منذ الانقلاب على الثورات العربية
وصولا لمعركة طوفان الأقصى، وتغليب دور الشريك الصهيوني مع أطراف عربية على حساب
القضية الفلسطينية وقضايا عربية أخرى مرتبطة بالحرية والديمقراطية، مما خلق أزمة
مركبة للنظام العربي، لعدم قدرته على الانسجام بين شعاراته وسلوكه على الأرض بما
يخص بناء مجتمعاته على أساس ديمقراطي وتنموي، أو بالنسبة لقضيته التي بقيت تمثل
بوصلة وطنية وأخلاقية وإنسانية في وجدانه.
أخيرا، فقدان النظام العربي لصفة المبادرة والمشاركة في دعم
مقاومة الشعب الفلسطيني، ودعم صموده فوق أرضه بكل جذرية ووضوح، وفقدان السلطة
الفلسطينية مبرراتها للتمسك بأوهام السلام والتعايش مع مشروع استعماري، والتخلي عن
أهم أسلحتها الممثلة بالشارع الفلسطيني ومقاومته، يساهمان في صناعة مواقف وسياسة
صهيونية أكثر فاشية، ومن لا يُصدق نحيله إلى كل الوثائق والوقائع المرتبطة بـ"السلام"
وإلى السلطة الفلسطينية نفسها، وإلى فصاحة وصراحة حكومة صهيونية فاشية تحمل في
داخلها كل عناصر الانفجار، ونحيل الملف برمته للشعب الفلسطيني الذي اكتشف الخديعة
وقاومها، وسيبقى يقاومها إلى أن ينتزع الحق والعدل، وهو المساحة المضيئة للشعب
الفلسطيني الذي أحسن التمييز بين ظاهر الأمور وجوهرها.
twitter.com/nizar_sahli