غزة المدينة
القديمة بقدم التاريخ والتي لم تنعم بالراحة منذ لحظة وجودها على تلك الأرض.. ومنذ
خط التاريخ اسمها عندما أنشأها الكنعانيون في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ومن
وقتها هي عرضة للاستعمار والمستعمرين المختلفين، وكأنه كُتب على أهلها منذ أولى
لحظات ميلادها المقاومة. فعبر تاريخ غزة الطويل وأهلها يقاومون كل محتل يأتيهم
فيخرج وتبقى غزة وأهلها.
وأجمل مَن وصف
غزة كان المؤرخ المقدسي عارف العارف في كتابه "تاريخ غزة" حيث قال:
"غزة ليست
وليدة عصرٍ من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها.. لم يبق فاتح ولا
غازٍ، إلا ونازَلته، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه".
ولكن ما يحدث الآن
في غزة فاق في بشاعته ما مر عليها مجمّعا منذ نشأتها، حيث كانت تقاوم في كل مرة
محتلا واحدا مهما كانت قوته، أما الآن فغزة تقاوم العالم كله غربه وشرقه، كافره
ومسلمه، وكأنهم اتفقوا على التخلص من معنى الحرية والكرامة المرفوعة دائما بتلك
البقعة الصغيرة بالحجم الكبيرة بالأفعال.
في زماننا هذا
تحالف الأخوة مع الأعداء، كما فعل الثوران الأحمر والأسود عندما اتفقا مع الأسد
لقتل أخيهما الأبيض، ولم يدركا حينها أنهما وضعا نفسيهما على قائمة طعامه بانتظار
دورهما بالافتراس إلا حين فرَغ من أكل أخيهما فقال آخرهم: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.
هذا تماما ما
يحدث معنا منذ قرون، لكننا نتناسى وما فلسطين إلا تذكرة بالأندلس حين تخلينا عنها
فصرنا فريسة كل يوم تؤكل منا قطعة حتى تقلصنا لما يسمى بالوطن العربي، وصمودنا حتى
الآن ككتلة واحدة ليس لشيء سوى لأن هناك رقعة جغرافية متماسكة تجمعنا جبرا ولكن
للأسف قلوبنا شتى.
استطاع الغرب
تقسيمنا وتقزيمنا ونحن رضينا، لذا فالعار عارنا، والجريمة جريمتنا وليست جريمة
الغرب الذي استطاع أن يستفيد لصالح شعوبه من خلال عملاء زرعهم في أراضينا فسامونا
سوء العذاب، ولكن العار الأكبر أننا صرنا كشعوب أشبه بحكامنا؛ بخنوعنا وصمتنا
وخذلاننا لبعضنا البعض.
فبعد فشل سايكس
بيكو في تفتيت رقعة الوطن العربي بشكل شعبي بعد تفتيتها جغرافيا، أتوا لنا بكيان
سرطاني تمت زراعته في قلب الوطن العربي ليقسمه قسمين: آسيوي وأفريقي، وبدأ بمد
جذوره من خلال عملائه الذين أجلسهم على عروش دولنا فيُصمتهم بمجرد التلويح بكراسي
عروشهم حتى صار الكيان هو من يحكم الوطن العربي كله عدا غزة.
غزة مُحاصرة
لأكثر من عقد من الزمن بدبابات وأسلحة العدو الصهيوني من جانب؛ ومن جانب آخر
حصار أشد
وطأة من دول الجوار أو كما يطلق عليهم دول الطوق، وهو بالفعل طوق من فولاذ استخدمه
الصهاينة لخنق "الثور الأبيض" آخر المقاومين له، والذي إذا سمحنا بأكله
أُكلنا جميعا من بعده وحالنا سيؤول لحاله، وهو ما يحدث الآن.
لكن السؤال هنا:
كيف وصل بنا الحال أن جعلوا منا مشاركين في تلك الجريمة فتحولنا جميعنا للثور الأسود
ونحن نعلم خاتمة القصة؟
منذ أيام أعلنت إسرائيل
أنه لن تكون هناك عملية عسكرية برفح إلا بتنسيق مع الجانب
المصري.. والآن يقوم
الجيش الإسرائيلي بعملية عسكرية في رفح لقتل مَن تبقى من أهل غزة؛ في إبادة جماعية
تحت سمع وبصر العالم.
وهذا يعني أن
النظام المصري وافق على العملية، وما كان يعلنه من الرفض وتحريك قوات على الحدود إنما
هي مسرحية لذر الرماد بعيون المصريين ليس أكثر، فلا يفتحون أعينهم إلا وتكون
الكارثة قد وقعت بالفعل على رأس أهل غزة والمصريين معا، ونكون أمام خيار واحد وضعه
السيسي والكيان الإسرائيلي لنختاره بإرادتنا المجبرة المقهورة، وهو فتح المعبر
لهروب أهل غزة من الإبادة الجماعية.
نحن أصبحنا شركاء
ليس في جريمة واحدة، بل في جريمتين وهما:
- جريمة
التهجير بصمتنا العاجز المتخاذل.
- وجريمة
السكوت عن أرضنا التي يبيعها السيسي ويتنازل عنها كيفما شاء ولمن يشاء.
تذكروا
جيدا أن اليهود بدأوا احتلال فلسطين بالسيطرة على أرضها باحتلال عسكري دعمته وأيدته
القوى العظمى حينها (بريطانيا) وأُمهر بوعد بلفور.. ونحن الآن في مصر يتم احتلالنا
احتلالا من نوع آخر، احتلالا اقتصاديا، فيستولون على أرضنا باسم الاستثمار.
وجميعنا نعلم أن الإمارات ما هي إلا برڤان تختفي خلفه الصهيونية، كما فعلت من قبل
في منازل القدس القديمة.. والآن تعاد القصة مرة أخرى حرف.. حرف مع تغير المكان
فبدل القدس صارت مصر كلها، وسيُمهر هذا
الاحتلال باسم صفقة القرن برعاية أمريكا.
ولكن يمكن لكل
هذا أن يتوقف ومصر هي الوحيدة القادرة على ذلك كما تم من قبل في 2012، عندما أرسل
الرئيس محمد مرسي المساعدات مع وفد بقيادة رئيس الوزراء فاضطرت إسرائيل لوقف إطلاق
النار فورا.
إسرائيل لا تعرف
سوى صوت القوة في 2012، وهو الصوت الذي اسمعهم إياه د. مرسي الذي كان يتحدث باسم
100 مليون مصري. وعلى النظام المصري الآن إذا أراد
وقف القتل والتهجير والحفاظ على الأرضي المصرية أن يتبع خطوات مرسي رغم كرههم له
ولكن تجربته أثبتت نجاحها.
لن أقول أنقذوا
غزة، بل أقول أنقذوا أنفسكم في غزة.