ينطلق اليمين
الغربي في دعمه المطلق لإسرائيل من منطلقات دينية في ظاهرها، كما أنه يتخذ من الهولوكوست مبرراً أخلاقياً شكلياً، لاستمرار دعم حكومة لا تلقي كثير اعتبار للقيم الدينية، ولا تلتزم بالمعايير الأخلاقية، وهنا مكمن تناقض هذا اليمين الذي يقدم دعماً غير أخلاقي، مدعياً الاستناد إلى أسس «أخلاقية».
الواقع أن المنطلقات الدينية والأخلاقية التي ينطلق منها اليمين الغربي في دعمه المطلق لإسرائيل هي في محصلتها النهائية مجرد غطاء للأهداف السياسية، تماماً، كما أن اتخاذ «الهولوكوست» مبرراً لاستمرار هذا
الدعم ما هو إلا «حيلة أخلاقية» أفرغت من مضمونها بعد تحويلها إلى مبرر لدعم دولة لا تلتزم بالأخلاق.
ومع أنه يمكن تفهم حجم الجريمة التي ارتكبت ضد
اليهود على أيدي النازيين، وكذا الحساسية التي تتسم بها هذه الجريمة، إلا أن هناك بعض الحقائق التي ينبغي الإشارة إليها، وفي مقدمتها أن التعاطف مع اليهود قد تم تسييسه كثيراً للتغطية على جرائم
إسرائيل في حق الفلسطينيين، وهذا المنحى جعل كثيرين ـ ومن اليهود أنفسهم ـ يحاولون النأي بالنفس عن تلك الجرائم، ويعيدون النظر في كون ما قاساه اليهود لا يزال سبباً حقيقياً للدعم غير المحدود الذي تقدمه حكومات غربية لإسرائيل، إذ لم يعد مبرراً القول بأن الدعم المقدم لإسرائيل هو نوع من الشعور بعقدة الذنب الغربية ومحاولة التكفير عنها، بل الواقع أن الدعم المقدم للحفيد الجلاد بذريعة الشعور بالذنب إزاء ما جرى للجد الضحية يعد ضرباً من المنطق المغلوط، أو بالأحرى محاولة للتغطية على حقيقة أن هذا الدعم يقدم لأهداف أخرى، لا لها علاقة بالتعاطف مع اليهود الذين يتظاهر الآلاف منهم ضد جرائم حكومة إسرائيل، وبالتالي فإن الدعم الغربي لإسرائيل يُقدم لأهداف لا علاقة لها باليهود كعرقية أو ديانة، ولكن لها علاقة بإسرائيل كدولة أو حكومة تمثل طليعة قوى الهيمنة الغربية على مقدرات المنطقة، وهي الحقيقة التي لم يعد بالإمكان إنكارها، والتي عكسها التصريح الشهير للرئيس الأمريكي جو بايدن الذي قال: «لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا إنشاؤها» كحاملة طائرات ثابتة في الشرق الأوسط.
إن الدعم الغربي لإسرائيل يُقدم لأهداف لا علاقة لها باليهود كعرقية أو ديانة، ولكن لها علاقة بإسرائيل كدولة أو حكومة تمثل طليعة قوى الهيمنة الغربية على مقدرات المنطقة
اللافت هنا أن اليمين الغربي المعاصر المؤيد لإسرائيل يعد امتداداً لليمين الذي خرجت النازية من عباءته، هذا اليمين الذي يُعَد العدو التقليدي لليهود هو اليوم المدافع الشرس عن سياسات إسرائيل الإجرامية ضد الفلسطينيين، وهو ما يلقي بشكوك كثيرة حول نوايا ذلك اليمين الذي يكره اليهود تاريخياً من جهة ويدعم إسرائيل من جهة أخرى، وهو موقف يقابله موقف يهود كثيرين ينددون بجرائم إسرائيل، ويهتفون في كل تظاهرة: «ليس باسمنا» بل وينكرون يهودية إسرائيل، ويفرقون بين الصهيونية التي هي أيديولوجيا غربية واليهودية التي هي ديانة شرقية أدلجها الغرب لتعود للشرق مشروعاً استيطانياً، مثلما أدلج الغرب المسيحية الشرقية، لتعود للشرق صليبية استعمارية.
إن الدعم الغربي لإسرائيل يُقدم لأهداف لا علاقة لها باليهود كعرقية أو ديانة، ولكن لها علاقة بإسرائيل كدولة أو حكومة تمثل طليعة قوى الهيمنة الغربية على مقدرات المنطقة
وبالحديث عن اليهود المعارضين لدولة إسرائيل فإنهم يشكلون مأزقاً لأولئك الذين ينظّرون لمفاهيم معاداة السامية، حيث يفشل تطبيق تلك المفاهيم على هؤلاء اليهود الذين يتعرضون لعمليات منتظمة من نفي يهوديتهم، على اعتبار أنهم «غير يهود» أو «كارهو أنفسهم» أو «ضد أمتهم» حسب تعبير أتيلا سومفالفي، في مقال له بصحيفة يديعوت أحرونوت قال فيها إن أكثر ما يثير الدهشة «هم اليهود الذين يشاركون في حملة تشهير ضد أمتهم» رغم أن هؤلاء اليهود يشكلون نسبة كبيرة، إذ تشير الباحثة في هذا الشأن إيميلي ديش بيكر إلى أن ثلث المتهمين بمعاداة السامية في ألمانيا كانوا يهوداً.
وبالنظر إلى وقوف كثير من اليهود ضد جرائم إسرائيل ودفاع اليمين الغربي ـ الديني والعلماني ـ عن هذه الجرائم يمكن بسهولة الاستنتاج أن إسرائيل لا تخدم اليهودية كديانة، ولكن تخدم مصالح النُخَب السياسية والاقتصادية والعسكرية الغربية التي أرادت أن تغسل جرائمها وتخبئ أطماعها تحت عباءة يهودية، فيما هي تعيش تناقضات ادعاء التعاطف مع اليهود من جهة، ودعم دولة ترتكب جرائم يندد بها اليهود أنفسهم من جهة أخرى، نُخَب تتخذ من الهولوكوست دافعاً لتبرير هذا الهوس الإسرائيلي في التدمير والإجرام، في حين يرى كثير من اليهود أنفسهم بأن الهولوكوست هو ما يدفعهم لمهاجمة جرائم إسرائيل، على اعتبار أن حكومة إسرائيل الحالية هي من تمثل دور النازية، وأن الشعب الفلسطيني ـ لا تلك الحكومة ـ يعد اليوم امتداداً لضحايا الهولوكوست النازي.
ولا شك في أن ما تمارسه الصهيونية بنوعيها المسيحي واليهودي، باسم اليهود، يشكل أكبر المخاطر المحدقة باليهود واليهودية، لأن كل تلك الجرائم ستظل عالقة في أذهان أجيال من البشر باسم اليهود، وهو ما يعني أنهم سيواجهون عواقب ما ارتكبه الصهاينة من مجازر وتضليل وتحكّم وسيطرة وحروب وفتن.
وإذا كانت المصلحة لا غير هي العامل الحاسم في الدعم الغربي والأمريكي لإسرائيل، فإن هذه المصلحة تختبئ تحت شعارات شتى منها ما هو ديني بروتستانتي يقترب كثيراً من الرواية اليهودية للتاريخ، ويركز على العهد القديم والأسفار الخمسة، وهو ما جعل البروتستانتية تتمخض عن الصهيونية المسيحية التي التقت مع نظيرتها اليهودية في حق العودة لليهودي والوطن القومي ودعم إسرائيل، وغيرها من السرديات التي تعلي من شأن إسرائيل، حتى بلغ الأمر بأحد رموز اليمين المسيحي الأمريكي أن جعل الوقوف ضد إسرائيل هو ترجمة حرفية للوقوف ضد الرب ومشيئته، إذ قال جيري فالويل مؤسس «حركة الأغلبية الأخلاقية» إن «الوقوف ضد إسرائيل هو كالوقوف ضد الرب، نحن نؤمن بأن الكتاب المقدس والتاريخ يثبتان أن الرب يجازي كل أمة بناء على كيفية تعاملها مع إسرائيل».
وإضافة إلى اليافطة الدينية، فإن المصالح التي بسببها يدعم الغرب إسرائيل، هذه المصالح تختبئ كذلك تحت عدد من اليافطات الثقافية المتكئة على العامل الديني، بناء على فكرة واحدية التراث المسيحي اليهودي للحضارة الغربية، وذلك نتيجة لقرون من محاولات التقارب البروتستانتي اليهودي، وهو الأمر الذي امتد إلى الجوانب السياسية المتمثلة في دعم اللوبيات المسيحية واليهودية لإسرائيل، على اعتبار أنها طليعة الثقافة الغربية في الشرق الأوسط، وخلاصة التجربة الليبرالية الغربية بمحتواها الديمقراطي في منطقة تعاني من الديكتاتوريات والنظرة الأحادية والماضوية والتعصب القومي والديني، حسب رواية هذه اللوبيات.