تواجه الديمقراطيات الغربية، ومنذ بدايات تشكلها، معضلات صعب عليها تخطيها، أو معالجتها ضمن الأدبيات التي صاغتها بنفسها للتوصل إلى «مثالية» الحكم والسلطة من ناحية، والتعامل مع الإنسان «المواطن» والإنسان الآخر بمعيار واحد.
فبالنسبة لبناء «الدولة الأمة» التي اعتمدت على بناء المؤسسات من أحزاب، ونقابات، وجمعيات المجتمع المدني، وعلى التفاعل بينها الذي يؤدي للوصول إلى السلطة سلميا ضمن أدبيات نظرية متفق عليها صيغت بأفكار منظريها وطبقت بثورات شعوبها، بدءا بالثورة الفرنسية، وثورة كرومويل في بريطانيا، وثورة الشاي في أمريكا، وخاصة الثورة الأوروبية لعام 1848 التي انطلقت من فرنسا وعمت الدول الأوروبية وكانت بمثابة بداية التغير من أنظمة أحادية، إلى أنظمة دستورية، مع إلغاء الإقطاعية وسقوط بعض الملكيات، تظهر هشاشة أدبياتها وسلوكها الخارجي وتعاملها مع الآخر.
الثورات التي نادت بأدبيات أخلاقية لم تحترم بالضرورة تحقيق الأهداف المنشودة
فالثورات التي نادت بأدبيات «أخلاقية» كالحرية، والعدالة، والمساواة، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، لم تحترم بالضرورة تحقيق الأهداف المنشودة على مستوى الدولة ـ الأمة، ولا على المستوى في التعامل مع «الآخر» (الشعوب الأخرى).
فالثورة الفرنسية التي أسقطت ملكية (آل بوربون) شهدت بعدها مباشرة نظام روبسبير الديكتاتوري الدموي، ثم امبراطورية بونابرت، ثم عودة الملكية مرة أخرى. (تماما كما حدث في ثورات الربيع العربي التي انطلقت ضد الديكتاتوريات فأنجبت ديكتاتوريات جديدة).
كما أن الثورات الأوروبية في نظرتها للآخر (الشعوب الأخرى) أو ما تم إطلاق مصطلح «العالم الثالث» عليها كانت نظرة استعمارية، استبدادية، ومعها بدأت «الفترة الكولونيالية» الدموية، لاستعمار الشعوب.
فالثورة الفرنسية على سبيل المثال لا الحصر، أفرزت أول حملة استعمارية قادها نابليون بونابرت إلى مصر، ومنها كانت تهدف (باستراتيجية مبكرة) إسقاط السلطنة العثمانية، علاوة على قطع الطريق على غريمتها الأبدية بريطانيا للوصول إلى مستعمراتها في الهند.
الدول الغربية التي استطاعت أن تطور أنظمتها السياسية للوصول إلى أنظمة ديمقراطية تؤمن بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان، ارتكبت هذه الديمقراطيات، للسيطرة على شعوب أخرى، أكبر المجازر وأبشع أنظمة القمع وخاصة في إفريقيا وآسيا، ونهب ثرواتها، ثم المجازر المروعة في الشعوب التي انتفضت للمطالبة بحريتها ودحر الدول المستعمرة، كما حصل في الهند وثورة اللاعنف الغاندية، والصين الماوية، وفيتنام هوشي منه (إبان الاستعمار الفرنسي) والجزائر وجيش التحرير، وسواها.
وهذه النظرة لم تختلف إلى اليوم رغم تغطيتها بغلالة شفافة من مقولة «حقوق الإنسان» و«العدالة الدولية» كما فعلت أمريكا في فيتنام (التي ورثتها عن فرنسا) وبنما، وأفغانستان، والعراق، ودعمت كل الديكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية والبلاد العربية في الوقت الذي تبرر فيه غزواتها بأنها لنشر «الديمقراطية».
كما أن هذه الديمقراطيات افتعلت حربا عالمية أولى لإسقاط الإمبراطورية العثمانية، والهنغارية ـ النمساوية والسيطرة على تركتهما كما حصل في بلدان الشرق الأوسط، والبلقان، وقامت بريطانيا بهندسة أكبر عملية استعمارية استيطانية في القرن العشرين في فلسطين.
كما أن هذه الديمقراطيات التي يمكن تشبيهها «بآنية الكريستال اللماعة لكنها سريعة العطب» يمكن أن تتحول هي نفسها إلى ديكتاتوريات عاتية كما حصل في اليونان والبرتغال وإسبانيا التي ارتكبت فيها مجازر كبيرة خلال الحرب الأهلية، كما حصل أيضا في إيطاليا الفاشية، وألمانيا النازية التي كانت سببا في الحرب العالمية الثانية المدمرة، وحكومة فيشي الفرنسية التي تحالفت مع ألمانيا النازية التي قامت بالمحرقة اليهودية، التي سرّعت هجرة اليهود إلى فلسطين.
وتتبنى هذه الديمقراطيات الغربية مقولة أن حضارتها هي حضارة يهودية ـ مسيحية وتتغاضى عن كون هذه الحضارة بنيت في جزء كبير منها من الحضارة العربية الإسلامية باحتكاكها مع العرب في فلسطين إبان الحملات الصليبية، والأندلس في أوج تقدمها وخاصة في قرطبة.
المادة الثالثة من معاهدة لشبونة 2007 للاتحاد الأوروبي التي تدعم بوضوح «حقوق الإنسان وسيادة القانون، ليس فقط في فضاء الاتحاد، بل وأيضا في العالم أجمع» يتم اليوم عدم احترام هذه المعاهدة من قبل معظم دول الاتحاد الموقعة عليها وعلى رأسها ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا لمجرد أن المسألة تتعلق اليوم بإسرائيل التي ومنذ نشأتها كانت كواحدة من العمليات الاستعمارية الحديثة الأكثر دموية وانتهاكا لكل «الأدبيات الأخلاقية» التي صاغتها الدول الغربية لنفسها وتعهدت باحترامها على المستوى المحلي والدولي.
الاتحاد اليوم منقسم على نفسه إزاء ما تقوم به دولة إسرائيل الاستعمارية
فالاتحاد اليوم منقسم على نفسه إزاء ما تقوم به دولة إسرائيل الاستعمارية التي ترتكب جريمة إبادة جماعية في
غزة، وحول دولة فلسطين، وعودة اللاجئين رغم كل القرارات الأممية وتوصياتها. وهذه السياسة لا تتسق مع الإجماع الأوروبي والأممي لحق الشعوب في تقرير مصيرها. فدول كإسبانيا، وبلجيكا، وايرلندا، والنرويج المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، يتضارب موقفها مع الدول الأخرى التي تبنت سياسة المراوغة أو الصمت.
وخلال 75 سنة من
الاحتلال، وارتكاب المجازر، وعدم احترام القوانين الدولية، وارتكاب جرائم «إرهاب الدولة» لم تحرك هذه الديمقراطيات ساكنا بل وأنها لم تستمع حتى لصراخ شعوبها الذين يتظاهرون بشكل أسبوعي للتنديد بسياساتها تجاه ما يجري في فلسطين.
كما تقدم الدول الغربية نفسها كأمم متقدمة وراعية للديمقراطية، حاولت إسرائيل أن تخدع العالم أيضا بأنها الدولة الديمقراطية النموذجية في شرق أوسط تحكمه ديكتاتوريات «متوحشة، ومتخلفة» وتسعى «لرمي اليهود في البحر» وأن «جيش الدفاع الإسرائيلي هو الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم» ورغم أن قرار التقسيم الدولي رقم 181 الذي ينص على إنشاء الدولتين، الذي تم الاتفاق عليه حتى قبل الشريكتين في اتفاقية سايكس ـ بيكو، لم تحركا ساكنا عندما قامت العصابات الصهيونية باحتلال كل فلسطين، بل وقامتا بتسليح إسرائيل وتزويدها (من قبل فرنسا بمفاعل نووي) لصنع قنبلتها النووية، التي طالب أحد وزراء بنيامين نتنياهو بإلقائها على غزة.
بينما يحرم الغرب على دول أخرى امتلاك هذا السلاح فتدمير مفاعل تموز العراقي، والمشروع السوري لم نسمع أي ردة فعل من هذه الدول على هذه الاعتداءات. واليوم أمريكا وإسرائيل مستعدتان لافتعال حرب عالمية إذا امتلكت إيران سلاحا نوويا.
ومنذ بداية الأحداث في غزة قامت
الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بجسر جوي وبحري غير منقطع من الذخائر والأسلحة، ومنها قنابل تزن طنا أسقط منها المئات على رؤوس النساء والأطفال في غزة، وبسلسلة من حق النقض «الفيتو» ضد أي قرار في مجلس الأمن يطالب بوقف إطلاق النار، وكذلك ألمانيا التي سمحت بتصدير الذخائر إليها، ورغم أن محكمة العدل الدولية التي أصدرت قرارا بوقف المجازر اللاإنسانية بحق الفلسطينيين فإن دولة الاحتلال ضاعفت من مجازرها وضربها عرض الحائط بقرار المحكمة.
وهذه الدولة التي تقدم نفسها بالديمقراطية الخلاقة تدعو إلى تهجير الفلسطينيين من أرضهم، والقضاء على الأونروا للتخلص من حق العودة. تقول مي غيلان وزيرة المساواة الاجتماعية في حكومة نتنياهو «إنها فخورة بتدمير غزة وقتل الأطفال» وتتهم عناصر حماس «بقطع رؤوس الأطفال اليهود واغتصاب النساء» التي تم التحقق بأنها ادعاءات باطلة، في الوقت الذي تقول فيه لجنة للأمم المتحدة: «أن ادعاءات الاعتداءات الجنسية الإسرائيلية على النساء الفلسطينيات ذات مصداقية» وخاصة في السجون الإسرائيلية حيث تقوم دولة الاحتلال بتعذيب الأسرى الفلسطينيين وقتلهم واغتصاب النساء السجينات.
بل وتكشف منظمات إنسانية أن مئات الفلسطينيين وجدوا بدون أعضاء لأنها تعرضت للسرقة من قبل الإسرائيليين. وإزاء كل هذه الجرائم التي ترتقي إلى الإبادة الجماعية لم يجد جو بايدن الذي استخدم الفيتو ضد وقف حرب الإبادة أمامه سوى الرئيس فلاديمير بوتين ليصمه «بالمجنون» و«ابن الزانية» بسبب حربه في أوكرانيا ليرد عليه بأنها عقلية «رعاة البقر» التي لا تزال سائدة. بينما تقول وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون أنها «غير مصدومة بأعداد القتلى في غزة». هذه هي أخلاق من يدعون بأن دولتهم أول ديمقراطية في العالم، وتريد نشرها بالقوة.