ارتبطت كلمة "الهولوكست" بمحرقة ألمانيا النازية في حق
اليهود خلال أربعينيات القرن الماضي، رغم أن الكلمة كانت تشمل أيضا مذابح النازيين
في حق شعوب وعرقيات أخرى مثل غجر الروما والسيندي، والروس السلاف والبولنديين،
الذين كان النازيون يرون بنظرة عنصرية استعلائية (آرية) أنهم أدنى منهم!
وكلمة "الهولوكوست" (Holocaust) مشتقة في الأصل من الكلمة اليونانية
العامية المختلطة holokauston، والتي تعني "ذبيحة محروقة بالكامل (kaustos)" أو " قربان أضحية محترقة مقدمة للآلهة". وتعود لمعتقدات
الديانة الهلنستية اليونانية، التي كان يتم التقرب فيها من آلهة الأرض والعالم
السفلي المزعومة بحيوانات داكنة، كانت تُقدم ليلاً وتُحرق بالكامل. واللافت في
السياق أنه تم اعتماد هذه الكلمة لاحقًا في الترجمات اليونانية للتوراة للإشارة
إلى القرابين المُعتادة المحروقة جماعيًّا وفرديًّا التي كان مطلوبًا من اليهود
تقديمها في زمن الهيكل المزعوم.
وقد تبدو مفارقة، ولكن هذا "الهولوكست"
(Der Holocaust بالألمانية) تحول
إلى ما يشبه "القربان المقدس" في علاقة الدولة الألمانية الحالية مع
الكيان الصهيوني، الذي يريد ترسيخ مشروعية إنشاء دولته (إسرائيل) على الأراضي
الفلسطينية المحتلة بالإرهاب والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني، وتشريده، بمظلومية
المحرقة النازية في حق اليهود، إلى جانب مزاعم الحق التاريخي لليهود في الأرض
الموعودة، رغم أن مؤسسي الصهيونية، وغالبية الصهاينة لا يؤمنون بالله لكنهم يؤمنون
بأن الله وعدهم بهذه الأرض الموعودة، كما يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه،
الذي ولد في حيفا لأبوين يهوديين ألمانيين هربا لفلسطين من الاضطهاد الألماني
النازي، في ثلاثينيات القرن الماضي.
فمن منطلق التزامها بالتكفير عن ممارسات المحرقة خلال
الحرب العالمية
الثانية في ظل الحكم النازي، والتي تسلم ألمانيا بأنه تم فيها قتل ستة ملايين
يهودي، تتصرف ألمانيا مع الكيان الصهيوني بهذا الشكل "القرباني المقدس"،
ولا تتوانى في الدفاع عنه وتقديم الدعم له بالمال والسلاح وبالتعويضات عما تعرض له
اليهود. رغم انتقادات العديد من ضحايا "الهولوكست" النازي من الكثير من
اليهود أو أبنائهم أو أحفادهم لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الإجرامية
في حق الفلسطينيين، والتي تستمر الحكومات الألمانية المتعاقبة في دعمها ولو حساب
معاناة الشعب الفلسطيني وعمليا محاولة تحمليه ذنب المحرقة النازية، التي لا ذنب له
فيها، بل بالعكس فقد استقبلت فلسطين اللاجئين اليهود الفارين من هذه المذابح
النازية، وكانوا يحملون جوزات سفرها ـ مثل
بن غوريون أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني أو من خلفته لاحقا غولدا ماير ـ قبل أن
يتحولوا إلى عصابات إرهابية تزرع الرعب وتفرض بتواطؤ بريطاني وغربي دولة الكيان
الإسرائيلي.
من منطلق التزامها بالتكفير عن ممارسات المحرقة خلال الحرب العالمية الثانية في ظل الحكم النازي، والتي تسلم ألمانيا بأنه تم فيها قتل ستة ملايين يهودي، تتصرف ألمانيا مع الكيان الصهيوني بهذا الشكل "القرباني المقدس"، ولا تتوانى في الدفاع عنه وتقديم الدعم له بالمال والسلاح وبالتعويضات عما تعرض له اليهود.
وقد ظهر هذا الموقف الألماني بشكل أكثر انفضاحا مع العدوان
الإسرائيلي على غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، حيث رمت برلين بثقلها خارجيا
وديبلوماسيا في دعم الكيان الصهيوني ومواصلة مده بالسلاح والتبرير
لـ"الهولوكست" الذي يقوم به في غزة، مثلما حدث مثلا في رفض الدعوى
القضائية لجنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم إبادة في القطاع.
أما داخليا فقد لجأت ألمانيا إلى كتم والتضييق على الأصوات الناقدة لإسرائيل برفع
فزاعة "معاداة السامية".
وفيه هذا السياق فصحيفة "نيويورك تايمز"، التي رغم
انحيازها لإسرائيل، لم تستطع التغطية على ما يحدث في ألمانيا، ونشرت قبل أيام
مقالا لافتا بعنوان "برلين كانت منارة الحرية الثقافية.. غزة غيرت كل
شيء"، أكد فيه الكاتب جيسون فارغوا أن "انتقاد إسرائيل ممنوع في
ألمانيا" وأشار إلى التضييق و"الإلغاء" الذي تعرض له العديد من
المثقفين وبينهم يهود بسبب موقفهم الناقد لإسرائيل وعدوانها في غزة.
ولفت الكاتب الانتباه إلى تفسير علاقة الدولة الألمانية بإسرائيل، باسم ألماني
مركب تم تداوله ومناقشته إلى ما لا نهاية في الأشهر الماضية، والكلمة هي"Staatsräson"، أو “سبب وجود
الدولة” معناها: مصلحة وطنية ليست فقط غير قابلة للتفاوض، ولكنها وجودية. وذكر أن
أنغيلا ميركل، المستشارة الألمانية السابقة، وصفت أمن “إسرائيل” بأنه “سبب وجود
الدولة” في خطاب تاريخي أمام الكنيست في عام 2008. وقد استشهد خليفتها، أولاف
شولتس، مرارا وتكرارا بـهذه الكلمة “ستاتسراسون” في دفاعاته عن السياسة
الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر.
ونقل عن يوهانس فون مولتك، أستاذ تاريخ الثقافة الألمانية في جامعة
ميشيغان، والموجود حاليا في برلين، والذي أكد أن "Statsräson" تعني
عمليا أن "وجود إسرائيل هو شرط وجود ألمانيا"!
وفي آخر حلقات هذا التضييق اقتحمت الشرطة الألمانية مكان انعقاد
"مؤتمر فلسطين" في برلين، أمس الجمعة، وقطعت البث المباشر له، ثم قامت
بعدها بقطع الكهرباء عن المكان، وأجبرت 250 مشاركا على المغادرة.
والمفارقة أن الشرطة الألمانية، قالت إنها تدخلت بزعم "محاربة
معاداة السامية" قامت باعتقال 3 أشخاص على الأقل في مكان المؤتمر، بينهم
ناشطان يهوديان من أجل السلام!
وكان من المبرمج أن يستمر المؤتمر لثلاثة أيام، لكن تم فضه بعد حوالي
ساعتين فقط من انطلاقه.
وبعد لحظات من إعلان منظمي "مؤتمر فلسطين" عن موقع انعقاده
في برلين، حاصرت الشرطة بـ 900 من عناصرها، المكان قبل اقتحامه. وقبل ذلك قررت
السلطات الألمانية، منع الطبيب الجراح الفلسطيني ـ البريطاني غسان أبو ستة، الذي
تم انتخابه مؤخرا رئيسا لجامعة غلاسكو الأسكتلندية، من دخول أراضيها، واحتجزته في
المطار، قبل طرده لبريطانيا، التي قدم منها، وذلك بهدف منعه من المشاركة في
المؤتمر، وتقديم شهادة على عمله جراحا في غزة لأشهر، والفظائع التي قام بها جيش
الاحتلال في عدوانه على القطاع.
وقد تم تنظيم المؤتمر من قبل مجموعة من نشطاء المجتمع المدني، بما في
ذلك منظمات فلسطينية ويهودية، تحت شعار "نحن نتهم" و"سنحاكمكم".
وقال منظمو المؤتمر في تغريدة "من المؤسف أنه يوم حزين
للديمقراطية.. وعلى الرغم من قمع "المؤتمر الفلسطيني"، فإن حب حياة
الفلسطينيين سينتصر على حملة الموت التي يمثلها تواطؤ ألمانيا في الإبادة الجماعية".
وبالتزامن مع هذا أعلنت وزارة الخارجية الألمانية، أن جمهورية
نيكاراغوا أغلقت سفارتها في العاصمة برلين.
وقالت وسائل الإعلام الألمانية إن قرار إغلاق السفارة جاء عقب رفع
نيكاراغوا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد ألمانيا، تتهمها فيها
بالمساهمة في الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة من خلال تزويد إسرائيل
بالأسلحة.
وتطالب نيكاراغوا بالوقف الفوري لشحنات الأسلحة الألمانية إلى
إسرائيل، وتدعو لاستئناف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين (الأونروا).
من جهة أخرى رفع محامون في مجال حقوق الإنسان دعوى قضائية ضد قرار
الحكومة الألمانية الموافقة على تصدير ثلاثة آلاف سلاح مضاد للدبابات إلى إسرائيل،
وهي ثاني قضية من نوعها تُرفع هذا الشهر بسبب دعم برلين لإسرائيل في حربها في غزة.
وقال المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في بيان إن
القضية الجديدة، التي رفعها خمسة فلسطينيين من غزة، حظيت بدعم محامين من المركز،
الذي يتخذ من برلين مقرا، ومنظمات فلسطينية لحقوق الإنسان.
وأضاف أن الحكومة منحت موافقتها على تصدير ثلاثة آلاف سلاح مضاد
للدبابات إلى إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، لكن طلب تصريح لتصدير عشرة آلاف طلقة
ذخيرة إلى إسرائيل لم تتم الموافقة عليه بعد.
وقال الأمين العام للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان
فولغانج كاليك في بيان "لا يمكن لألمانيا أن تظل وفية لقيمها إذا كانت تصدر
أسلحة إلى حرب تتجلى فيها انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني".
وفي فبراير الماضي، تقدمت مجموعة من المحامين الألمان الذين يمثلون
عائلات في غزة بشكوى جنائية ضد مسؤولين ألمان يتهمونهم فيها بالمساعدة في الإبادة
الجماعية للفلسطينيين في غزة والتحريض عليها من خلال تزويد إسرائيل بالأسلحة.
ووفق وكالة "رويترز" فبحسب بيانات وزارة الاقتصاد، وافقت
ألمانيا العام الماضي على تصدير أسلحة إلى إسرائيل بقيمة 354 مليون دولار، منها
معدات عسكرية وأسلحة، بزيادة 10 أمثال مقارنة بعام 2022.
*كاتب جزائري مقيم في لندن