منذ
بداية الحرب الحالية على قطاع
غزة، قد ركزت
إسرائيل على هدف استراتيجي بمثابة
إنجاز واضح للعيان، يتمثل في الإطاحة بحكم
حماس، الذي بدأ عام 2007 بعد سيطرتها على
قطاع غزة. منذ ذلك الحين، وتروج إسرائيل بطرق متعددة لضرورة إيجاد بديل لحماس فب
القطاع، على الرغم من صعوبة الخيارات من وجهة نظرها، إلا أن هذا الاتجاه تعزز بعد
الهجوم المفاجئ الذي شنته الحركة على القواعد العسكرية ومستوطنات غلاف غزة في 7 تشرين
الأول/ أكتوبر 2023.
كتب الصحفي نداف إيال في الملحق الأسبوعي لصحيفة يديعوت
أحرونوت "موسف شبات" نهاية الأسبوع الماضي، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو وافق على بدء مناقشة استبدال حكم حماس في غزة بإنشاء قيادة محلية
مكونة من العشائر والقبائل في شمال القطاع. ووفقا لما أعلنه وزير الدفاع
الإسرائيلي يوآف غالانت يوم 2 حزيران/ يونيو 2024، فإن هذا التغيير سيشمل تطهير
غزة من عناصر حماس، واختيار وإعادة تأهيل القيادات الجديدة بالتعاون مع جهات
دولية، ثم تزويدها بأدوات تطبيق القانون. في الوقت نفسه، سيقوم الجيش الإسرائيلي
بحماية هذه القيادات من تهديدات حماس(1).
يهدف هذا السيناريو إلى تقسيم المناطق الفلسطينية إلى مقاطعات معزولة يديرها رؤساء بلديات أو مخاتير، مما يقضي على حلم إقامة أي كيان فلسطيني مستقل ويفكك السلطة الفلسطينية
في
الواقع، هذه الفكرة ليست جديدة بل تم طرحها أيضا في مراكز الأبحاث الإسرائيلية
كمستقبل محتمل للضفة الغربية. يهدف هذا السيناريو إلى تقسيم المناطق
الفلسطينية
إلى مقاطعات معزولة يديرها رؤساء بلديات أو مخاتير، مما يقضي على حلم إقامة أي
كيان فلسطيني مستقل ويفكك السلطة الفلسطينية(2).
في مطلع
الثمانينيات، حاولت إسرائيل تنفيذ خطة مشابهة تُعرف بـ"روابط القرى"،
لكن هذه الفكرة باءت بالفشل. حيث بادر مصطفى دودين بتقديم اقتراح إلى "مناحيم
ميلسون" ينص على ضرورة إنشاء جسم بديل لمنظمة التحرير الفلسطينية، يخضع
للسياسات الصهيونية. أسس دودين أول رابطة للقرى في منطقة الخليل، وذلك بزعم أنها
جمعية زراعية تهدف إلى مساعدة وتطوير الفلاحين، وهو ما قام بتسويقه كمبادرة لتقديم
خدمات إدارية واجتماعية للفلسطينيين(3).
وُصمت
هذه الروابط بالعمالة المباشرة والواضحة لإسرائيل، وتمت ملاحقة المخاتير
المتعاونين وقتلهم من قبل نشطاء الانتفاضة الفلسطينية. اليوم، تسعى إسرائيل لإنشاء
جسم مشابه لذلك في غزة، ولكن من الصعب أن ينجح هذا السيناريو في ضوء الدروس
المستفادة من الماضي. الفلسطينيون لا يزالون يحملون ذاكرة حية عن تلك الفترة
ويعتبرون التعاون مع الاحتلال خيانة، مما يجعل تكرار هذه التجربة أمرا صعبا للغاية.
رغم
الضربات العسكرية، لا تزال حركة حماس وفصائل المقاومة تتمتع بقوة تنظيمية
ومؤسساتية كبيرة. حماس، التي ترسخت في المجتمع الفلسطيني من خلال شبكة من الخدمات
الاجتماعية والتعليمية والصحية، لن تسمح ببساطة بتولي العشائر أو العائلات حكم غزة،
وبنيتها التحتية القوية وعلاقاتها المتشابكة مع شرائح المجتمع تجعل من الصعب على
أي قوة جديدة أن تحل محلها دون مقاومة شديدة.
السلطة
الفلسطينية، بمؤسساتها وأجهزتها الأمنية، تتمتع بنفوذ قوي في الضفة الغربية ولن
تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات تقسيم السلطة في غزة. رغم أن السلطة لا تعارض
مبدئيا العودة لحكم غزة، إلا أنها ترفض أي ترتيبات تثير سخط الشارع الفلسطيني. تسعى
السلطة لتوحيد الجبهة الفلسطينية تحت مظلة منظمة التحرير تضمن لها الشرعية وتنفيذ
مشاريعها.
من
الناحية الأمنية، تبحث إسرائيل عن سلطة في غزة تضمن استقرار الحدود وتحميها من
التهديدات. تجربة 7 أكتوبر، تظهر أن أي سلطة غير قادرة على ضبط الأمن في غزة لن
تكون مقبولة لدى إسرائيل، بالتالي، فإن العشائر أو العائلات ليست لديها القدرات
الأمنية والتنظيمية اللازمة لضبط الحدود ومنع التهديدات الأمنية المستمرة بالنسبة
لاسرائيل.
من تجربة "روابط القرى" الفاشلة في الثمانينيات، إلى قوة حماس والسلطة الفلسطينية، وصولا إلى الرفض الدولي وخاصة المصري، والمتطلبات الأمنية الإسرائيلية، كلها عوامل تعيق تنفيذ هذا السيناريو. فشل إسرائيل في تحقيق هذا الهدف يعني هزيمتها في قطاع غزة أمام المقاومة الفلسطينية، ويظهر حدود قدرتها
العديد
من الدول في العالم قد ترفض فكرة إقامة حكم عشائري أو عائلي في غزة، لا سيما مصر،
التي تربطها علاقات جغرافية وجيو سياسية مع القطاع. فمصر، التي تحمل مخاوف أمنية
من انتشار الفوضى إلى سيناء، لن تسمح بتحويل غزة إلى بؤرة جديدة للاضطرابات، كما
أن الاتفاقيات الدولية مثل إدارة معبر رفح تتطلب وجود سلطة شرعية يمكنها تنفيذ هذه
الاتفاقيات بفعالية.
السؤال
الأهم يكمن في مدى استعداد الدول المانحة للتعاون مع حاكم جديد في غزة؟ إذا لم تحظ
هذه القيادة الجديدة بشرعية دولية وشعبية، فإن الأزمات في غزة ستتفاقم وقد تصل إلى
حد الحرب الأهلية. الدول المانحة تشترط وجود سلطة شرعية وفعالة لضمان أن تصل
المساعدات إلى مستحقيها وتستخدم في إعادة الإعمار بشكل صحيح.
من
تجربة "روابط القرى" الفاشلة في الثمانينيات، إلى قوة حماس والسلطة
الفلسطينية، وصولا إلى الرفض الدولي وخاصة المصري، والمتطلبات الأمنية
الإسرائيلية، كلها عوامل تعيق تنفيذ هذا السيناريو. فشل إسرائيل في تحقيق هذا
الهدف يعني هزيمتها في قطاع غزة أمام المقاومة الفلسطينية، ويظهر حدود قدرتها على
التأثير في الشؤون الداخلية الفلسطينية، مما يعزز موقف حماس ويزيد من تعقيد المشهد
السياسي والأمني.
__________
(1) للاستزادة انظر/ي:
https://www.ynet.co.il/yedioth/article/yokra13947650
(2) للاستزاد انظر/ي: عاموس يادلين وآخرون، "
الخطوط
العريضة للساحة الإسرائيلية الفلسطينية" (العبرية)، معهد دراسات الأمن
القومي الإسرائيلي –جامعة تل أبيب، (2018).
(3) للاستزادة انظر/ي: بهاء جرادات، "
إسرائيل وروابط القرى: من نشأتها إلى حلها"، باب الواد 14/2/2021.