كتب

"دفاتر الجيلاني ولد حمد".. قصة مهاجر مغاربي في فرنسا.. رواية تستحق القراءة

نجح الصحبي كرعاني في بناء شخصيات حقيقية مختلفة عن بعضها وحتى في اختيار أسماء أبطال روايته متعة وخيالا..
نجح الصحبي كرعاني في بناء شخصيات حقيقية مختلفة عن بعضها وحتى في اختيار أسماء أبطال روايته متعة وخيالا..
كثيرا ما اقترحت على أصدقائي قراءة بعض الروايات التي وجدت فيها الكثير من لذّة القراءة وكانت في غالبها من تأليف روائيين عالميين خصوصا من الأدب الروسي أو الإسباني بشقيه الأوروبي والجنوب أمريكي، حتى عثرت أخيرا على رواية عربية بل تونسية متميّزة للدكتور صحبي كرعاني  أستاذ الرياضيات بجامعة "ليل" الفرنسية، والتي صادف أن تكون باكورة ما كتب ونشر وأن تفوز بجائزة الكومار الذهبي للعام 2024.

"الجيلاني ولد حمد" بعد الصفحة الأولى للغلاف ستمرّ حتما إلى صفحته الأخيرة ليضع لك الصحبي الإطار الذي ولدت فيه الرواية وبطلها الجيلاني الذي يقول عنه الكاتب بأنه مهاجر تونسي قدم باريس في ثمانينيات القرن الماضي ثم حوكم لسبب لم "يقنعه" (أي الجيلاني) بثلاث سنوات سجنا قضاها جميعها. ولأمر ما يقرر الهروب من السجن أسبوعين فقط قبل انتهاء محكوميته دون معرفة السبب الذي بقي سرّا عند الجيلاني الذي لن نعلم عنه شيئا بعد ذلك.

وهو يقفز من سور السجن وهذا آخر ما نعلمه عنه، تسقط منه دفاتره (وهي مجموعة مخطوطات) التي خطّها في سجنه، وكما يقول منطق الأشياء تعثر عليها إدارة السجن وتلحقها بملفه بعد استعانة الشرطة بمترجم عربي لفهمها أو للعثور عما يمكنها من العثور على سبب هروبه.

هنا تتدخل الأقدار لإنقاذها من التلف والرطوبة حيث يصادف أن يقوم زميل للصحبي (راوي الرواية) مختص في قسم العلوم الإجتماعية في نفس الجامعة بالشروع في إنجاز بحث حول "شخصية المهاجر المغاربي في السجون الفرنسية" مستفيدا من آلاف الملفات في أرشيف وزارة العدل، وهنا يعرض كاتب الرواية خدماته على زميله في تصنيف تلك الملفات بحكم اختصاصه.

ينهي الصحبي "تزيين متاهته" التي وضعنا فيها بالقول أنه: لم يكتب ولا حرفا واحدا من هذه الرواية.. وأنها ليست إلا ما خطّه صاحبها منذ ثلاثين عاما.. يصدّقه القارئ وينخرط معه في هذا السيناريو المحبك حدّ التسليم به ولا خيار له في ذلك.

بتلك اللغة التي كتبت بها الرواية سلاسة وبلاغة وانسيابا وحبكة روائية بديعة ودون تقعّر تبدأ الحيرة والأسئلة وتكتمل الدائرة حين تكتشف شخصية الجيلاني (الشخصية الرئيسية في الرواية) مع توالي الفصول بأنه كان عطلانا في دراسته ولم يذهب بعيدا في دراسته الإعدادية. فيعاودك السؤال من كتب هذا المخطوط / الرواية أ الجيلاني أم الصحبي؟ هل عركت الأيام والتجارب والأسفار الجيلاني ليترك لنا قبل أن يغيب هذا النص المبدع أم أن الصحبي أستاذ الرياضيات (وشيء من الرياضيات خيال) هو من أنتج لنا هذه الرواية التي استحقت الجائزة وتستحق القراءة.؟

من شِدّة التعمية والقدرة على إقناع القارئ بالرواية أن أحدهم عرض خدماته للبحث عن الجيلاني بطل الرواية ظنا بأن الرجل حي بين الناس وآخر أقسم له أن الجيلاني موجود فعلا في دوار أولاد حمد (مركز أحداث الرواية) وآخر همّ أن يكتب مقالا ليسبه بسبب استغلاله لمجهود الجيلاني واستغلاله وكتابة إسمه على الرواية.

عادت بي الذاكرة لأكثر من أربعين عاما وأنا أذكر أستاذنا للرياضيات السيد الصادق العريض وهو يشرح لنا الدروس ويداه تسبحان في الفضاء ترسم خيالات وتتبع خطوطا ومنعطفات وهمية.. ثم يهدأ قليلا وينتقل إلى مكان غير بعيد معيدا نفس الحركات أو أخرى تشبهها وهو يحاول إفهامنا نظرية أو قاعدة رياضية ما.

تاريخ طويل لعائلة الجيلاني من جدّه الأول عامر إلى والده حسونة مرورا بلفتات رشيقة ونقد ظاهر للاستعمار الفرنسي في شخص المعمّر موريس كولان وآخر مبطّن لبورقيبة ولتجربة التعاضد التي وصفها بالعجيبة ولمجلة الأحوال الشخصية وللفلاڤة والصبايحية وبناء الجيش التونسي ولانبتات الطلبة اليساريين عن محيطهم في شخصية عمّار الشيوعي إبن الريف و"زوجته" كوثر التي لم يتزوجها أصيلة العاصمة وإبنة الطبيب والمحامية.

تولّى الصحبي على طول الرواية نقل صورة ممتدّة لا أدري مدى مطابقتها للواقع الريفي والمديني لجهة القيروان من انتشار تعاطي الخمور والكيف وانتشارها بين الناس حتى ذهب بي الظن إلى تصديقها واستغرابها وربما كان ذلك بسبب انعدامها من ريفنا بالجنوب.

رواية الجيلاني ولد حمد تشبه سجون الدول الإسكندنافية فأنت فيها سجين وحرّ، تستطيع أن تتوقّف عن قراءتها عند كل فصل ولكن لا تستطيع الكف عن قراءتها إلا حين لا تجد ما تقرأ بعد الصفحة 399.
هكذا فعل بنا الصحبي كرعاني فمن عقله الرياضي ساح بنا طويلا في عشرات الحكاوي على امتداد 399 صفحة وبأكثر من خمسين شخصية عجّت بها الرواية استطاع أن ينقل لنا الكثير من طبيعة الريف وحميميتة وحميمية أبطال الرواية في نواحي القيروان ومن صخب أبطالها في أحياء باريس.

نجح الصحبي كرعاني في بناء شخصيات حقيقية مختلفة عن بعضها وحتى في اختيار أسماء أبطال روايته متعة وخيالا، فمن التوهامي كونار (Connard = الوغد) الوصف الذي أطلقته عليه كلودين بيش حبيبته السابقة أو يعسوب لما مارس الجيلاني الملاكمة (السرية) لفترة قصيرة في إحدى ضواحي باريس وبونسنوسة وشعبان "الرومي" بسبب اشتغاله عند المعمّر وجمعة الفحل وهي إمرأة بسبب ملامحها التي كانت أقرب للرجال منها للنساء وعمّار البيدوك بائع الخمور سرّا ..

عشرات القصص القصيرة على امتداد الرواية لا تخلو واحدة منها من طرفة لا تنسى فمن حكاية ساسي الحطاب وهو في طريقه إلى مقام سيدي علي بن عون طاردته الكلبة قطاية ويبدو أنه عزم على التخلص منها لأمر ما فأقنع والد الجيلاني الذي استضافه بأن حملها من ذئب سيجعل ولدها كلبا شديدا مستذيبا فحَمَلَها من حينها على ظهر الجيلاني إلى قمة جبل الزفزاف ليربطوها في انتظار ذئب قادم.. ولم تكن تلك الفكرة إلا حجة لإبعاد الكلبة حتى يسهل على الساسي الحطاب سرقة الناقة وكل ما في الكوخ فجرا.. ولم تنته مأساة حسونة وولده الجيلاني هنا حيث أنهما حين صعدا الزفزاف لينظرا ما جرى لقطاية لم يجدا منها شيئا غير بعض عظامها يكسوها الدم وأمام الخيبة الكبيرة لم يجد حسونة ما يقوله في مكر وبؤس غير: أرجو أن يكون الذئب قد افترس قطاية فحسب !

ثم حكاية مواء صديقه النمس عبر الهاتف لصديقة الجيلاني الشابة صوفي الفرنسية وضربه لجدها العقيد المتقاعد مارسيل ديفور ثم هروبه وركوبه القطار وهو ببيجاما العجوز وما جرى له مع غالية إبنة عمّته ليلة زواجها لما أخذه حسونة والده وهو فاقد عقله من شدّة السكر ليقتحم به المحفل طالبا إيقاف العرس وتزويج غالية بالجيلاني وهي تكبره بأكثر من عشر سنوات ثم يكتشف الجيلاني بعد زواجها لاحقا أنه كان متيّما بها.

رواية الجيلاني ولد حمد تشبه سجون الدول الإسكندنافية فأنت فيها سجين وحرّ، تستطيع أن تتوقّف عن قراءتها عند كل فصل ولكن لا تستطيع الكف عن قراءتها إلا حين لا تجد ما تقرأ بعد الصفحة 399.
التعليقات (0)