بعد
أن تعرّفنا في مقدمة تأسيسية لأصول
الحرب النفسية؛ فإننا نستكمل عناصر وتجليات
ومستويات ترتبط بهذا المفهوم. إذ يأخذ مفهوم
الحرب النفسية أبعادا متعددة، لكن المتعارف
عليه أن للحرب النفسية مفهومين رئيسيين؛ أولهما يعني استخدام الأساليب النفسية من قبل
جماعة أو مؤسسة على شريحة أو عدة شرائح من المجتمع للتأثير على أفكارهم وآرائهم ومعتقداتهم
واتجاهاتهم ومن ثم سلوكهم بما يخدم تلك الجماعة أو المؤسسة، أما المفهوم الثاني فيختص
بفئة معينة من المجتمع وهي المؤسسة العسكرية.
ويُعنى
مفهوم الحرب النفسية هنا بجميع الأساليب والإجراءات والفعاليات التي تستخدم من قبل
المؤسسة العسكرية بما يخدم أهدافها العسكرية، أو أي مؤسسة تستهدف العدو وقدراته
المعنوية والنفسية الجماعية بما يفت في عضدها ويضعف فعاليتها؛ وفي ذات الوقت وفي
المقابل لا بد أن تستهدف الكيان الداخلي لتبث فيه تماسكا وعزيمة على مواجهة العدو بإرادة
صلبة وقوية، وأن توظف الطاقات المتنوعة ضمن الحروب المعنوية وما يسمى القتال
المعنوي.
يُعنى مفهوم الحرب النفسية هنا بجميع الأساليب والإجراءات والفعاليات التي تستخدم من قبل المؤسسة العسكرية بما يخدم أهدافها العسكرية، أو أي مؤسسة تستهدف العدو وقدراته المعنوية والنفسية الجماعية بما يفت في عضدها ويضعف فعاليتها؛ وفي ذات الوقت وفي المقابل لا بد أن تستهدف الكيان الداخلي لتبث فيه تماسكا وعزيمة على مواجهة العدو بإرادة صلبة وقوية
وهي
تدار قبل الحرب وأثناءها وبعدها، إنه العمل المتواصل والمستمر لتضمن ديمومة
المواجهة والقدرة على الدفاع والمدافعة، إنها تواجه الهزيمة أو أي مشهد من مشاهدها
مانعة لكل تسللاتها بكل ما أوتيت من قوة؛ بينما تنقض على العدو معنويا وتنال من
نفسيته الجماعية والتي تصل في أوجها إلى دفعه دفعا إلى كل مسالك الهزيمة النفسية.
الحرب
النفسية إذا هي أحد مسالك الحروب منذ أن كانت الحروب في ميادين القتال، وقد أكد
ذلك بقوة المفكر العسكري الصيني صن تزو في القرن الرابع قبل الميلاد في كتابه
"فن الحرب" بقوله: "إن القتال والانتصار في كل معاركك ليس أعلى
درجات التميز، فالتفوق الأسمى هو كسر مقاومة العدو دون قتال".
وفي
عام 1917 اعتمد الجيش الأمريكي مصطلح "الحرب النفسية" للإشارة إلى
استخدام الثقافة أو المعلومات أو الإجراءات غير القتالية كمضاعف للقوة في حالة
الصراع، وما عاد بإمكان أي دولة أو جماعة أو حركة أن تستغني عن
التعامل النفسي في تعاملها الداخلي والخارجي، سواء أكان ذلك في تكتيل المجتمع
السياسي وتحقيق التكامل الكياني؛ أو في عدّ هذا التعامل أداة أساسية من أدوات
تنفيذ السياسة الخارجية أو العلاقات الخارجية حتى مع ما يمثل أي وحدة كيانية، إذ
تجعل منها أحد أهم الأدوات الفعالة لبناء صور ذهنية إيجابية ومؤثرة لدى كل الأطراف؛
العدو قبل الصديق وبما يحقق أهدافها.
وتعد الحرب النفسية من أبرز
مفاهيم وأدوات ظاهرة التعامل
النفسي، وإن كانت أداة مرتبطة بالقتال المسلح، إذ تعدله وترافقه، ولكنها لا تستقل
عنه، فقد أضحت الآن في عالمنا المعاصر، بديلا عن هذا القتال المباشر مع التقدم
الرهيب في أدوات التعامل مع النفس البشرية، الذي قاد ليس إلا إلى التلاعب بالنفسية
الجماعية، كما هو الحال مع الاختراق والتخريب الفكري والتضليل الإعلامي من خلال
نماذج عديدة شهدها القرن العشرين.
إنها ببساطة تهدف الى تأمين الذات وتحصينها، والنيل من
العدو وقدراته؛ عملية مزدوجة تفترض في الأصل تحديد من العدو، وتحدد السبيل
لمواجهته؛ إنها تتعامل مع كل مصادر القوة فتنميها، وكل نقاط الضعف فتقويها وتجبرها.
هذا هو حال العمل الدائب في ميادين القتال المعنوي.
إن الحرب النفسية تنطوي تحت ما يمكن أن نسميه الوظيفة
الاتصالية بمعناها الواسع والوظائف المعنوية والحضارية؛ بل أكثر من ذلك، هي وظيفة
عقيدية تشكل دافعا عظيما في مجال القتال المعنوي "إنه لجهاد نصر أو استشهاد".
إن محورها الحقيقي هو خلق العلاقة المعنوية والفكرية الثابتة بين الفرد والكيان
الاجتماعي الذي ينخرط فيه ويحمل عقيدته ومنظومة أهدافه الرسالية، وهذه العلاقة
تنبع منها خمس وظائف متداخلة، ولكنها متميزة؛ ترتيب نظام القيم الجماعية، وتدعيم
مفهوم التماسك السياسي، وخلق الرضا القومي أو الجماعي، الوظيفة الدعائية وبناء
الصورة الذهنية، الاستعداد للحرب النفسية العكسية. خمسة أهداف جوهرية إذا ما تحققت
أو اقترب الكيان من تحقيقها؛ فقد أثبت فاعلية في الأداء المزدوج؛ في التماسك
الذاتي والإرادة الصلبة في جانبه، والنيل من العدو وإضعافه. إن أي نجاح في الأولى
يعد قيمة مضافة للثانية، وأي تقدم في الثانية هي إضافة للأولى بشكل أكيد.
إن الحرب النفسية نوع من القتال، ومن ثم تخضع لجميع
القواعد التي تسيطر على مفهوم الصراع المصيري، خاصة حينما يعتبر هذا الصراع
والتدافع فيه وجوديا وحضاريا كما في حالة الكيان الصهيوني، أي أنها قتال تنطبق
عليه جميع قواعد فن الصراع المادي بين طرف معين يسعى للقضاء على طرف آخر بأقل
الوسائل كلفة، ونقله من حالة التماسك والقوة إلى حالة مهلهلة رخوة لا قدرة له معها
على المقاومة، ومن ثم فرض التبعية عليه.
من خلال هذه المنطلقات يمكن تعريف الحرب النفسية وتحديد
مدلولها الفني علميا بأنها "نوع من القتال النفسي لا يتجه إلا للعدو ولا يسعى
إلا لتحطيم النواحي المعنوية له بجميع الوسائل، للقضاء على أية صورة من صور الثقة
بالنفس، التي قد تولد فيه المقاومة أو عدم الإذعان والاستسلام".
وبعبارة أخرى، فهي لا تسعى للإقناع وإنما تهدف إلى تحطيم
الإرادة، وتحطيم الثقة في الذات الجماعية أي فقدان المواطن ثقته بذاته، في مواجهته
لعدو يسعى للحصول على بعض التنازلات، إن لم يكن القضاء على المجتمع أو الكيان الذي
ينتمي إليه الأفراد واحتوائه كليا، بما يعنيه ذلك من فرض التبعية على ذلك الكيان.
قد يظن البعض أن الحرب النفسية كعمليات تتعلق بالدولة
فحسب؛ ولكن هذا قد يتغافل عن تلك الكيانات والحركات التحررية التي يجب أن تملك
جهازا ضمن أجهزتها يدير المعركة على الجانبين؛ معركة التماسك الداخلي، ومعركة
النيل من العدو في معنوياته وقدراته؛ وهو أمر ضروري في أي معركة التحرير ضد عدو
غاصب أو محتل.
إذن، فالحرب النفسية هي التعامل النفسي والاتصالي مع
المجتمع، إذ تستعمل جميع الأدوات والمسالك بقصد تحقيق هدف واحد هو تحطيم الثقة
بالذات، وتنبع من ذلك مجموعة نتائج تتحصل من طبيعة الحرب النفسية، وهي:
1- إنها تعامل مع موقف، فهي ليست تعاملا فرديا وهو في
معظمه يستهدف الجماعة والمجتمع؛ وكذلك فهي ليست مجرد تعامل يتميز أصلا بالصلابة،
فتسعى الحرب النفسية إلى اختراق تلك الصلابة وإحالة الجسد بهذا المعنى إلى حالة
الرخاوة، هذا هو الهدف حيال العدو، وبهذا الاعتبار فإن الأدوات والوسائل التي تسمح
بتحقيق هذا الهدف تكون مقبولة ومطبقة ومستهدفة.
2- هي قتال وصراع من أجل البقاء، إذ إن أحد الطرفين يسعى
لاستئصال الطرف الآخر أو النيل منه بحيث يقضي على وجوده.
مواجهة استراتيجية صهيونية جعلت من الحرب النفسية والدعاية الصهيونية كركن ركين في استراتيجيتها في الغزو المعنوي، بتأكيد على أن أخطر ما تمثله الصهيونية اليوم أنها تتعامل باسم السلم والحل العادل في المنطقة، وهي لا تفعل سوى أن تنخر في الجسد العربي وتخلق الشلل في مختلف أجزائه، إنها بحنكة معينة تنال من مفاصل هذا الجسد فتحقق نوعا من التيبس في الحركة
3- كذلك هي عملية نامية متطورة تتجه إلى تثبيت دعائم
تعامل معين يسعى إلى الديمومة من حيث نتائجه ولا بد أن يجتاز مراحل عديدة، كل
واحدة منها تتحدد بأهدافها وتسعى إلى تثبيت نتائج محددة في جميع تطبيقاتها كحرب
نفسية تتمثل بـ"حركة هجومية، أو تعامل دفاعي، أو سياسة وقائية".
لا يفل الحرب النفسية إلا حروب نفسية معاكسة ومضادة لها،
ولذلك ينبهنا أستاذنا الدكتور حامد ربيع الذي كتب مؤلفا حول الحرب النفسية
وكانت تلك الأفكار من ثمرات كتاباته العميقة والراسخة؛ إلى أهمية أن ننتقل من كون
الحرب النفسية مجرد مفهوم أو حيلة تكتيكية أو اهتمام عابر إبان الحروب تترافق معها
كعمل موازٍ لميدان القتال المباشر؛ إلى ضرورة الاهتمام بها كاستراتيجية في مواجهة
استراتيجية صهيونية جعلت من الحرب النفسية والدعاية الصهيونية كركن ركين في
استراتيجيتها في الغزو المعنوي، بتأكيد على أن أخطر ما تمثله الصهيونية اليوم أنها
تتعامل باسم السلم والحل العادل في المنطقة، وهي لا تفعل سوى أن تنخر في الجسد
العربي وتخلق الشلل في مختلف أجزائه، إنها بحنكة معينة تنال من مفاصل هذا الجسد
فتحقق نوعا من التيبس في الحركة. وهي بهذا المعمى تلجأ إلى أساليب ومنطلقات تبدو
لأول وهلة لا صلة لها بالحرب النفسية، ولكنها من صميم ذلك التعامل ولا تبرز
نتائجها إلا عقب فترة غير قصيرة: ظاهرة التسميم السياسي التي بدأت منذ السبعينيات
لم نفهم معناها ودلالتها إلا في أواخر الثمانينيات.
تصفية الوجود العربي من العقول الخلّاقة وتشجيعها على
الهجرة لم تكن عملية غير مقصودة واليوم نحن نكتشف نتائجها. ويشير أستاذنا الدكتور
حامد ربيع إلى ضرورة أن نقدم نظرية كاملة ومتكاملة للتعامل النفسي؛ مشددا على أن أحد
منطلقاتنا يجب أن يكون أساسا في الحرب النفسية العكسية ومن منطلق إدارة الصراع مع
الكيان الصهيوني. فهل تستمع الأمة إلى هذا النذير والتحذير، خاصة مع طوفان الأقصى
الذي يشكل في حقيقة الأمر فرصة كبرى في وضع استراتيجية للحرب النفسية والمقاومة في
الأمة.
x.com/Saif_abdelfatah