قضايا وآراء

الأمن القومي وسيادة البيانات وتهديد الاختراقات السيبرانية

فاطمة الجبوري
"الأمن السيبراني اليوم أمر بالغ الأهمية مثل حماية الحدود الجغرافية لأي بلد، وأي خرق لهذا المجال قد يكون مدمرا مثل الأعمال العسكرية"- جيتي
"الأمن السيبراني اليوم أمر بالغ الأهمية مثل حماية الحدود الجغرافية لأي بلد، وأي خرق لهذا المجال قد يكون مدمرا مثل الأعمال العسكرية"- جيتي
لن تتنازل أي حكومة عن السيطرة على البيانات الحساسة في أنظمتها الصحية أو الأمنية أو العسكرية إلى كيانات أجنبية، وخاصة عندما تتمتع هذه الكيانات بسمعة سيئة في التجسس السيبراني أو ترتبط بدول لها تاريخ في تقويض السيادة الوطنية ومحاولات الاختراق التاريخية مثل كيان الاحتلال الإسرائيلي. ومع ذلك، مع اعتمادنا بشكل متزايد على الأنظمة الرقمية، أصبحت مخاطر القيام بذلك واضحة بشكل متزايد.

إن الأمن السيبراني اليوم أمر بالغ الأهمية مثل حماية الحدود الجغرافية لأي بلد، وأي خرق لهذا المجال قد يكون مدمرا مثل الأعمال العسكرية. السجلات الصحية والاتصالات الحكومية ومعلومات الأمن ليست مجرد بيانات، إنها شريان الحياة للدول الحديثة. إن السماح للشركات الأجنبية، وخاصة تلك التي لها سمعة مشكوك فيها أو روابط مع دول معادية، بالوصول إلى مثل هذه المعلومات هو دعوة للخطر إلى قلب الأمن القومي.

أثار النائب الأردني عبد الرؤوف الربيحات مؤخرا مخاوف تضرب في صميم هذه القضية، إن انتقاده لعقد الأردن مع شركة "بريسايت" لتنفيذ مشروع التحول الرقمي لوزارة الصحة يعكس مخاوف متزايدة من تعرض السيادة الوطنية للخطر تحت ستار التحديث. لقد أثارت شركة "بريسايت"، وهي مشروع مشترك بين شركة إماراتية وأخرى تابعة لصناعة الدفاع الإسرائيلية، غضبا بين الأردنيين الذين ينظرون (وهم محقون في ذلك) إلى أي تورط مع كيانات مرتبطة بإسرائيل على أنه تهديد لأمن بلادهم. إن الآثار المترتبة على منح مثل هذه الشركة حق الوصول إلى البيانات الصحية الحساسة عميقة، حيث يمكن استخدام هذه المعلومات، بمجرد وصولها إلى أيد أجنبية، بطرق تمتد إلى ما هو أبعد بكثير من النطاق المقصود لتحسين خدمات الرعاية الصحية.

مخاطر التدخل السيبراني الأجنبي تتجاوز مجرد المراقبة، فهناك قلق حقيقي من إمكانية التلاعب بالبيانات أو إساءة استخدامها أو تسليحها. في عالم اليوم، حيث المعلومات هي القوة، فإن السيطرة على البيانات الشخصية والحكومية يمكن أن تكون لها عواقب بعيدة المدى
إن مخاوف الربيحات ليست مجرد افتراضات، فقد أظهر التاريخ أن عمليات الاستخبارات الإسرائيلية استهدفت في كثير من الأحيان الدول المجاورة، مستغلة نقاط الضعف لتقويض سيادتها. إن تحذير النائب من مخاطر تسليم بيانات صحية حساسة لشركة مرتبطة بأنظمة الدفاع الإسرائيلية ينبع من عدم الثقة الطويل الأمد في طموحات إسرائيل الإقليمية. إن ما نحتاجه هو أن ننظر إلى الوراء إلى العملية الاستخباراتية الإسرائيلية التي أدت إلى التفجير الدرامي لأجهزة الاتصالات في لبنان، والذي أدى إلى زعزعة استقرار البلاد وتقويض أمنها الوطني بشكل خطير. إن السماح لشركة ذات مثل هذه الانتماءات بالتعامل مع بيانات الصحة الأردنية ليست مجرد قضية فنية، بل هي مسألة تتعلق بالأمن الوطني.

إن مخاطر التدخل السيبراني الأجنبي تتجاوز مجرد المراقبة، فهناك قلق حقيقي من إمكانية التلاعب بالبيانات أو إساءة استخدامها أو تسليحها. في عالم اليوم، حيث المعلومات هي القوة، فإن السيطرة على البيانات الشخصية والحكومية يمكن أن تكون لها عواقب بعيدة المدى. لقد أدى سجل الإمارات في التجسس السيبراني إلى تغذية المزيد من الشكوك حول طبيعة تعاونها مع الشركات الإسرائيلية، وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، ظهرت تقارير توضح كيف انخرطت السلطات الإماراتية في عمليات تجسس واسعة النطاق على مسؤولين في كل من الدول الأوروبية والعربية. توضح هذه الإجراءات المخاطر الحقيقية والحالية التي تشكلها الكيانات السيبرانية الأجنبية التي تحصل على إمكانية الوصول إلى البنى التحتية الوطنية الحيوية.

ومن بين الشركات التي تشكل محور جهاز المراقبة السيبرانية في الإمارات العربية المتحدة شركة "Beam Trail". وتتمثل المهمة الأساسية للشركة في تعزيز قدرة الدولة على التجسس على مواطنيها وأولئك الذين يعيشون داخل حدودها، باستخدام تقنيات سيبرانية متقدمة لمراقبة الاتصالات وحتى الأجهزة الذكية في منازل الناس. وحقيقة أن هذه الشركة التي تعمل تحت رعاية جهاز الأمن في أبو ظبي تؤكد على الاتجاه المتزايد لاستخدام المراقبة السيبرانية ليس فقط لأغراض دفاعية، بل وأيضا للسيطرة السياسية والقمع.

هذه ليست حالة معزولة، ففي السنوات الأخيرة، شاركت الإمارات في العديد من العمليات السيبرانية البارزة التي استهدفت شخصيات سياسية، سواء في الداخل أو الخارج. واستخدمت شركة "Dark Matter"، وهي شركة أخرى مقرها الإمارات، برنامج التجسس "Pegasus" الذي طورته إسرائيل لاختراق هواتف المسؤولين الأوروبيين والعرب، بما في ذلك السياسيون القطريون، في محاولة لجمع المعلومات الاستخباراتية التي ساهمت في نهاية المطاف في الأزمة الدبلوماسية بين قطر والإمارات.

وقد أظهرت هذه العمليات الإمكانات التي تتمتع بها الأدوات الإلكترونية لتأجيج الأزمات السياسية، وزعزعة استقرار الحكومات، بل وحتى قطع العلاقات الدبلوماسية. ومع دخول شركات مثل بريسايت إلى الصورة، هناك مخاوف مشروعة من أن الأردن قد يجد نفسه متورطا في مخططات مماثلة، حيث تُستخدم البيانات الحساسة ليس لصالح مواطنيه، بل كوسيلة ضغط في الألعاب السياسية الإقليمية.

إن معارضة الربيحات الصريحة للعقد مع شركة بريسايت تنبع من قلق إقليمي أوسع نطاقا بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ففي الأردن، كما هو الحال في العديد من البلدان العربية الأخرى، لا يُنظر إلى إسرائيل باعتبارها جهة محايدة في المنطقة، بل باعتبارها قوة احتلال لها تاريخ طويل من العمليات الاستخباراتية التي تهدف إلى إضعاف جيرانها. وتُعَد فكرة سيطرة شركة مرتبطة بإسرائيل على البيانات الصحية الأردنية بمثابة خطر غير مقبول، وهو ما يهدد النسيج ذاته لسيادة الأمة. ولا يتعلق الأمر بخصوصية البيانات فحسب؛ بل يتعلق أيضا بالمبدأ الأساسي للسيطرة الوطنية على القطاعات الحيوية.
أدخل العصر الرقمي نقاط ضعف جديدة يمكن استغلالها من قبل أولئك الذين لديهم الوسائل والدافع للقيام بذلك. إن السماح للشركات الأجنبية، وخاصة تلك المرتبطة بالدول المعادية، بالوصول إلى القطاعات الوطنية الحيوية، يخاطر بالبلدان بالتضحية بسيادتها في مقابل مكاسب قصيرة الأجل

إن نطاق مشروع التحول الرقمي في قطاع الصحة في الأردن يجعله حساسا بشكل خاص. تُعَد البيانات الصحية من بين أكثر المعلومات الشخصية والخاصة التي تحتفظ بها الحكومة، وأي خرق لهذه البيانات قد يخلف عواقب وخيمة، سواء على المواطنين الأفراد أو على الأمة ككل. إن إمكانية استغلال هذه المعلومات، سواء للتجسس أو التلاعب السياسي أو حتى المكاسب الاقتصادية، تؤكد على أهمية ضمان بقاء هذه البيانات تحت السيطرة الوطنية. إن دعوة الربيحات للحكومة لتوضيح شروط العقد والانسحاب منه ليست مجرد بيان سياسي؛ بل إنها خطوة ضرورية لحماية أمن وسيادة الأردن.

وفي حين تتحرك دول مثل الأردن في المشهد المعقد للتحديث الرقمي، يتعين عليها أن تفعل ذلك بأعين مفتوحة. إن الوعد بالتقدم التكنولوجي لا يمكن إنكاره، ولكن لا ينبغي أن يأتي على حساب الأمن الوطني. وفي عالم حيث أصبحت التهديدات السيبرانية أكثر تعقيدا، لا تستطيع الحكومات أن تتحمل الرضا عن من يتحكم في بياناتها. وتعمل قضية بريسايت كتذكير صارخ بأن القرارات المتخذة اليوم بشأن البنية التحتية الرقمية ستشكل أمن الدول في المستقبل.

وتعكس تحذيرات الربيحات فهما أعمق لهذه المخاطر، ففي منطقة حيث تتغير التحالفات والعداوات السياسية باستمرار، أصبح التحكم في المعلومات بنفس أهمية التحكم في الأراضي. لقد أدخل العصر الرقمي نقاط ضعف جديدة يمكن استغلالها من قبل أولئك الذين لديهم الوسائل والدافع للقيام بذلك. إن السماح للشركات الأجنبية، وخاصة تلك المرتبطة بالدول المعادية، بالوصول إلى القطاعات الوطنية الحيوية، يخاطر بالبلدان بالتضحية بسيادتها في مقابل مكاسب قصيرة الأجل. قد يبدو مشروع التحول الرقمي في قطاع الصحة في الأردن وكأنه مسعى فني بحت، لكنه في الواقع مسألة تتعلق بالأمن الوطني.

الأردن، مثل العديد من الدول الأخرى، عند مفترق طرق في رحلته نحو التحديث الرقمي. والاختيارات التي يتخذها الآن سيكون لها عواقب دائمة، ليس فقط على مواطنيه ولكن على مكانته في النظام الإقليمي والعالمي. يجب مراجعة العقد مع بريسايت مع وضع هذه المخاطر في الاعتبار. يجب أن يكون الأمن الوطني والسيادة وحماية بيانات المواطنين هي الأولويات النهائية. وكما أشار الربيحات بحق، لا يمكن للأردن أن يتحمل التنازل عن هذه المبادئ، بغض النظر عن مدى جاذبية وعد التقدم الرقمي.

x.com/fatimaaljubour
التعليقات (0)