يلقي اجتياح مدينة رفح (سواء بشكل محدود أو بشكل عدواني
وكامل)، الضوء على التعقيدات الأساسية التي تشكل الديناميكيات الإقليمية والعوامل
المؤثرة في عملية صنع القرار في أثناء الحروب. إن القرار الذي اتخذته
إسرائيل بشن
هجمات عسكرية على رفح، والذي يعد امتدادا لحرب الإبادة الجماعية في شمال ووسط
قطاع
غزة، كان سببا في فتح بوابة لفهم أعمق للقوى المؤثرة في الشرق الأوسط من جهة، ورمزية التحالفات الدولية من جهة أخرى. يستلزم هذا الاستكشاف ومحاولات الفهم فحصا
دقيقا لعنصرين محوريين؛ أولا: شخصية بنيامين
نتنياهو وأيديولوجيته، والطابع المتغير
للمجتمع الإسرائيلي وسط حرب مستمرة. ثانيا: نوع التحالفات والضغوط التي تعرض لها
الطرفان (حماس وإسرائيل) خلال فترة الحرب، ودور هذه التحالفات في رسم صورة الحرب
والمفاوضات، والتأثير على مراكز قوى هذه الأطراف.
اللاعقلانية الديكتاتورية
أصبح بنيامين نتنياهو، المعروف بحضوره القوي في السياسة
الإسرائيلية، أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد، حيث تولى منصبه قبل عيد ميلاده
الخمسين. وتمثل فترة ولايته، التي يبلغ مجموعها الآن حوالي 16 عاما، حقبة تاريخية
تضاعف تقريبا مدة ولاية أي زعيم آخر على رأس السلطة، متجاوزة حتى ديفيد بن غوريون،
الأب المؤسس لما يوصف بالدولة الإسرائيلية.
اتسمت مسيرة نتنياهو السياسية بآرائه وسياساته الصريحة،
كما ورد في كتابه الصادر عام 1993 بعنوان "مكان بين الأمم: إسرائيل والعالم".
ويؤكد نتنياهو في كتابه هذا، مكانة إسرائيل كمنارة ديمقراطية في منطقة عربية طغى
عليها الاستبداد، متباهيا بإنجازات الأمة المعجزة في مختلف المجالات، على الرغم من
مواردها الطبيعية المحدودة وموقعها الجغرافي الصعب، بحسب وصفه طبعا.
ومع ذلك، اتخذت الرواية منحى غير متوقع في 7 تشرين
الأول/ أكتوبر 2023. ففي مواجهة "طوفان الأقصى"، تعرض نتنياهو لهزة
نفسية عميقة، بحيث تلاشت خلال دقائق أساطير إسرائيل حول "مقومات الردع واتخاذ
زمام المبادرة، وإسرائيل التي لا تقهر" التي روّج لها على مدار سنوات. وكان رد
فعله على الأزمة، مدفوعا بمزيج من الغطرسة والانتقام، غير المحسوب على الإطلاق.
وبدلا من استهداف حماس بشكل محدد، توسعت استراتيجيته لشن حرب أوسع ضد الشعب
الفلسطيني ككل، سعيا لتحقيق أهداف يرى الكثيرون (في داخل إسرائيل وخارجها)، أنها
بعيدة المنال، ومنفصلة عن الحقائق القاسية والهزائم التي تواجهها إسرائيل على
الأرض.
الوعد بانتصار سريع وحقيقي، أفسح المجال تدريجيا للاعتراف المؤلم بعدم واقعيته، وعدم احتمالية حدوثه، وقد أدى هذا المنظور المتغير إلى إعادة تقييم نقدي للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في غزة.
يبدو أن الرغبة في تمديد الحكم قد عززت العقل الدكتاتوري
لدى نتنياهو، مما قلل من استجابته للنهج المنطقي والعقلاني. ويتفاقم هذا التحول
بسبب محاولاته للتهرب من اتهامات الفساد وقضية إصلاح الأنظمة القضائية لتعزيز
السلطة والديكتاتورية، وتصوير جانب من إسرائيل عدوانيا بلا رحمة، وسلطويا بشكل
متزايد. ومع دخول الحرب في شهرها الثامن دون تحقيق نصر واضح، تستمر سياسات نتنياهو
في الابتعاد بشكل حاد عن توقعات الرأي العام الإسرائيلي بتحقيق انتصار حاسم في
غزة، مما يعيد تعريف صورة إسرائيل في الداخل والخارج.
صورة النصر المفقودة
مع انقشاع ضباب وهم النصر الإسرائيلي في غزة، فإن
الحماسة الأولية التي ميزت دعم الشعب الإسرائيلي للعمليات العسكرية، بدأت تتبدد في
ضوء الواقع القاسي والخسائر المتلاحقة التي تكبدها جيش الاحتلال في جبهات متعددة.
في البداية، لم يكن لأحد أن ينكر حقيقة تأييد
الإسرائيليين لشن عملية واسعة النطاق في غزة، ومع ذلك، ومع استمرار المعارك، وكشف
التكاليف البشرية والمادية، وصمود حماس وفصائل
المقاومة وإعادة تموضعها، أصبح
التحول في الرأي العام الإسرائيلي واضحا. إن الوعد بانتصار سريع وحقيقي، أفسح
المجال تدريجيا للاعتراف المؤلم بعدم واقعيته، وعدم احتمالية حدوثه، وقد أدى هذا
المنظور المتغير إلى إعادة تقييم نقدي للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية في غزة.
واليوم، يتعمق الانقسام في تصورات النصر، الأمر الذي أدى
إلى خلق صدع داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه. وتواصل الحكومة، بقيادة نتنياهو وبدعم
من حلفائه الأكثر تشددا في الحكومة، كبن غفير وسموتريش، مطاردة ما يعده الكثيرون
الآن نصرا وهميا، حيث تنتقل حكومته من فشل تكتيكي إلى آخر، من شمال غزة إلى قلبها،
وصولا إلى رفح. ومع ذلك، فإن عامة الناس، مسترشدين بخيبة أمل متزايدة، أصبحوا
ينظرون إلى الوضع من خلال عدسة عملية، وليس من خلال عدسة الغزو والوهم.
وتوضح نتائج استطلاع للرأي أجرته صحيفة "يسرائيل
هيوم" مؤخرا، هذا التحول الدراماتيكي في الرأي العام الإسرائيلي. فعندما سألوا
الناس في إسرائيل عن رؤيتهم للنصر الحقيقي، كانت الردود تقول:
28 في المئة من الإسرائيليين يمنحون الأولوية الآن لإطلاق
سراح المعتقلين والسجناء من خلال المفاوضات. 17 في المئة ما زالوا متمسكين بهدف
تفكيك حماس. ويعتقد 13 في المئة من الأشخاص المحبطين، أنه ليس من الممكن تحقيق نصر
نهائي على الإطلاق. و10 في المئة فقط يؤيدون الاحتلال العسكري الكامل لغزة. وفي
الوقت نفسه، يركز 7 في المئة على التصفية المستهدفة لشخصيات رئيسية، مثل اغتيال
السنوار.
وتعكس هذه الأرقام زيف ادعاء نتنياهو وجوقته المتطرفة
بأنهم يلبون رغبة الشعب في تحقيق نصر في غزة، إذ إن رغبة هؤلاء باتت واضحة للجميع، وهي الاعتراف بالهزيمة، وتأكيد ضرورة إعادة المحتجزين إلى إسرائيل عبر
المفاوضات، والمفاوضات وحسب.
حلفاؤهم وحلفاؤنا
في نسيج الصراع في الشرق الأوسط دائم التطور، تبرز الحرب
على غزة باعتبارها شهادة على اللعب المعقد بين القوى، والتحالفات، والمصالح
الاستراتيجية التي تشكل المنطقة. وبينما نقوم بتشريح المشهد الجيوسياسي المتعدد
الأوجه للمنطقة الإقليمية، تظهر صورة أوضح للقوى المؤثرة على ديناميكيات ساحة
المعركة، وتكتيكات التفاوض التي يتبعها اللاعبان الرئيسيان المعنيان، إسرائيل
وحماس.
ففي طليعة التحالفات الاستراتيجية لإسرائيل، تأتي
الولايات المتحدة، التي تظل داعما محوريا، على الرغم من بعض الانتقادات الاسمية والشكلية
لجرائم إسرائيل في غزة. ونادرا ما تترجم هذه الانتقادات، النظرية إلى حد كبير، إلى
تحولات سياسية ملموسة، مثل وقف إمدادات الأسلحة أو معاقبة إسرائيل على جرائم الحرب
التي ترتكبها في غزة. بالطبع، كل حديث عن شرخ في العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية، هو
تعبير متفائل ومفرط في التفاؤل.
في الواقع، ييشير التنسيق الدقيق وراء الكواليس، إلى موافقة أمريكية ضمنية على العمليات العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك السيطرة الاستراتيجية على معبر رفح، وقد تجلى ذلك بشكل أكبر من خلال استكمال الولايات المتحدة رصيفا بحريا، يهدف إلى تنظيم المساعدات المقدمة إلى قطاع غزة، وهي خطوة يُنظر إليها على أنها تعزيز السيطرة وحصر وصول أساسيات الحياة لسكان غزة، وتقرير مستقبلهم عبر إسرائيل والولايات المتحدة فقط.
يشير التنسيق الدقيق وراء الكواليس، إلى موافقة أمريكية ضمنية على العمليات العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك السيطرة الاستراتيجية على معبر رفح، وقد تجلى ذلك بشكل أكبر من خلال استكمال الولايات المتحدة رصيفا بحريا، يهدف إلى تنظيم المساعدات المقدمة إلى قطاع غزة، وهي خطوة يُنظر إليها على أنها تعزيز السيطرة وحصر وصول أساسيات الحياة لسكان غزة، وتقرير مستقبلهم عبر إسرائيل والولايات المتحدة.
وعلى النقيض من ذلك، فإن نهج حماس يتسم بالواقعية.
تاريخيا، ربما كان من المتوقع من الدول العربية أن تظهر تضامنها مع غزة. ومع ذلك،
فقد شهد واقع الحرب المؤلمة على غزة، إبرام صفقات كبيرة مع إسرائيل والولايات
المتحدة خلال الحرب، مما ترك حماس تعتمد إلى حدّ كبير على مواردها الخاصة، وتخطيطها
الاستراتيجي وحلفائها في لبنان وسوريا وإيران واليمن والعراق. ومع إدراك حماس
للافتقار إلى الدعم من المحيط العربي، فقد عززت بذكاء قدراتها العسكرية لمواجهة
هذه التحديات بشكل مستقل.
وتزداد الديناميكيات الإقليمية تعقيدا، بسبب العلاقات
الاقتصادية الناشئة بين العرب وإسرائيل، مثل خط الشحن الجديد الذي تعتزم شركة
ميدكون لاينز إنشاءه بين مصر وإسرائيل، والذي يربط الإسكندرية بأسدود وحيفا. هذا
التطور، كما أفاد موقع "port2port" الإسرائيلي، لا يسهل النقل البحري فحسب، بل يدل أيضا على
تكامل اقتصادي أعمق، يشمل انضمام مصر إلى مشروع "جسر بري" لنقل
البضائع من دول الخليج إلى إسرائيل، متجاوزا الحصار الذي يفرضه الحوثيون في البحر
الأحمر.
وبدلا من فتح الفضاء السياسي للشعوب العربية للتعبير عن
دعمها للشعب الفلسطيني، والدعوة لوقف الإبادة الجماعية بحق أهل غزة، وتعزيز الموقف
التفاوضي لهذا الشعب، بدأت السعودية بقمع المواطنين الذين عبروا عن دعمهم لغزة حسب
صحيفة بلومبيرغ. وتأتي هذه الاعتقالات في الوقت الذي يقترب فيه تطبيع العلاقات بين
السعودية وإسرائيل، بحسب مسؤولين أمريكيين.
كما يظهر من بين المعتقلين المدير التنفيذي لمشروع رؤية
2030، واعتبر هذا الشخص في مواقفه الحرب على غزة جريمة مخزية، تهدف إلى إبادة
الفلسطينيين. ومن بين المعتقلين الآخرين، الإعلامية السعودية التي قالت؛ إنه
"لا ينبغي التسامح مع إسرائيل أبدا"، أو يمكن ذكر عدد من المواطنين
السعوديين الذين دعوا إلى مقاطعة مطاعم الوجبات السريعة الأمريكية في السعودية.
وعلى الرغم من كل خطابات القادة السعوديين ضد إسرائيل، وجعل التطبيع مرهونا بإنهاء الحرب وإقامة حلّ الدولتين، فإننا نرى أن السعودية ليست
على استعداد حتى للتسامح مع آراء مواطنيها فيما يتعلق بطلب إنهاء الحرب.
twitter.com/fatimaaljubour