(تنويه.. لقد انتهيت من كتابة هذا المقال قبل إعلان حماس موافقتها على خطة
الهدنة الجديدة بعد ساعات من إعلان مجلس الحرب الصهيوني الهجوم على رفح، لتضع
المقاومة رئيس مجلس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو ومجلسه العسكري في زاوية، فإما
القبول بالهدنة أو رفضها والاستمرار في غزو رفح، وقد اختار نتنياهو الخيار الأخير
ولو -مؤقتا- وسوف ننتظر لنرى ما الذي ستؤول إليه الأمور في ظل تماسك المقاومة
وصمود الشعب
الفلسطيني واستمرار انتفاضة الطلاب في الجامعات الأمريكية وحول العالم).
جاء في مذكرات الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، الوزير عمرو موسى، والمعنونة بـ"كِتابيهْ"، والتي خصصها للحديث عن سنوات الجامعة العربية والمبادرة
العربية وخارطة الطريق الأمريكية التي أعلن عنها في عام 2003: "وأخيرا وليس
آخرا، وهذا هو المهم، أن خارطة الطريق تطلق عملية تفاوضية ثنائية تبعد الجانب
العربي باعتباره طرفا، وتجعله شاهدا أو مشاركا ومطلوبا للتدخل لتليين الموقف
الفلسطيني، أو لدفعه نحو مواقف أقل قوة إزاء
إسرائيل. هذه الخارطة هي
بداية طرح القضية بأن لها طرفين فقط، وأن الجانب العربي غير معتبر طرفا، وبالتالي
واقعيا إنهاء المبادرة العربية باعتبارها تعهدا بما فيها من التطبيع والعلاقات
الطبيعية.. إلخ، بقول آخر: باعتبار المبادرة العربية مفيدة بما احتوته من تعهدات
جماعية إزاء إسرائيل، ولكن لا علاقة لها بالمسار التفاوضي. كنت أرى أن هذا الطرح
الأمريكي إنما يتوجه مباشرة -كذلك- إلى الدور المصري فيغير من طبيعته الرائدة بصدد
القضية الفلسطينية، لتصبح صاحبة دور أقل ريادة ليقترب من دور المسهل".
أدرك المفاوض- المقاوم أن العدو الصهيوني لا يرغب في وقف الحرب لأن إيقافها يعني إعلان الهزيمة وتحقيق طلبات المقاومة التي لا تزال تقف على قدميها متحدية الواقع المتآمر عليها ومن حولها، وبالتالي كان قرار رفع سقف المطالب والتي تبدو تعجيزية واستثمار المناخ الدولي المناهض للعدو والمعارض للحرب
هذا الجزء المقتبس له ترجمته العملية على أرض الواقع، فالمقاوم الفلسطيني
كما المفاوض لا يجد من خلفه دعما ولا سندا ولا عونا، بل دولا تتناطح من أجل الفوز
بلقب المليّن أو المسهّل -على حد وصف عمرو موسى- وأجهزة إعلام تتفاخر ليل نهار بأن
بلادها هي التي نجحت أو ستنجح في إقناع المفاوض الفلسطيني بالموافقة على الهدنة،
والتي عنوانها الأمريكي والإسرائيلي إطلاق سراح الأسرى بينما العنوان الذي تنشده
المقاومة هو وقف الحرب وانسحاب المعتدي وعودة النازحين وإدخال المساعدات إلى كل
غزة.
بعد إتمام صفقة الهدنة الأولى في الأول من كانون الأول/ ديسمبر 2023 أي بعد
شهر ونصف من العدوان، تبين للمقاومة أن العدو ومن ورائه الأمريكان وبعض العرب
الصهاينة إنما أرادوا إثبات الذات والقدرة على الضغط على الجانب الفلسطيني، وذلك
مقابل أجر معلوم كشفت عنه الأيام لاحقا.
نصت بنود الهدنة آنذاك على:
- وقف حركة آليات الاحتلال العسكرية المتوغلة في قطاع
غزة.
- إطلاق سراح 50 امرأة وقاصرا تحت سن الـ19 عاما من الأسرى عند
حماس، مقابل الإفراج عن 150 امرأة وقاصرا من الفلسطينيين المعتقلين في سجون
إسرائيل.
- وقف حركة الطيران فوق شمال غزة من الـعاشرة صباحا حتى الـرابعة مساء في كل يوم
من أيام الهدنة.
- وقف حركة الطيران تماما فوق جنوب القطاع خلال مدة الهدنة بالكامل.
- عدم التعرض لأحد أو اعتقال أحد في كل مناطق قطاع غزة.
- ضمان حرية حركة الناس من الشمال إلى الجنوب على طول شارع صلاح
الدين.
- دخول شاحنات محملة بالمساعدات والوقود إلى قطاع غزة، ونشرت "حماس" أنه سيتم إدخال 200 شاحنة إغاثية يوميا، إضافة إلى 4 شاحنات تحمل الغاز والوقود.
وانتهت إلى أن العدو نقض الاتفاق ولم يسمح بمرور المساعدات وفق الاتفاق ولم
يسمح بالعودة وأعاد اعتقال عدد ممن أفرج عنهم، وتبين للمقاومة أن العدو يرغب في
استدراجها إلى معادلة مفادها (التهدئة مقابل الأسرى)، وبالتالي يحرم المقاومة من
أهمل أوراق التفاوض -أو بتعبير آخر يحصل بالتفاوض على ما لم يحصل عليه بالقتال-
ويبدو كما لو كان منتصرا وهو ليس كذلك، فالمقاومة كانت ولا تزال تمسك بـأوراق مهمة
على رأسها أنها لا تزال تؤذي الكيان وتنال من كبريائه المزعوم، كما أنها لا تزال
قادرة على رفع راية التحدي ومفاجأة العدو الذي أعلن انسحابه من عدة مناطق وعاد إليها
بعدما اكتشف أن المقاومة موجودة ولم يتم القضاء عليها، كما أن المقاومة لا تزال
موجودة في الواقع الحياتي لسكان غزة ولم تسقط رايتها، ناهيك عن الأسرى وهو صداع في
رأس الكيان ومؤيديه، أضف إلى ذلك أن غزة تحظى بدعم شعبي عالمي غير مسبوق وصل
إلى حرم الجامعات الأمريكية الكبرى ونقل الكرة في الملعب الأمريكي وإلى ساحة محكمة
العدل الدولية أيضا، ولا نستثني هنا دخول المقاومة في جنوب لبنان واليمن والعراق
وحتى إيران ولو بطريقة خجولة في الصراع مما قدم دعما كبيرا للمقاوم وللمفاوض على
حد سواء.
قلت في مقال سابق إن السياسي يتبع المقاوم أو يجب أن يتبعه، على عكس العمل
في الجيوش النظامية حيث يتبع العسكري السياسي، فالحرب في النهاية قرار سياسي مسئول
عنه الرئيس أو رئيس الوزراء حسب النظام السياسي المتبع، ولكن في حالة المقاومة فإن
الجناح السياسي يجب عليه اتباع ارشادات المقاومة لأنها أعلم بالحقيقة على الأرض،
وهذا لا يعني التقليل من الجناح السياسي الذي يمثل غطاء سياسيا للمقاومة.
أدرك المفاوض- المقاوم أن العدو الصهيوني لا يرغب في وقف الحرب لأن إيقافها
يعني إعلان الهزيمة وتحقيق طلبات المقاومة التي لا تزال تقف على قدميها متحدية
الواقع المتآمر عليها ومن حولها، وبالتالي كان قرار رفع سقف المطالب والتي تبدو
تعجيزية واستثمار المناخ الدولي المناهض للعدو والمعارض للحرب؛ والذي تمثل في كرة
الثلج داخل الجامعات الأمريكية وكشف عن حجم الدعم الأمريكي وبلا شروط وأسقط زيف
الادعاءات الأمريكية بأنها تريد حل الدولتين، كل ذلك لم يكن ليحدث لولا دهاء
المفاوض- المقاوم الذي كشف وبإصراره على عدم الاستسلام للضغوط العربية والأجنبية من
أجل سراب ما يسمى بالدولة الفلسطينية والتصالح مع العدو الصهيوني؛ والتي تمت
تجربتها عبر أكثر من سبعين عاما وثبت فشلها.
لقد وضع المفاوض- المقاوم الجميع أمام الحقيقة المجردة والمعروفة سلفا، وهي
أن أمريكا لا تريد سلاما ولا تريد من العرب سوى النفط وتمييع الدِين، وأنها لو أرادت
الضغط على الكيان فلن تفعل، وأن سعيها هذا ليس جديدا مستحدثا بل قديم معاد منذ عهد
وزير الخارجية الأشهر هنري كيسنجر الذي كتب في الجزء الأول من مذكراته: "ويعتقد
العرب خطأ واعتقادهم راسخ أن في استطاعتنا التأثير على إسرائيل، كما يعتقد
الفرنسيون والبريطانيون أننا نتمكن من عمل أكثر مما قمنا به حتى الآن".
كل التصريحات القادمة من داخل الكيان ومن خارجه وتحديدا من البيت الأبيض تؤكد خسارة الكيان للمعركة على عدة صعد؛ ليس أقلها الصعيد العسكري
ويشرح هنري كيسنجر الاستراتيجية الأمريكية في نفس المذكرات بالقول بأن
الضغط على الكيان الصهيوني سيشجع العرب المتشددين وأتباع الاتحاد السوفييتي، ورغم انهيار
الأخير إلا أن نفس المبدأ لا يزال قائما، وهو عدم تشجيع المقاومة وأنصارها
ومكافأتهم على أي عمل يكون من شأنه النيل من الكيان الصهيوني أو حصول الفلسطينيين
على حقوقهم المشروعة.
لقد أثبتت عملية كرم أبو سالم قبل يومين من كتابة هذا المقال أنه ورغم
التوغل العسكري الصهيوني في القطاع وعملية الإبادة والدمار الشامل إلا أن للمقاومة
كلمة مسموعة وتستطيع النيل من العدو رغم زعمه السيطرة والهيمنة العسكرية، كما أن
المقاومة أكدت وتؤكد بعملياتها العسكرية الناجعة أن يدها الطولى غير متأثرة بالدعم
العسكري والسياسي الأمريكي اللا محدود للكيان الصهيوني، وأنها -أي المقاومة- تعلم
علم اليقين أن دخول العدو إلى رفح هو مغامرة لن يجني من ورائها المزيد من خيبة
الأمل وطول انتظار من أجل تحقيق أهدافه التي أعلن عنها ولم تتحقق على مدار سبعة
أشهر كاملة.
إن كل التصريحات القادمة من داخل الكيان ومن خارجه وتحديدا من البيت الأبيض
تؤكد خسارة الكيان للمعركة على عدة صعد؛ ليس أقلها الصعيد العسكري، وبالتالي
فالاستراتيجية التي يتبعها المفاوض- المقاوم هي استراتيجية الواثق من حتمية النصر
غير المبالي بالتهديد والوعيد والمدرك لحقيقة أن العدو وحلفاءه قد أفرغوا كل ما في
وسعهم وليس لديهم الكثير ليقدموه، وأن كل آت قريب وأن النصر مع الصبر.