كتب

لماذا يظلّ المصلح التونسي سليمان الحرايري معاصرا لنا؟ قراءة في كتاب

"كنز منسيّ" يشي بمقتضى الحقول المعرفية التي انتظمته، وهي بالأساس علميّة وأدبيّة، وزّعها المؤلفان على تسعة (9) أبواب..
"كنز منسيّ" يشي بمقتضى الحقول المعرفية التي انتظمته، وهي بالأساس علميّة وأدبيّة، وزّعها المؤلفان على تسعة (9) أبواب..
تصدير

"سليمان  الحرايري من الأوائل الذين طرحوا في العالم الإسلامي أفكارا
تجديدية تعتمد على العلوم العصرية، ونشر المعرفة، والانفتاح على الآخر"

أ‌. إبراهيم جدلة

انخرطت تونس منذ فجر القرن التاسع عشر في أولى محاولات التحديث السياسي والمؤسساتي، وقد كانت فئة العلماء، قبل تخرّج الضبّاط، على غرار الجنرال حسين( 1828- 1887) والجنرال رستم  (1820- 1886) والقايد محمد رشيد و محمد بن الحاج عمر، من المدرسة الحربيّة/ البوليتكنيكية بباردو التي أسسها المشير الأول أحمد باشا باي( 1837-1855) بتاريخ 5 مارس 1840، وعلى أيديها كانت أولى الإصلاحات، الشريحة الوحيدة المتعلمة في البلاد والنخبة القادرة أكثر من غيرها على استيعاب دواعي التحديث ومتطلباته والمشاركة فيه والقيام على تطبيقه.

1 ـ النخب الزيتونية واحدة أم متعددة؟

لئن تباينت الآراء حول موقع هذا الصّنف من النخب في الحركة الإصلاحية ودورها فيها ومدى إسهامها في تشكيل أهم التيارات الفكرية والسياسية التي عرفتها البلاد، ومدى قابليتها للنمذجة الكلاسيكية لفئة العلماء وبالتالي النظر إليها ككتلة متجانسة ذات مواقع ومواقف موحّدة، من كونها لم  تكن بالضرورة كذلك، ولا هي منحازة ما قبليا إلى موقف ثقافي أو سياسي دون آخر، فإنّ الثابت أنّ هذه النخب لم تكن بمعزل عن مجريات الأحداث سواء في أوروبا أو في المشرق العربي والعالم العثماني، وتبعا لذلك فإنّها لم تكن بمنأى عن التحوّلات الفكرية والثقافية العميقة التي كانت تحدث في أوروبا وتلقي بانعكاساتها على العالم الإسلامي.

تحديث العقل الإسلامي، في تقدير سليمان الحرايري، لم يكن خيارا وإنّما كان رهانا على تحقيق المصالحة بين "بني جنسه" وحركة التاريخ ولا سيما في خضمّ التحوّلات العاصفة التي حدثت في أوروبا والعالم الغربي خلال القرن التاسع عشر وباتت تهدد العالم القديم، والعالم الإسلامي جزء لا يتجزّأ منه، بالانهيار الشامل أمام قوّة الغرب الجارفة، بما أضحت معه عصرنة "الثقافة الوطنية" وعقلنتها من مقتضيات الواقع واستملاءات الضرورة وواجب" إرشاد الناس إلى مصالحهم".
ومثلما كان لبعض هذه النخب اطلاع على ما يصدر عن مطابع إسطنبول والقاهرة وبلاد الشام، كان لبعضها الآخر اطلاع على ما يحدث في الغرب من تحوّلات سواء بزيارة مختلف دول أوروبا أو عن طريق أساتذة المدرسة الحربية بباردو ومدرّسي الجيش الجديد، ممّا دعّم لديها رهان الدعوة إلى الإصلاح والمناداة بالتحديث وتقليص الفجوة القائمة بين المجتمع المحلي ومدنيّة الغرب وتحقيق التوافق بين "الثقافة الوطنية" والنظم العصريّة، وذلك بـ:

ـ التبكير في الوعي بأهمية الانفتاح اللغوي على الحضارة الأقوى،

ـ وكسر الصورة النمطية التي كرّستها المؤسسة الدينية التقليدية، تاريخيا، للآخر، لمّا أقرّت بمفهوم "الأسوة الأوروبية" في "العلوم والمعارف النافعة ممّا هو مشاهد بالعيان لا ينكره إنسان".

2 ـ لا إصلاح ولا تحديث إلا باقتباس العلوم

تجلّى ذلك بالخصوص في بواكير الحركة الإصلاحية مع محمود قبادو (ت 1288/ 1871) الذي كان، إلى جانب الشيخ الشاذلي بن صالح (ت 1890)، والشيخ محمد بن الحسن التطاوني، والشيخ البشير التواتي(ت 1892)، والشيخ حسونة بن مصطفى والشيخ محمد بن الحاج عمر وآخرين، أشهر التونسيين وأقواهم تأثيرا في سَيْرِ مدرسة باردو الحربية وفي أذهان طلبتها، وبالأساس في إسهامه الفكري بها منذ سنة 1842 بالدعوة إلى ما أسماه اصطلاحا "العلوم الكونيّة" أو أيضا " العلوم الرياضية والطبيعيّة، والعلوم الحكميّة" أي العلوم العصرية، وهي العلوم التي ارتأى على حد تعبير محمد الفاضل ابن عاشور، أنّه لا سبيل إلى نهضة العالم الإسلامي "إلاّ باقتباسها عن الأوروبيين بالنقل والتعلّم"، وفي هذا الإطار سيتنزّل دعمه لحركة الترجمة وتفطنه المبكّر إلى دورها الرائد والحيوي في مدّ جسور التواصل مع الآخر، ممّا سيكون له دور ثقافي وفكري متقدّم يتجاوز إلى حدّ بعيد الوظيفة التعليمية المباشرة التي كانت بالأصالة وراء هذه الدعوة إلى تلبية الحاجيات الحقيقية والعميقة للمجتمع.

3 ـ جيل الروّاد وسابقة الانفتاح على الآخر

يعدّ الشيخ محمّد بن سلامة (1802ـ 1850) الأب الروحي للفكر الإصلاحي التونسي حيث أصرّ في كتابه "العقد المنضّد" على الدفاع عن إصلاحات المشير الأول أحمد باشا باي وكان رائدا في المناداة بضرورة التجديد ووجوب أخذ المسلمين ما يفيدهم عن غيرهم ولو كان كافرا"، ولئن كان لمحمود قبادو في الديباجة التي حرّرها لترجمة كتاب " أصول الحرب"( ط1، 1260/ 1844) الفضل في المناداة بـ "فضل العلم في تقدّم الأمم"، كما كان له فضل السّابقة في الدعوة إلى  تعريب المؤلفات الأوروبية ومن ثمة العلوم العصرية، إلاّ أنّ ذلك، ولاعتبارات تتعلّق بثقافة الرجل وتكوينه الأساسي، لم يتعدّ حيّز الإشراف على مراجعة النصوص المترجمة وإصلاحها وحضّ الطلبة على القيام بها بـ "هزّ دوحة طباعهم إليها وإفراغ محاسنها في قوالب أسماعهم"، بحيث لم تؤثر عنه فيها مؤلّفات، فإنّ الرّيادة الفعلية في هذا الباب: ثقافة وآفاقا ذهنية ومعرفية وإنتاجا علميا ستكون بداية من سنة 1268/ 1848 مع سليمان الحرايري(ت1294/ 1877)، أحد أبرز الروّاد التونسيين المنسيين الذين طرحوا في العالم الإسلامي، على حدّ تعبير الأستاذ إبراهيم جدلة، أفكارا تجديدية تعتمد على العلوم العصرية، ونشر المعرفة، والانفتاح على الآخر من خلال معرفته ومعرفة ما توصّل إليه من علم واختراعات" و"أوّل من شرع من التونسيين في تعريب كتب عديدة في العلوم الحديثة بعد أن تعلّم اللغة الفرنسية وأتقنت استعمالها".

في هذا السياق يتنزّل كتاب سليمان الحرايري (1824 ـ 1877) "الكنز المنسيّ: أعمال سليمان الحرايري غير المنشورة (1848- 1856) لمحمد المهدي عبد الجوّاد وبيار ـ مارك آجيرونPerre- Marc Ageron الصادر حديثا في طبعة أولى عن دار الكتب الوطنية بتونس بتصدير لمديرها العام الأستاذ خالد كشير ومراجعة للأستاذ زهير بن يوسف، وهو على وجه الحقيقة الجزء الثاني من كتاب واحد كان جزؤه الأول قد صدر للأستاذين محمد المهدي عبد الجوّاد وبيار- مارك آجيرون، في طبعة أولى، سنة 2023 عن دار الكتب الوطنية بتونس دائما بتصدير للأستاذة رجاء بن سلامة، المديرة العامة السابقة لدار الكتب الوطنية، ومراجعة للأستاذ زهير بن يوسف، الأستاذ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، تحت عنوان: "سليمان الحرايري: المثقف التونسي المتحرر".

ولئن كان المؤلفان قد خصّصا محتوى الجزء الأول الذي يقع في مائتين وثلاثين(230) صفحة من القطع المتوسط، موزّعة على أربعة(4) أبواب توزّعتها هي الأخرى فصول ومباحث جاءت على قدر معقول من التوازن والترابط " لما جدّ من معلومات خاصّة بالسّيرة الذاتية لسليمان الحرايري وما نُشر حولها"، سيرة ذاتيّة للحرايري ضافية، ضمّنّا فيها ما اعتبراه "رؤية معمّقة  ومُحيّنة لحياته وعرضًا لجميع أعماله المطبوعة، مع تسليط الأضواء على مختلف جوانب شخصيته باعتباره أحد روّاد الصحافة العربية" فإنهما قد اختصّا هذا الجزء الجزء الثاني، ويقع في  ثلاثمائة وستيين(360) صفحة من القطع المتوسط، بتقديم "أعمال سليمان الحرايري غير المنشورة" ووصفها وتحقيقها، مشفوعة بفهرس مفصّل وُصف بالدقيق لجميع كتبه ومخطوطاته ووثائقه المحفوظة بالمكتبة الجامعية للغات والحضارات بباريس (BULAC)، وهي كتابات ظلّت منسيّة طيلة قرن ونصف من الزمان سمّياها "بالكنز المنسي"،  وبصدور هذا الجزء تكتمل، وفقا لما جاء في كلمة التصدير، دراسة شخصية فريدة من نوعها"" لتونسي متميّز خاض مغامرة اختارها لنفسه".

4 ـ أعمال سليمان الحرايري غير المنشورة

لئن انصرف مجهود الباحثين الأستاذ محمد المهدي عبد الجواد والأستاذ بيار- مارك آجيرون Pierre-Marc Ageron في القسم الأوّل من هذا العمل إلى سيرة سليمان الحرايري ومسيرته فإنّ همّتهما في هذا القسم الثاني قد تعلّقت، وبالمنهج الاستقصائي ذاته،  بمنجزه العلمي، وقد بدا على قدر لا يستهان به: طرافة وتنوّعا وتميّزا وضخامة، العشرات من النصوص سواء في حقل الترجمة والتأليف أو في حقل تحرير المقالات الصحفية وتحقيق عيون الكتب التراثية، منجز علميّ ظلّت عناوينه المفاتيح والعديد من نصوصه غائبة عن الفهارس، موزّعة بين عدّة مخطوطات وملفات، أعمال غير منشورة، وتحديدا مجموعة  من الكتب المدرسية والتآليف العلمية الفرنسية، ظلّت مجهولة لدى القارئ العربي والأوروبي على السواء، لئن انتبه إليها جزئيا المستشرق الفرنسي فرانسيس ريشار Francis Richard سنة 2005 الذي" نسب أكثر من أربعين(40) ملفّا مخطوطا إلى الحرايري ناسخا أو مالكا وأكّد أنّ أربعة(4) منها من تأليفه"، فإنّ الفضل في اكتشافها، ويعود ذلك إلى سنة 2019، ورصدها وتبويبها وتحقيقها وتحليلها، يعود حصريا إلى الباحث التونسي المهدي عبد الجوّاد أستاذ الرياضيات بجامعة تونس سابقا، والمختص في تاريخ تعليم العلوم، وعضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون ـ بيت الحكمة والباحث الفرنسي بيار- مارك آجيرون Pierre-Marc Ageron أستاذ الرياضيات بجامعة كاين نورماندي(Caen Normandie) وعضو مختبر نيكولاس أورسم (Nicolas Oresme) للرياضيات (CNRS UMR 6139). والمسؤول، ضمن شبكة معاهد البحث في تعليم الرياضيات، عن لجنة نظرية المعرفة وتاريخ الرياضيات في المصادر الأرشيفية والمكتبية التونسية والفرنسية وخاصة منها، فضلا عن دار الكتب الوطنية بتونس والأرشيف الوطني التونسي، والمكتبة الجامعية للغات والحضارات  (BULAC)ومعهد اللغات الشرقية بباريس والمختص في تاريخ انتقال العلوم الأوروبية إلى المجتمعات العربية والإسلامية.

ومقابل القسم الأول من هذا الكتاب وهو القسم الموسوم بـ"سليمان الحرايري المثقف التونسي المتحرّر" الذي تضمّن "عرضا لجميع أعماله المطبوعة"، فإنّ القسم الثاني الموسوم بـ "الكنز المنسي أعمال غير منشورة لسليمان الحرايري" قد اعتنى "بتقديم أعمال سليمان الحرايري غير المنشورة ووصفها وتحقيقها"، مشفوعة بفهرس لجميع كتب الحرايري  ومخطوطاطه ووثائقه الشخصية التي ظلّت مركونة بالمكتبة الجامعية للغات والحضارات بباريس (BULAC)، مكنونة بها،  فهرس نعته الباحثان بالمفصّل والدقيق، من بينها أعمال ألّفها، وهي قليلة، وأخرى عرّبها، وهي معظم أعماله، تمّ تحبيرها سواء بتونس أي قبل سنة 1856 في سياق ما اصطلح المؤلفان على تسميته بالبرنامج التربوي العام، أو بباريس بعد استقراره بها بهدف " التعرّف على العلوم الأوروبيّة "، زيادة على المقالات الصحفية.

5 ـ العلوم العصرية مدخلا للتحديث

"كنز منسيّ" يشي بمقتضى الحقول المعرفية التي انتظمته، وهي بالأساس علميّة وأدبيّة، وزّعها المؤلفان على تسعة (9) أبواب هي: النحو، والأدب، والفلسفة، والعلوم الطبيّة والصيدليّة، والحساب وجداول اللوغاريتم، وعلم الفلك، والكوسموغرافيا Cosmographie ، والهندسة العملية، والكيمياء، والفيزياء، بتمثّل لإشكالية التقدّم والتأخّر لدى سليمان الحرايري ومداخل  لتجاوز واقع الانحطاط وتحقيق التواصل التاريخي بين ثقل الإرث الحضاري وأعباء الحاضر مختلفة عن تلك التي راجت لدى عموم النخب العربية في عصر النهضة، حيث  أنّ هذا المثقف التونسي المتفرّد، بالرغم من تكوينه الأصلي، وهو تكوين كلاسيكي، لم يختزل المسائل المتداخلة  في الإصلاح الديني، على غرار غيره من رواد الحركة الإصلاحيّة، ولا في التحديث السياسي والمؤسساتي الذي تتفرع عنه سائر المسائل الأخرى، وإنّما في مدخل " تشحيذ الأذهان" و" تفتيق الأفهام" بتوسيع  دوائر " العلوم والمعارف النافعة"، وهي العلوم التي يسميها الفقهاء بالعلوم الدنيوية، اعتمادا على العلوم العصرية وفي مقدمتها الرياضيات أو "الحساب والهندسة واللوغاريتم Logarithme والكيمياء والطبّ ونحو ذلك من العلوم التي لا غنى للإنسان عنها في المعاش والعشرة"، وعيا منه  بـ"شدّة الحاجة إليها" ولا سيما في المجتمعات الشرقيّة و"نفعها لأبناء جنسه" مغربا ومشرقا.

مهما كانت محدودية انتشار المنجز العلمي لسليمان الحرايري: تأليفا وتعريبا، ومحدودية تأثيره في المجتمعات الشرقيّة: نخبا وجمهورا، فإنّ في مشروعه الإصلاحي هذا بما يحتويه من رؤى حديثة ومعجم اصطلاحي جديد، وتمثلات لدور العلوم الدقيقة في انتشال العالم الإسلامي من الضياع التاريخي وتمكينهم من الاندراج من جديد في حركة التاريخ، من بواكير الإصلاح والحداثة واتساع الآفاق الذهنية
ومؤدى هذا أنّ المسعى التحديثي لدى سليمان الحرايري، وعلى عكس الكثيرين من رموز النخب التونسية ممن كانوا ينتمون إلى دوائر السلطة أو يدورون في فلكها، لم يكن بمقتضى الدفاع عن المصالح والامتيازات والمحافظة على المكانة الاجتماعية وإنّما كان وبالأساس بدافع الوعي بأهمية التحديث والاقتناع الذاتي بضرورته، وهذا مكمن أوّل من مكامن قوّته وحيويته، أمّا ثاني مكامن القوّة والفعاليّة فيه فيتمثّل في اندراجه، في مرحلة تاريخية لم يكن فيها تعريب كتب العلوم الأوروربية، في حدود الإيالة التونسية على الأقلّ، وعلى خلاف التجربة المصرية، سياسة دولة، في إطار ما يمكن أن يوصف بالتمشّي الإصلاحي أو المشروع التحديثي لدى سليمان الحرايري، وهو التمشّي الذي بقدر ما تميّز به من انفتاح على الآخر واتساع في الآفاق الذهنية لم يألُ جهدا في نقد الثقافة التقليدية وتفجير شتى التناقضات مع حمَلة الوعي المفوّت من "علمائنا الغافلين" فيها ولاسيما على مستوى موقفهم المعادي للعلوم الدقيقة، رغم أنّها من علوم الوسائل ومعرفتها ضرورية لجميع العلوم بما في ذلك العلوم الشرعية، وتهاونهم في تدريسها بدعوى أن " لا فائدة في تعلّم الحساب والجغرافيا والتاريخ والهندسة والطب، وينبذون كتبها وراء ظهورهم وينهون عنها من يريد أن يتعاطاها".

6 ـ سليمان الحرايري وتحديث العقل الإسلامي

معنى  هذا أنّ  تحديث العقل الإسلامي، في تقدير سليمان الحرايري، لم يكن خيارا وإنّما كان رهانا على تحقيق المصالحة بين "بني جنسه" وحركة التاريخ ولا سيما في خضمّ التحوّلات العاصفة التي حدثت في أوروبا والعالم الغربي خلال القرن التاسع عشر وباتت تهدد العالم القديم، والعالم الإسلامي جزء لا يتجزّأ منه، بالانهيار الشامل أمام قوّة الغرب الجارفة، بما أضحت معه عصرنة "الثقافة الوطنية" وعقلنتها من مقتضيات الواقع واستملاءات الضرورة وواجب" إرشاد الناس إلى مصالحهم".

وعليه فإنّ انهماك سليمان الحرايري في دراسة العلوم الدقيقة، وإقباله على تعريب العديد من الأعمال المرجعية فيها، بعد أن تعلّم اللغة الفرنسية، بما هي في تقديره " مفتاح علوم لا يتوصّل إليها إلاّ بها، وتمكّن منها،  وتيسّر له "فكّ العلوم الرياضيّة بالبرهان"، وإن لم تغب عنه المقاصد التعليمية، وهو ما يتضح من خلال المعجم المستخدم، وفيه مراوحة بين الفصحى واللسان الدارج بمدينة تونس، وأساليب القول المعتمدة في خطابه العلمي، وهي أساليب منتظمة ويسيرة القراءة: سدّا لفراغ معرفي وسعيا إلى نشر المعارف الجديدة وتمكينا للمتعلّم التونسي من مبادئ الفنون الحديثة وفروعها ، فقد حضرت معه بالتزامن مع ذلك وأساسا مرامي الطموح التنويرية، ذلك أنّ الحرايري مؤلفا ومترجما كان مدفوعا برغبة جامحة  في إتاحة النصوص العلمية الموارد في الثقافة الغربية للقارئ العربي، ومن ثمة إطلاع هذا القارئ ذاته على مناهل في الثقافة لا عهد له بما من قبل، بمقتضى الانقطاع التاريخي، مناهل في الثقافة جديدة على بناه الثقافية التقليدية منقطعة عنها، ولفت نظر الناطقين باللغة العربية عموما إلى أهمية المناهج والطرق الحديثة الغائبة عن المظان العلمية العربية التراثية وإلى منجز الأوروبيين فيها وإضافاتهم إليها، و"شتّان بين علومنا التي كنّا نعرفها، وبين علومهم الآن، كما هو مشاهد حسّا".

خاتمة

مهما كانت محدودية انتشار المنجز العلمي لسليمان الحرايري: تأليفا وتعريبا، ومحدودية تأثيره في المجتمعات الشرقيّة: نخبا وجمهورا، فإنّ في مشروعه الإصلاحي هذا بما يحتويه من رؤى حديثة ومعجم اصطلاحي جديد، وتمثلات لدور العلوم الدقيقة في انتشال العالم الإسلامي من الضياع التاريخي وتمكينهم من الاندراج من جديد في حركة التاريخ، من بواكير الإصلاح والحداثة واتساع الآفاق الذهنية، وبما هو نوع من "البيان التأسيسي" لمشروع مختلف في "الإصلاحات الضروريّة للأقطار الإسلامية" ما يدعو إلى جدارته بالبحث والتقصّي من قبل المختصين في تاريخ الأفكار: دوافع ومضامين وأدوارا ومقاصد وإمكانات معاصرة لنا، جدارة سليمان الحرايري مثقفا ومُصلحا بتنزيله منزلته الحقيقية في تاريخ الثقافة وفي تاريخ الحركة الإصلاحية العربية، ومنها الحركة الإصلاحية التونسية، على قدر إسهامه في إعادة بناء هذه وتلك وتوسيع آفاقها، وفي تاريخ العلاقات بين شمال المتوسط وجنوبه، بين أوروبا والعالم الإسلامي ولاسيما قبل حدث الاحتلال.

*أستاذ في جامعة تونس
التعليقات (0)