قضايا وآراء

مشكاة النور في تاريخنا الحضاري

عزالدين مصطفى جلولي
تعالوا نتحاور بالحكمة والعلم، في جو من المودة والرحمة، فلعل بعض ما تقولون فيه حق، ولعل بعض ما نقول فيه خير.. (الأناضول)
تعالوا نتحاور بالحكمة والعلم، في جو من المودة والرحمة، فلعل بعض ما تقولون فيه حق، ولعل بعض ما نقول فيه خير.. (الأناضول)
رب ضارة نافعة

كانت لغياب الحواضر العلمية، كالأزهر في القاهرة وجامع الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب آثار وخيمة على الوعي الديني لشعوب شمال إفريقية والعالم أجمع. فما كان لأحد من الناس أن يتجرأ على ابتداع طريقة أو القول برأي أو تغيير مستقر من الفقه من دون أن يراعي هذه المراجع الكبرى خوفا على نفسه من الفضيحة في الأوساط العلمية وتحسبا منه لردات الفعل الاجتماعية. أما وقد غابت إلى حين من الدهر هذه المنارات وخلفها شتات هزيل من الكليات هنا وهناك لا تأثير له يذكر على الناس، فقد ظهرت بين الناس فقاعات متفردة بشطحات هزلية لا تراعي المدارس الفقهية ولا تغوص عميقا في باطن الشريعة الإسلامية؛ فوقعت في بلائين من شر فعالها، رفض المجتمع لها جملة وتفصيلا، واستغلال الاستبداد السياسي والاحتلال الصهيوني لها.

بين المنشأ والمآل عهد من تاريخ أمتنا المظلم تطاول عليه العمر وقد أزفت ساعة التمحيص. يتداول الصالحون في بلاد الشام مشافهة قصة غريبة ذات عبرة، كان بطلها أحد علمائها حينما كان يعمل مدرسا في دولة الإمارات العربية المتحدة إبان حكم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. كان هذا الحاكم على علاته لا يكيد للدول الإسلامية كما هو شأن بنيه اليوم، وقد حظي ذلك العالم بقرب الأمير فأدناه منه، وصارت بينهما ثقة وكلمة مسموعة، تنبه إليها عملاء الإنجليز، فاستوقفوا هذا العالم مرة في طريقه وأخبروه بأن عليه مغادرة الإمارات فورا. شكى الرجل للأمير ما تعرض له من قبل هؤلاء الغرباء، فكانت مفاجأة العالم أكبر برد الشيخ زايد، بأنه لا يستطيع حمايته من أولئك الذين هددوه! فما كان من هذا الشيخ الصالح سوى الرحيل إلى وطنه مؤثرا السلامة.

فبين كتاب الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورانس العرب (ت ١٩٣٥م) "أعمدة الحكمة السبعة"، وبين مقولة وزير الدفاع الأمريكي دونالد هنري رامسفيلد (ت ٢٠٢١م)، بعد احتلال العراق سنة ٢٠٠٣م، بـ"ضرورة تغيير ذهنية المسلمين"، رواية قد أشرفت على نهايتها، تستحق من الأذكياء وطلاب العلم قراءتها بعمق.

التعصب والكيد والعنف معاول هدم لمعلم حضاري يسمى الحوار بين الثقافات والأديان. كان الأنبياء أفضل فرسانه فيما سجل لنا الكتاب المنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولقد استلهم منه علماء كثر منهجا لا أحسب أن أحدا من أساطين الفكر بلغ شأوه؛ فلنجعل من سير الأنبياء أسوة لنا في هذا العالم المتفجر كالبركان.
للضمير الجمعي في أمتنا نداء، ومن واجبنا أن نلبي هذا النداء. نداء ينقذ الأمة من سرداب الشقاق الذي زجت فيه بغير مشورة منها، ومن دون أن تُتوخى مصلحة معتبرة لها من ذلك العبث، اللهم إلا مصلحة يتزلف بها البعض إلى الأجنبي.

لكل دينه ومذهبه، فلم الخصام؟ تعالوا نتحاور بالحكمة والعلم، في جو من المودة والرحمة، فلعل بعض ما تقولون فيه حق، ولعل بعض ما نقول فيه خير.

التعصب والكيد والعنف معاول هدم لمعلم حضاري يسمى الحوار بين الثقافات والأديان. كان الأنبياء أفضل فرسانه فيما سجل لنا الكتاب المنزل على محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولقد استلهم منه علماء كثر منهجا لا أحسب أن أحدا من أساطين الفكر بلغ شأوه؛ فلنجعل من سير الأنبياء أسوة لنا في هذا العالم المتفجر كالبركان.

الوطنية الحقة

ليست الوطنية من أحدنا بأب أو أم، أو بدولة قطرية جمهورية كانت أم إمارة ملكية، إنما الوطنية انتماء لأمة مسلمة من شرق الأرض إلى غربها، وهي أمة حية باقية وتتمدد بحول الله؛ لذلكم، فإن خلافة الله في أرضه ـ كل أرضه ـ من الواجبات التي تراخى المسلمون عن أدائها، وتلزمهم العودة الجادة إلى القيام بها، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.

من سمات الدولة الحديثة تركيزها على "الوطنية" كمشتق ليس له دلالة واضحة، إذ غالبا ما يتداول في سياق الحديث عن محبة الوطن، "الوطن" بمعنى الدولة القطرية لا الدولة الأمة كما في الشريعة السمحة. أما التدقيق في مختلف الاشتقاقات فمدعاة لتحرير محل النزاع، والخلوص إثره لتشكيل مفهوم تشكيلا يضع النقاط على الحروف، بدل الجهالة المفضية للمنازعة كما يقول الفقهاء رحمهم الله.

إنه لمّا رفع غطاء الرأس عن الحضارة الإسلامية، أعنى تداعي عروة الحاكمية على مهل عبر الزمن، كشفت ثلمة عظيمة في تاريخ أمتنا لم تسد حتى وقتنا الحاضر. ولا تزال شعوب مسلمة كثيرة تعاني من تركة الاستعمار التشريعية، حين استبدل الشريعة بالقانون، فأصاب التركيبة الاجتماعية لتلك البلدان في مقتل، كابدت بمرارة سمه الذعاف حتى كادت أن تفقد في النجاة الأمل. ولبنان خير مثال على ذلك.

نقاش الساسة الغربيين فكريا إحسان ظن بهم، لا يلقون له بالا في قرارة نفوسهم؛ وتصريحات معتوهة كتلك التي صدرت من "ماكرون" عن الإسلام كانت من نفسية مريضة بتراكملات الصراع التاريخي بين حضارتين. ربما كان أردوغان في رده السياسي أقرب إلى الواقعية من نقاش فكري.

ما يقوله الغربيون وأذنابهم الطائعون من الشرقيين يوضح صورة المستقبل الذي يحدق نحوه هؤلاء ويقودون الشعوب إليه: إنها ديمقراطية على شاكلة غربية. حق له ذلك لو أنهم كانوا يفاضلون بين الاستبداد والديمقراطية أو كانوا يعيشون بين أمة لا تؤمن بالإسلام. أما والأمة مسلمة وفي ميراثها نظام شوري في عهد الدولة النبوية وإبان الخلافة الراشدة فليس لما يقوله الديمقراطيون حظ ولا نصيب؛ إن في ذلكم مأزق يطيل الطريق أمام الجموع ويحدو بالقافلة إلى شاطئ غير مأمون. الديمقراطية ليست سلعة نشتريها بل ثقافة تراكمية لها خصوصيتها الحضارية الفارقة.

ليست الوطنية من أحدنا بأب أو أم، أو بدولة قطرية جمهورية كانت أم إمارة ملكية، إنما الوطنية انتماء لأمة مسلمة من شرق الأرض إلى غربها، وهي أمة حية باقية وتتمدد بحول الله؛ لذلكم، فإن خلافة الله في أرضه ـ كل أرضه ـ من الواجبات التي تراخى المسلمون عن أدائها، وتلزمهم العودة الجادة إلى القيام بها، بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
كان محمد حسين هيكل شخصية مصرية مؤثرة في الحياة السياسية والإعلامية المصرية، مثل كثيرين تأثروا بالمد اليساري في مطلع القرن العشرين، ووقفوا بسلبية من الإسلام، خاصة في قضايا السياسة والحكم. هلك الرجل منذ سنوات، وخلف وراءه تركة ثقيلة، لم تتمكن الآلة الإعلامية في مصر وخارجها من الفكاك منها، لتشابك نهجه بين الفكرة والسلطة والقوة، وأمور أخرى تورط فيها، لا تعلم تفاصيلها إلا القلة.

لقد كانت للرجل مقاربات متهافتة في علاقة الدين بالدولة، تبين بوضوح جهل الرجل بالثقافة الإسلامية وتاريخ الحكم عند المسلمين؛ فتعرض وآخرين مثله لهم منابر، لطبع على القلوب، لم يستطيعوا فك شيفرته حتى أدركهم الموت، جزاء وفاقا. تحتاج السياسة غير الشرعية في البلدان المسلمة إلى تديّن خاص يغطي علمانيتها الصريحة أو المبطنة، أي تستخدمه كورقة التوت. أما التدين البديل لعلمانيتها فقد شاعت تسميته خطأ بــ"الإسلام السياسي"، والصحيح أن يسمى "السياسة الشرعية". المشتغلون بإصلاح السياسة يؤدون واجبا كفائيا يؤجرون عليه قدر نياتهم وجهدهم، مصداقا للحديث الشريف: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"، وما أكثر من لا يفقه من الدين هذا!!

يهمني تذكير من رضي من دينه أن يكون ورقة توت بين أكوام ورق في بلاط الحاكم، يستبدل هذه بتلك، ما بقي الحاكم في ملكه، وما بقيت أوراق صالحة للاستعمال من حوله ـ  أن بين المؤمن بهذا والكافر به فرصة للتعلم والمراجعة، والعاقبة المترتبة من ذلك خير دليل على صحة الطريق.

لقد كان هارون الرشيد (رحمه الله) أعظم أمراء بني العباس ملكا، حكم نصف الكرة الأرضية أو يزيد، بدولة منيعة مهيبة دامت خمسة قرون. لم يمنعه انشغاله بمصالح الرعية، من أن يحج عاما ويغزو في سبيل الله عاما. ورغم ذلك كله لم يستطع الظفر بشرعية الحكم ومشروعيته كاملتين، بعدما تجاوز خلفاء بني أمية وبني العباس من قبله سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين في التداول على السلطة بـالشورى، فبقي الحكم بعد العهد الراشدي مثلوما إلى يوم الناس هذا.

روي ابن الجوزي في كتابه "صفة الصفوة (2/81) "قائلا: "قال أشعث بن شعبة المصيصي: قدم هارون الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة، وأشرفت أم ولد أمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم الرّقة يقال له عبد الله بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك، لا مُلك هارون، الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَط وأعوان".

[email protected]
التعليقات (0)