كتاب عربي 21

لقد "طوَّطوا" لنتنياهو أخيرا

أحمد عمر
عربي21
الطرق في أوروبا مبسوطة وممهدة، ومسطورة "كَخَطِّ الوَحيِ في الرَقِّ القَشيبِ"، كما يقول حسان بن ثابت في بائيته المشهورة. والضرائب فيها كثيرة وباهظة وثقيلة، وهي تبلع ثلث الأجر من غير مضغ. وعلامات المرور غزيرة ووفيرة، وهي بالآلاف المؤلفة، وتحتاج وقتا لحفظها ومعرفتها، حتى أن السير فيها يشبه لعبة الشطرنج الحربية، والحادث في طرقها يقتل الشاه المكين، لكثرة المداخل والمخارج، وأوامر السرعات المجفلة رفعا أو خفضا. وقد أفردت مصانع السيارات شاشة ثابتة لبواصل الطرق، فلا سير من غير بوصلة "النافي" في البر والبحر والسماء، ولا سائق من غير بوصلة (ج ب س) تهديه الطريق بوحي الأقمار الصناعية، وقد صدق أصدق القائلين: وبالنجم هم يهتدون، وإني لأجد سياقة السيارات في أوروبا فروسية حقيقية.

سنعود إلى نتنياهو الذي يقود إسرائيل بأقصى سرعة محزوما بحزام أمريكي متين، في مسارات القوانين الدولية.

لا أعود إلى بيتي (وأنا مقيم في بلاد الجرمان) من رحلتي، التي طالت ساعة أو بعض يوم، إلا وقد لقيت منها نصبا؛ غرامة أو "طوطة" من سائق غاضب كسرت عليه الطريق، أو أبطأت عليه. والطوطة" صوت الزمور، وهي تستخدم للتنبيه أحيانا، وللشتم غالبا، وفي الشام قول سائر على الشتيمة: طوطنا له، أو طوطوا له. الطوطة صوت ذميم.

يضيق العارفون ومغامرو الرحلات ومكابدو الأسفار (والسفر قطعة من العذاب) بضيق شوارع العاصمة الإنكليزية لندن، فهي توجب على السائق التوقف لفسح الطريق لخصمه في الجهة المقابلة غالبا. وأوروبا بلاد خضراء تسلب اللب لجمالها، فهي كثيرة الأمطار وخصيبة التربة.

الغرامات كثيرة، وثمة فِرق مرور جوالة من أجل ضبط مخالفات التوقف في غير المَبارك العامة، أو التوقف غير المرخص، والرخصة لها ثمن. ويتباهى أصحاب السيارات العاملون في الشركات بحظوتهم بمبارك خاصة لسياراتهم، فمبرك السيارة إحدى عطايا العمل الجيد، ومكرماته.

ويفضل كاتب السطور الدراجة، لقضاء حاجاته التي لا يزيد بُعدها وشقتها عن عشرين فرسخا. الدراجة أسرع، ومبركها (والباركينغ لفظ عربي من مبرك الإبل) ميسور، والفرنجة يتفننون في صناعة مبارك غريبة الأشكال للدراجات، حتى جعلوها طوابق. الدراجات أفراس أوروبا وحميرها.

وإني وأنا أمتطي صهوة دراجتي أفعل الأفاعيل، وإني لفارس لا يشق له غبار ولا يصطلى له بنار، حتى ليمكنني أن أضرب بسهمي في أعشار قلب مقتل. وغالبا ما أخرق قوانين المرور، وأرى في عيون الألمان غضبا، وهم يرونني أخرق الإشارة الحمراء، غير منتظر فتوى إشارة المرور الخضراء.

وقد أمست عبارة الضوء الأخضر عبارة إخبارية، فيقال في عبارات الأخبار: إن الولايات المتحدة الأمريكية أعطت إسرائيل الضوء الأخضر لدخول رفح واحتلال محور فيلادلفيا (اسم أمريكي لمحور صلاح الدين)، فأنا أنظر إلى إشارات المرور في الجهة المقابلة لا في جهتي، وأستغل الوقت، فهو كالسيف في أوروبا وفي غير أوروبا، فينظر إليَّ الألمان الذين يلتزمون إشارات المرور حرصا على القانون المقدس، أو على الحياة الثمينة.

وهم عموما يرتدون عدة الهيجاء عند امتطاء صهوات دراجاتهم المطهمة، خاصة في أيام العطل، فيخرجون في نزهات، زرافات غالبا، وجماعات وأرتال في سطور تشبه سطور الكتابة، واضعين رؤوسهم في بيضات الخوذ، وقاية من سقوط محتمل، ويضعون النظارات صيانة من الحشرات الطائرة، ودروع الركب، ويرتدون سراويل سميكة في منطقة الإليتين حماية لأمتعة النسل والذرية، ويصطحبون قارورة الماء، ولها على الدراجة قراب تلقم فيه تلقيما. ويصطحبون عدة إصلاح الدراجة، ومصباح الدارجة الامامي الأبيض والخلفي الأحمر، وجرس التنبيه. وهي دراجات حديثة غالبا لا تحتاج إلى إصلاح، فالطرقات نظيفة، خالية من الحجارة والعظام والمسامير والأشواك التي كان أبو لهب وما يزال يكيد لنا بها في الطرق. وقد مكثت سنتين وعجلتي سليمة، وعرضي صيّن، فالعجلة لا تتلف إلا بالزمن والتآكل. وكانت عجلتي تنثقب كل يوم تقريبا في الوطن المعطاء، فأعود وأبطحها كي أرتق ثقبها، وأسد عيبتها.

أكثر مخاطر السيارات والعجلات في سوريا هي الأطفال الذين يلعبون في الشوارع، ويعبرون فجأة، كالشهب الثاقبة، ويقعون ضحايا سير، أما مخاطر طرق أوروبا، فأكثرها من البهم والأنعام؛ مثل الثيران في إسبانيا، والكناغر في أستراليا، والأرانب والغزلان في المانيا، وقد يجد السائق مخاطر من الحمير في سوريا، فأنعم وأكرم بها من ديار خلت من البهم سوى من الحمير في الطرقات، والبغال في مجلس الشعب، وحمر الوحش في فروع الأمن.

لا يخلو بيت أوروبي من دراجة أو اثنتين، أو أكثر، حتى أنَّ للفرد الألماني عدة دراجات، بعضها للنزهة، وبعضها للعمل، وأخبرني أحد جيراني أن لديه ثلاث عشرة دراجة!

العجلة (الدولاب) هي أعظم اختراع بشري، والألمان يكلؤون آلاتهم ويرعونها رعاية، ووجدتهم ينظرون إليّ شزرا، ويتطاير من عيونهم الشرر، عندما يسمعون صوت مكبح دراجتي في المطر والبلل، فهي تصدر صوتا يشبه صوت الخنوص (ولد الخنزير)، وقد وقع فريسة بين فكي أسد. وقرأت في عيني أحدهم قوله، وقد أفسدت عليه يومه بصوت دراجتي الملجومةُّ، وكانت تهم بالطيران: لوكان الأمر بيدي، لحولتك إلى صابون أيها اللاجئ الأشر!

كنت أتحدث عن وعثاء الطريق، والطريق قانون، والقانون لفظ عربي أصيل، وقد رأى بعضهم أنه لفظ فارسي أو إغريقي، وأن الكاف في كانون قد صحفت إلى قاف، فالكانون موقد النار. قال الحطيئة هاجيا أمه:

أَغِربالا إِذا اِستودِعتِ سِرّا    وَكانونا عَلى المُتَحَدِّثينا

وقال اللغوي الْجَوْهَرِيُّ: والكانونُ والكانونةُ المَوْقِدُ، والكانونُ المُصْطَلى. وَالْكَانُونَانِ: شَهْرَانِ فِي قَلْبِ الشِّتَاءِ، رُوميَّة: كَانُونُ الأَوَّل، وكانونُ الْآخَرُ؛ هَكَذَا يُسَمِّيهِمَا أَهل الرُّومِ. وَرَجُلٌ كانٍ وَقَوْمٌ كَانُونَ. وهو من الكن، والوكنة العش والجحر والحجر، والقانون هو موقد تشريعات الأمة. نحن نحترق بنيران القوانين الحديثة الصارمة، إلا إسرائيل، فهي دولة فوق القانون.

كنت أتحدث عن الطريق ومشقاته، ووعورته، ليس وعورة الحفر والحجارة، إنما وعورة القوانين، والتزام الشعوب الأوروبية بالقانون، ولو استطاعوا لجعلوا لكل شيء قانونا؛ عدد مرات احتضان الزوج لزوجته، وعدد مرات إتيانها، وعدد مرات فرش الأسنان بالفرشاة قبل النوم، وعدد أنفاس الشهيق والزفير (وهو فعل لا إرادي).

كانت هذه ذريعة حديثي للوصول بالدراجة أو الدبابة إلى جادة القانون الدولي، فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، بعد خمسين ألف ضحية فلسطينية، وتدمير غزة برمتها، مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي "الأغر" بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. وشهد الأمر تباينا أوروبيا بين الالتزام القضائي، والحساسية السياسية، ستلتزم معظمها وستمتنع هنغاريا، وقد توعدت أمريكا المحكمة والقضاة، وألمانيا ستحترم القانون، لكنها مترددة في تطبيقه.

وسننتظر الهدهد، لنرى أصدق أم كان من الكاذبين، فالقانون الروماني (وهو أبو القوانين الأوروبية) يميل إلى عقد الصفقات، وسننتظر صفقة كصفقة عمر البشير الذي نجا من بطش القانون الدولي، ونتنياهو أقوى من عمر البشير بما لا يقاس، فهو أبيض، وفصيح، وملك الشعب المختار، وأخو "شهيد"..

الطغاة أكثر الناس خوفا، ونتنياهو خائف ومذعور، هكذا قالت صحف إسرائيلية وبريطانية. وعدّو القرار سابقة، ويرى بعضهم أنها "تطويطة" بعد طوفان من الدم، ونقطة على بطاقة السياقة، ومنع مرور في سماء بعض الدول، وليس من هواة السياحة، لكنهم طوطوا له أخيرا!

x.com/OmarImaromar
التعليقات (0)