مقالات مختارة

آمال وهواجس في استقبال العام الجديد

سعيد الشهابي
الأناضول
الأناضول
يمكن الزعم بأن ما يحظى به العام الميلادي الجديد من اهتمام وإنفاق وبذخ، لا تحظى به أية مناسبة أخرى.

ليلة رأس السنة الميلادية من كل عام، أصبحت نقطة التقاء الإنسانية ووحدة البشرية، ففي منتصف الليلة الفاصلة بين آخر يوم من كانون الأول/ ديسمبر وأول يوم من كانون الثاني/ يناير، ينتظر العالم بدء  اليوم الأول من السنة الجديدة في أقصى نقطة في شرق الأرض، ليدور حول الكرة الأرضية مصحوبا باحتفالات عملاقة تزداد توسعا.

لا شك أن عصر العولمة فرض نفسه لتوحيد العالم حول هذه المناسبة، وكذلك تطور وسائل التواصل وهيمنة الثقافة الغربية. ويعدّ التقويم البابلي الأسبق في الاحتفال برأس السنة كلحظة عبور جماعي من زمن إلى آخر، وتظهر الأرقام مدى الإجماع الذي تحظى به المناسبة. ووفقا لبعض التقديرات، فمن المتوقع أن يتجاوز الإنفاق العالمي على الأنشطة المتعلقة بعيد الميلاد في 2024 تريليون دولار، ويشمل هذا الرقم أغلب جوانب استقبال المناسبة، بما في ذلك التسوق بالتجزئة، والطعام والمشروبات، والسفر، والترفيه.

وتمثّل الولايات المتحدة أكبر مساهم في الإنفاق العالمي على عيد الميلاد، لكن مناطق أخرى مثل أوروبا وآسيا، تشهد أيضا زيادات كبيرة في الإنفاق الاستهلاكي. فماذا يعني ذلك؟ وهل العالم يسعى للتعتيم على مصائبه بالإفراط في إظهار الفرح في مثل هذه المناسبة؟

وربما الجانب الأهم في علاقة الإنسان وفعالياته بالبيئة حوله، مدى قدرته على الاستغناء عن استخدام المواد التي تساهم في الإضرار بالبيئة؛ مثل مادة البلاستيك لتصنيع المواد الاستهلاكية، خصوصا ذات الاستخدام الواحد.

في العام الميلادي الجديد، ثمة أمل بأن يتجدد السجال حول الانعكاسات السلبية للظاهرة الاستهلاكية المتزايدة على المناخ والبيئة، وهي قضايا عُقدت لها القمم ولكن لم تُتخذ إجراءات فاعلة لاحتواء الاستهلاك البشري المتزايد. وما الاحتفاء بالسنة الميلادية الجديدة بالأنماط المستخدمة، ومن ضمنها الألعاب النارية والاستعراضات، إلا تأكيد لاستمرار أنماط الاستهلاك دون حساب، برغم ادعاءات الدول الغربية بانتهاج سياسات تحمي البيئة. وليس جديدا القول؛ إن الإنسان عدوّ نفسه، فهو الذي يساهم في خلق أنماط حياتية تؤثر سلبا على البيئة وتساهم في التلوث بشكل كبير. وما التوجيهات التي تصدر عن مؤتمرات البيئة والمنظمات المهتمة بالتغير المناخي، إلا محاولات متواضعة ليست ذات شأن في المسار الكبير الذي ينجم عنه التلوث والتداعي البيئيان.

هذا البذخ، لا تحدّ منه الأوضاع الاقتصادية للبلدان أو الأفراد، ولا تقلّل من وهجه مشاعر الأفراد بالحزن، بل أصبح ظاهرة تعبر الحدود بشكل مطلق، وتطلق العنان للمشاعر المختزنة لدى الأفراد، لتخرج من قمقمها وتتفاعل مع العالم، برغم أن المناسبة لا تحتوي على ما من شأنه تحسين أوضاع الإنسان وحياته. وتتنافس الدول لتقديم أفخم العروض، خصوصا من الألعاب النارية التي تقترب أحيانا من الخيال. ومع دخول الطائرات المسيّرة التي تشارك في الاحتفالات العملاقة على الخط في السنوات الأخيرة، بميزة لا تشاركها فيها الوسائل التكنولوجية الأخرى، أصبحت العروض تتجاوز قدرات العقل البشري على الاستيعاب أحيانا؛ فهي قادرة على الثبات في الجو وعدم الحركة، وبذلك أصبحت هناك رسوم وكتابات تبدو ثابتة في طبقات الجو، فكأن هذه المناسبة أصبحت لاستعراض أحدث أنواع التكنولوجيا. ومن المؤكد أن الجماهير تستهويها تلك الاستعراضات.

في الماضي القريب، كانت الألعاب النارية وحدها تجذب أنظار الكثيرين، فكيف بدخول التكنولوجيا المتطورة في مجال العروض، حتى ليبدو أحيانا أن الإنسان تجاوز في قدراته أحدث الأساليب. والخشية أن تتحول التكنولوجيا الرقمية بأشكالها المتجدّدة إلى «فرانكشتاين» القرن الحادي والعشرين، بحيث يصبح الإنسان غير قادر على مواكبة الاختراعات التي حققها، فتبدأ بملاحقته وحصاره، وربما تهديد وجوده في بعض الحالات.

أليس هناك الآن ضجة تتوسع حول دور الذكاء الاصطناعي في تهميش العقل البشري؟ ألم تصبح الروبوتات التي تعرف أحيانا بـ «الإنسان الآلي» قادرة على إتقان الدور البشري في بعض المجالات والتفوق عليه في الأداء، خصوصا في مجالات الطب؛ من تشخيص وعمليات دقيقة وحسابات احتمال الانتكاسات والمضاعفات؟

الألعاب النارية التي تستخدم في احتفالات رأس السنة، تُشعر الإنسان بما يسمى «العالم الافتراضي» الذي ليس له سيطرة عليه، بل يتلاشى دوره فيه حتى ينتهي تماما. أليس هذا ما ينتظر الإنسانية في ضوء التطور المستمر للذكاء الاصطناعي؟ وعندما يظهر روبوت على هيئة إنسان يسير في الحقول ويصعد الهضاب وينزل الوديان، بل يبادل الآخرين  التحية والمصافحة، ما الذي بقي من إنسانية هذا المخلوق؟ وما الذي تخبئه الأقدار له مستقبلا؟ وكيف يمكن استعادة الدور البشري في التفكير وصنع القرار بما يوازي أداء الذكاء الاصطناعي؟

المؤكد، أن هذه القضايا سوف تتحدى الإنسان بشكل واسع، وسوف يجد هذا الإنسان أنه صنع بيديه منافسا له يستطيع القضاء على فطرته وطبيعته. ومع إدخال التقنيات الحديثة في أغلب مجالات الحياة، فمن المتوقع أن يتم الاستغناء تدريجيا عن خدمات الإنسان في الجوانب العلمية التطبيقية، وأن يأخذ الذكاء الاصطناعي مجالا أوسع حتى في البحث والاختراع. والملفت للنظر، سرعة الاستجابة للأوامر في الفضاء الافتراضي!

مع ذلك، فما يزال سابقا لأوانه افتراض تحوّل الحياة إلى مملكة تكنولوجية كاملة، يمارس فيها الذكاء الاصطناعي أدوار التفكير والاختراع والتشغيل. فقبل نصف قرن، كانت هناك نقاشات مستفيضة حول الآثار المدمّرة للجنس البشري لإدخال التكنولوجيا الحديثة في مجالات التشغيل والصيانة، ولكن ذلك التوقع لم يحدث، وما يزال الإنسان يمثل العنصر الأهم في إدارة الحياة برغم تطور الاعتماد على  التكنولوجيا.

وبعيدا عن مسارات التكنولوجيا والبذخ في الإنفاق والاستهلاك والتدمير البيئي، هناك قطاعات مجتمعية تعيش عوالمها الخاصة، وليست معنية بشكل مباشر بهذا السجال الذي يبدو لها ترفا فكريا منفصلا عن واقعها. فماذا سيقول اللاجئ الذي يستقبل الشتاء والبرد وهو يعيش في العراء أو المخيمات؟ لقد قضى بعض هؤلاء عقودا في هذه المخيّمات في لبنان وفلسطين، وهم يحلمون بالعودة إلى وطنهم الذي طردوا منه بعد احتلاله من قبل «إسرائيل».

بالنسبة لهؤلاء، ماذا يعني لهم حلول العام الميلادي الجديد؟ وربما لم يذق أولادهم طعم العيش في وطن أو منزل، ولم يشعر بلذة التجوّل في «الحارة»، ولا تحتوي طفولته على شعور بالأمن والاستقرار والنمو في أحضان عائلات مستقرة. إن ما يعانيه اللاجئون الفلسطينيون من شظف الحياة، يجعل الحديث عن هذه الاحتفالات ترفا في غير مكانه؛ فهناك أكثر من 2.3 مليون فلسطيني يعانون من الظروف الصعبة للّجوء على أرض بلادهم، وفي الضفة يقطن أكثر من ربع اللاجئين في مخيمات رسمية وغير رسمية، ويشهد 32 مخيما في الضفة الغربية وقطاع غزة على النكبة الفلسطينية والتهجير القسري.

وتعاني مخيمات الضفة الغربية وقطاع غزة من بنى تحتية متهالكة، وشبكات صحية مدمّرة، ونقص في المياه، ويعيش سكانها اكتظاظا هائلا في بنايات متراصة تفتقر إلى التهوية والخدمات الأساسية، ويكابد القاطنون فيها ظروفا معيشية صعبة، وسط نسبة مرتفعة من البطالة والفقر، وقد مضى على بعضها ثلاثة أرباع القرن، ومنها مخيم عايدة للاجئين في الضفة الغربية الذي تأسس في العام 1950 بين مدينتي بيت لحم وبيت جالا. فهل لدى هؤلاء المزاج للتفكير في العام الميلادي الجديد؟ بالنسبة للكثير من هؤلاء، فقد توقف الزمن في اليوم الذي احتُلت أرضه، وأصبح لاجئا يعيش في المخيّمات تحت رحمة المنظمات الدولية.

القدس العربي
التعليقات (0)