منذ فض
رابعة يعيش الإسلاميون في مصر وفي القلب منهم الإخوان المسلمون حالة من الضبابية الشديدة وعميانية الرؤية بعد ضياع مسار "الديموقراطية" بشكل كامل على أرصفة الدم المهدور في رابعة والمغدور في
النهضة، والذي أعلن بدون مواربة نقل المعركة إلى مستوى آخر لم يكن يتوقعه الإسلاميون ولم يكن ليلامس عقولهم ولا أدبياتهم المتأخرة حول "خيار الديمقراطية" كحل وحيد ورئيسي لإصلاح الوطن. وبعد سنين من المراجعات والتقويم والإعداد للاندماج في كل معطيات الدولة أتى الإنقلاب الدموي على كل ذلك ليمثل الصفعة التي أعادت طرح سؤال "الخيارات" مرة أخرى.
ولأن الإخوان المسلمون التنظيم الرئيسي الأكبر في مصر - سياسيا وإسلاميا- قد استطاع الحفاظ على وجوده طيلة سنوات مبارك العجاف بأقل الخسائر،(وهنا يجب التأكيد أنه فقط حافظ على وجوده ولم ينتقل بالصراع إلى مستويات خارج المألوف)، فقد اعتاد دوما أن يبقى في مساحات اشتباك واضحة المعالم تقبل بالتدافع ولا تقبل بفكرة الجبهة المفتوحة، ولذلك كان التقدم أو التأخر على الأرض مصحوبا بنمط تفاوضي لم يفارق كل مراحل الصراع الإخواني، ومراهنا دوما على التقدم من داخل إطار الدولة، ولذلك كان من الصعب عليه أن يقبل بفكرة اللعب خارج هذا الإطار حتى في تجربة "البرلمان الموازي" التي كان قد تردد كثيرا بقبول المشاركة به عندما طرحت فكرة تشكيله.
لقد أدت هذه العقلية التي أسلفنا وطبيعة السلوك الإخواني في الصراع الدائر طيلة سنين "مبارك" أدت إلى اعتياد العقل الإخواني والبنية التنظيمية الإخوانية حسم صراعاتها من خلال صناديق البرلمان والنقابات والجامعات وهيئات التدريس والأندية الاجتماعية، ولم تألف أي صراع من نوع الجبهات الواسعة، وهو الذي دفع إخوان العراق أيضا إلى القبول بلعبة الديمقراطية في جزء منها تحت مظلة الأمريكي بناء على عدم تصور للحل والبديل خارج هذا الإطار وتلحفا بلحاف الواقع وفقهه!
وبعد صدمة رابعة تصدرت ذات الإشكالية مرة أخرى للسطح، وتصدرت معادلة التناقض الكبيرة بين "القصور الذاتي" للسلوك النضالي الإخواني التدافعي وبين حقائق الواقع المغايرة لكل ما ألفه العقل الإخواني الحديث وأدبياته المتأخرة، إذ أن حجم الدماء الكبير قطع طرق الرجعة على أي حل سياسي "واقعي"، وكذلك فإن قرب العهد بالسلوك التوائمي التفاوضي الإصلاحي لا يتيح للإخوان إنتاج حالة "ثورية" لـ جبهة مفتوحة لا تمتلك تصورا نهائيا للحل في ضوء تحديات الواقع الجديد وغياب التنظير له وغياب متنفس لحلول مقنعة في الواقع!
ولكن بعد هدوء جذوة الحراك تدريجيا من مليونيات كبرى تهز العاصمة والمحافظات وتحولها إلى مظاهرات "ألوف" تدور شوارع المحروسة وأزقتها وتنحصر داخل أسوار الجامعة و أبواب المدن الجامعية، فإن سؤال الواقع أصبح من جديد ملحا على الإخوان مع اقتراب الاستفتاء على الدستور، فما فتىء بعض رموزهم بالتلميح تارة والتصريح تارة أخرى عن حلول ومخارج للصراع بالاستفتاء على بقاء
مرسي من عدمه أو على خارطة طريق مرسي. وعلى الرغم من أن مضمون هذه المبادرات ليس بيعا للقضية ولا الدم، فإن الحقيقة المرة الصادمة أن العقل الإخواني مازال يبحث في "الصندوق" عن مخرج، مع أن هذا الصندوق لم يعد مخرجا.
وفي أحسن الأحوال، فإن الصندوق يكون جيدا إذا كانت الدبابة تحرسه؛ وفي أسوأها، فإن هذه الدبابة تحرقه وتحرق من صوت فيه وتدهس من رغب في حمايته لاحقا.
وفي مصر، فقد تم تجنيد كل البيروقراطية والمؤسسات ضد المسار الديمقراطي، وانحازت جميع هذه المؤسسات لمسار الدهس والقتل والحرق، ولذلك فلا يمكن تصور هذا الصندوق كحل أو طرحه أو التعويل عليه أو المناورة به، بل إن هجر الصندوق الآن أصبح من ثوابت الحالة المصرية ولا يمكن بحال من الأحوال تكرار تجربة أربع انتخابات داست عليها دبابة العسكر.
الحل في مصر يحتاج "اجتهادا" جديدا وأجوبة جديدة واستراتيجية مطورة وخيارات صراع غير تلك التي كانت في سابق العهد، وتصورا جديدا للدولة يقوم أساسا على فهم الدور الجديد للإسلاميين في حركة مقاومة الشعوب لفهوات مدافع العسكر!