طبعت مسار الانتقال الديمقراطي في
تونس منذ أول انتخابات حرة ونزيهة في تاريخ البلاد يوم 23 أكتوبر 2011 كلمة مفتاح: "الترويكا". كان ذلك التعبير الدال على الائتلاف الثلاثي الحاكم في تونس الذي يضم "حركة
النهضة" الإسلامية المعتدلة و"حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" و"حزب التكتل من أجل العمل والحريات" من وسط اليسار والأخيران يتصفان بالعلمانية المعتدلة. تاريخ ومرجعيات الاحزاب الثلاثة مختلف بل يصل حد التعارض أحيانا وهو ما جعل التحالف بينها أمرا غير بديهي في البداية. ومنذ أيام قليلة تم اختيار رئيس حكومة جديدة بعد أشهر من "
الحوار الوطني" للإشراف على ما تبقى من المرحلة الانتقالية والوصول إلى انتخابات في أسرع وقت ممكن. وبذلك تنتهي "حكومة الترويكا"، لكن لم تنته معها "الترويكا" ضرورة.
عموما كانت الطروحات التي سبقت الانتخابات تحيل على انتخابات في مسار عادي؛ وليس انتقاليا، ولكن في المقابل لم يكن يتم الحديث بشكل صريح عن تحالفات. لكن بمجرد أن أفرزت الانتخابات ثلاثة قوى حزبية متقدمة على البقية، "النهضة" يليها كل من "المؤتمر" و"التكتل"، كان التقارب بينها أقرب للعفوية. تم اقتراح "حكومة وفاق وطني" ودعا حزب الأغلبية مختلف القوى الحزبية التي وصلت إلى "المجلس الوطني التأسيسي" للانضمام الى الحكومة، غير أن بعضها أعلن انضمامه إلى "المعارضة" حتى قبل تشكل الحكومة.
كان توجه القوى الثلاثة للحكم بشكل جماعي ودعوة البقية للانضمام للحكم نابعا بالأساس من تصور للمرحلة، حيث أن طابعها الانتقالي من جهة الحاجة لكتابة دستور ديمقراطي وتوافقي يؤسس لجمهورية جديدة، يفرض خصوصية تحد من دواعي التعارض السياسي الكلاسيكي مقابل حد أدنى من الوفاق حتى الانتخابات الجديدة والدخول في مرحلة المؤسسات الدائمة حيث الصراع الكلاسيسي السياسي. كتلة الاحزاب المعارضة لم تقبل هذه الفلسفة واجترحت خطابا راديكاليا يستبطن عدم ارتياح بل ورفض لنتائج الانتخابات، وهو ما ازداد وضوحا بمرور الوقت من خلال استهداف الشرعية الانتخابية نفسها على أساس حجة "قانونوية" (legalist) مستوحاة من مرسوم الرئيس المنصب بالكاد توافقيا قبل الانتخابات يحدد عمل المجلس بسنة واحدة من تاريخ انتخابه. ومن البديهي حينها أن الحجة الدامغة التي تقول أن أي مجلس تأسيسي يحدد تاريخ عمله لن تمثل أية اهمية في سياق المناورات السياسوية.
كانت الأسابيع القليلة بين تاريخ الانتخابات ومنتصف شهر ديسمبر 2011 الزمن الذي تم فيه بسرعة التفاهم حول صيغ الائتلاف و"التنظيم المؤقت" أو الدستور الصغير المنظم للمرحلة الانتقالية: حكومة ائتلافية تضم منتمين للأحزاب الثلاثة مع مستقلين ترأسها شخصية من "النهضة" وبسلطات واسعة، ورئيس الجمهورية محمد المنصف المرزوقي زعيم حزب "المؤتمر" يمثل رمزية السيادة الشعبية لكنه أيضا يشغل جزءا من السلطة التنفيذية من خلال إشرافه على الجيوش بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة ويساهم في صياغة وتسيير السياسة الخارجية، ورئيس المجلس التأسيسي أمين عام "حزب التكتل" ويشرف على سير المؤسسة التي تثمل المصدر الأصلي للسلطات.
كان هناك في خضم المفاوضات انزياح سيبرز بوضوح في الأشهر اللاحقة من صيغة "الحكم الائتلافي" إلى صيغة تقاسم شكلي للسلطة. لم يكن هناك خطة سياسية واضحة ومتفق عليها ومعلنة. يضاف الى ذلك حالة الدهشة المتوقعة في ظرف استثنائي لقوى جربت المعارضة بل النضال من أجل حق البقاء ولم تجرب السلطة. كان امتياز تجريب السلطة امتياز المستبدين وكانت الثورة التونسية الدليل الأبرز على فشلهم الذريع فيها. حيث أن كفاءتهم في القمع الأمني لم تصنع إلا استقرارا وهميا يغطي حالة غليان مستمرة، أما كفاءتهم الاقتصادية فقد صنعت نموا خادعا وليس تنمية جدية، نموا أجل أي إصلاحات جدية ووزع العبء على الشرائح الاجتماعية والجهات الأضعف واستفاد من أرباح النمو منظومة الفساد المرتبطة بالحكم الكليبتوقراطي المافيوي.
باستثناء اجتماعات الرؤساء الثلاثة التي لم تكن منتظمة فإن "أحزاب الحكم" لم تبدأ في عقد اجتماعات "الترويكا" التي ستصبح ركنا أساسيا من أخبار السياسة في البلاد إلا في الصيف، شهر حزيران سنة 2012 تحديدا. وهكذا في الأشهر الأولى الحساسة والمليئة بالتوقعات والانتظارات لحكم "الترويكا" لم يكن هناك خطة سياسية منسجمة للحكم بل لم يقع التفكير في أي إطار يسمح بمجرد عقد اجتماعات دورية بينها. علاوة على الأداء العام البطيئ في الأشهر الأولى وأحيانا تضارب التصريحات والتوجهات كانت الخطيئة الأساسية القصور في إحداث حتى قطيعة رمزية مع المنظومة السابقة عبر استعمال آلة الدولة، سواء عبر التشريعات أو الممارسات. بطء آلة المجلس التأسيسي أيضا وتوزع مهامه بين التأسيسي والتشريعي سمح بإطالة الوقت وخلق الظروف الموضوعية لمساءلة الحكم حول أخطر أسباب الثورة أي التنمية، والتي لا يمكن بأي حال حلها من خلال حكم انتقالي. اكتملت الصورة بضغط معارضة عارضت في حكم انتقالي يستوجب حدا أدنى من التوافق، وقوى من النظام القديم بدأت تسترجع ثقتها مع تأخر المحاسبة وبرزت في حزب سياسي وأعلنت فشل المنظومة الجديدة شهرا واحدا بعد تشكيل الحكومة. وفوق ذلك كانت المنطومة الإعلامية خاصة عبر المؤسسات التي تم وراثتها عن النظام القديم وطيف واسع من الإعلاميين غير المهيئين مهنيا بعد لوضع الحريات الجديد، وكان فقط جزء منهم يحمل هموما نضالية قبل الثورة، كانت المنظومة غير مرتاحة لنخبة الحكم الجديدة.
مع بداية سنة 2013 وبعد أشهر من المفاوضات داخل "الترويكا" والاستقرار على ضرورة "إحداث صدمة" من خلال تحوير وزاري يعيد الحيوية في الائتلاف الحاكم، أتت صدمة من نوع آخر. كان اغتيال القيادي المعارض شكري بلعيد، ثم بعد أشهر وتحديدا يوم عيد الجمهورية 25 جويلية 2013 اغتيال نائب المجلس التأسيسي المعارض محمد البراهمي، واستهداف جنود من الجيش والحرس من قبل من تبين فيما بعد انه خلايا سرية في تنظيم موازي للتيار السلفي الجهادي، وهي أحداث كانت خطا أحمر بما أنها استهدفت شعور الأمن لدى المواطن البسيط. في نهاية الأمر "السلطان هو المال والشوكة"، وإزاء المصاعب الاقتصادية والأمنية كان من الواضح أن "الترويكا" لا تواجه مصاعب التأسيس الديمقراطي فحسب بل تواجه أيضا مصاعب الحفاظ على الدولة ذاتها. كان التحدي هو إقناع المواطنين بأن التأسيس للديمقراطية يمر بأوجاع كبيرة وأنه لا يمكن الندم على نظام الاستبداد الذي لا يوفر إلا نموا وأمنا خادعيين.
رغم أن الحكومة الجديدة للترويكا بعد اغتيال بلعيد بدأت بنفس جديد وبوزراء مستقلين في وزارات السيادة بعد تنازل حركة النهضة عنها والتوافق على وثيقة-برنامج معلنة تحدد أهدافا واضحة لما تبقى من المرحلة الانتقالية، بما في ذلك الأمن والبدء السريع في مقاومة الفساد والمحاسبة، إلا أن الاغتيال الثاني فرض حالة انقسام واستقطاب قوية. كان سياق الانقلاب في مصر محفزا لبعض أوساط المعارضة لاشتهاء انقلاب، غير أن تغييرات استباقية مهمة في قيادة الجيش والانحياز الفطري لأجهزة السلاح في الدولة للشرعية الجمهورية منع هذه الشهوات من التحقق. وهكذا اضطر الجميع للذهاب إلى "حوار وطني" يقر الشرعية القائمة مع تغيير في هوية الحكومة من حزبية إلى "مستقلة". كان حلا وسطا سمحت به موازين القوى.
مع اختيار مهدي جمعة رئيسا للحكومة عبر "حوار وطني"؛ ما حدث في النهاية هو إنهاء "حكومة الترويكا" لكنه للمفارقة ترسيخ فسلفة "حكم الترويكا" عبر فرض منطق التوافق الحزبي في تشكيل الحكومة. انتهت حكومة الترويكا، لكن الظروف الموضوعية ستفرض تواصل "حكم الترويكا" حتى الانتخابات القادمة.
ورغم ذلك قررت أحزاب معارضة نادت طويلا بحكومة تكنوقراط ومستقلين بأن تنأى عن نفسها عن الحكم وألا تدعم رئيس الحكومة الجديد، رغم أن المنظمات المهنية الكبرى في البلاد قررت المضي قدما في هذا التوجه. وفي المقابل كانت أحزاب الترويكا هي السباقة لإعلان دعم رئيس الحكومة الجديد. فطيلة الأشهر الفارطة ورغم أن الصورة السائدة هي ركود التنسيق بينها فإن الحاصل كان العكس تماما. كانت أهم قرارات الأشهر الفارطة تتم في اجتماعات الترويكا غير المعلنة، وأيضا عبر لجنة التعيينات التابعة لها. المفارقة الأخرى أن الأحزاب الثلاثة اقتربت لبعضها أكثر كلما شعرت باستهداف مشترك. وفي ذلك تبرز مصلحة موضوعية مشتركة رغم كل الرغبات في إنهاء تحالف كان مكلفا لها جميعا. إذ إن استحاقاقات الحكم التوافقي في مرحلة انتقالية أدى إلى تنازلات على مستوى القطيعة مع المنظومة القديمة لا تتلاءم مع واقع وانتظارات بلد عاش ثورة. الصراع بين منطق الإصلاح ازاء منطق الثورة هو المعضلة الكبرى لمسار الانتقال الديمقراطي في تونس. وعدم القدرة على حل هذه المعادلة كان أكبر معضلات الترويكا.