لماذا تشهد
تركيا حاليا تصعيداً في صراعٍ غير مسبوقٍ بين ما يُمْكن تسميتهُ "الإسلامية البروتستانتية" و"الإسلاميّة اليسوعيّة" وهما النمطان الإسلاميّان التركيّان الأكثر نفوذا وتنظيما فيها وخارجها؟ سأحاول أن أُظْهِر هنا لماذا هذان المصطلحان يحملان معنىً فعليّاً لا فانتازيّاً.
أطلقت مؤسّسة "مبادرة الاستقرار الأوروبي" (ESI) - وهي مؤسّسة بقيادة ألمانية - في تقريرٍ لها عام 2005 عن وسط الأناضول وتحديدا مدينة "قيصري"كنموذج للنجاح الاقتصادي الحديث... أطلقتْ تعبيرَ "الكالفنية الإسلامية"باعتبار أن هذا النجاحَ مشابهٌ لأخلاقيات العمل الدؤوب في التقاليد البروتستانتية التي تحدث عنها ماكس فبر في كتابه الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية". "قيصري" هي مسقط رأس الرئيس التركي عبدالله غول وهو لهذا، الرمزُ الأبرز للبورجوازية الجديدة الصاعدة يومها التي يمثِّلها "حزب العدالة والتنمية".
يبدو أن تركيا وبسبب نجاحها في تكوين شخصية حداثيّة بعلمانيّيها منذ 1923 وإسلاميّيها منذ 2002 تواصل قابليّتها لتكون حقلَ مقارناتٍ مع حالاتٍ غربيّةٍ أو من الإرث الأوروبي والأميركي. لكنْ هذه المرة من نمط كاثوليكي. فالصراع غير المسبوق شكلاً ومضموناً على مستوى أجهزة الدولة (القضاء والشرطة) بين الحركتين الإسلاميّتين "حزب العدالة والتنمية" و"حركة حِزْمَتْ" كما بين قائدَيْها الحليفيْن السابقيْن العدوّيْن الحاليّيْن رجب طيِّب
أردوغان وفتح الله
غولن... هذا الصراع، عدا عن تعبيره عن أشكال تطوّرِ الصراع السياسي واستقطاباته تحت عنوان الفساد السلطوي لـ"حزب العدالة والتنمية"، يضيء على عُمْقٍ مبتَكَرٍ حديثٍ وتراثيٍّ في الوقت نفسه في تركيا.
حركة فتح الله غولن هي اليوم في دائرة الضوء والبحث لما سيكون لنوع نفوذها من تأثير أكيد على مستقبل الحياة السياسيّة التركيّة. فبعد إثارة ملفّات الفساد وفي سياق ردّ أردوغان الانتقامي بلغ عددُ القضاة الذين أُقْصوا من مناصبهم حوالى ماية قاضٍ وعدد ضبّاط الشرطة أكثر من 800، مما يعطي فكرةً واضحةً عن حجم الصراع داخل أجهزة الدولة.
دعونا نسجِّل هذه المفارقة:
من حيث الخلفية الفكرية للحركتين الإسلاميّتين أن التي تحكم على رأس السلطة في داخل تركيا - وهي "حزب العدالة والتنمية" - تنتمي إلى فكْرٍ إسلاميٍّ عابرٍ للحدود هو فكر "الإخوان المسلمين"و "تنظيمهم الدولي"بينما قيادة غولن التي تقيم في الخارج (الولايات المتحدة الأميركيّة) تنتمي إلى إسلام قومي تركي مستند على تراث الحركات الصوفية.
حركة "حِزمَتْ"، بقيادةِ فتح الله غولن كداعيةٍ ومنظَّمٍ ناجحٍ ودون تسييس مباشر ويَعتمد على النشاط التربوي التعليمي أساساً، هي أقرب ما تكون إلى التنظيم اليسوعي أو منظمة الرهبان اليسوعيّين ذات الإرث التاريخي في تعليم النُخَب بل في "إنتاجِها"مدارسَ وجامعاتٍ منها جامعة جورجتاون في واشنطن دي. سي. والجامعة اليسوعيّة في بيروت والعديد غيرهما في دول العالم... وبالتالي النفوذ السياسي عبرها.
بات معروفاً أن حركة غولن تشرف على أكثر من خمسماية مدرسة في تركيا والخارج من آسيا الوسطى إلى إفريقيا إلى أوروبا والولايات المتحدة وبينها شبكة مدارس مهمة في تركيا لتحضير الطلاب الداخلين إلى المرحلة الجامعية وهي شبكة سعى أردوغان إلى إلغائها. على المستوى الاقتصادي ساهمت منظّمة رجال الأعمال التركية المرتبطة بحركة غولن (TUSKON) في توسُّعِ النشاط الاقتصادي المتنوِّع في إفريقيا. هذا ناهيك عن "ملكيّة" الحركة للصحف والمصارف والمستشفيات. ( راجع حول فتح الله غولن مقالاتي في 18/6/2010 و في 12/3/2013 و 24/12/2013 ومقال كريستوفر دي بلليغ في مجلة "ذي نيويورك ريفيو أوف بوكس"27/1/2014). ويصف الباحث والأستاذ الجامعي شاهين ألباي الذي أيّد طويلا كليبرالي علماني سياسة أردوغان وأصبح في موقع معارض له مؤخّرا... يصف حركة غولن بأنها "حركة تربوية تساهم في نهضة تركيا الاقتصادية عبر نشاطاتها في 120 دولة تمتدّ من تركمانستان إلى البرازيل" وينتقد بشدة وصف أردوغان لها أمام اجتماع عام للسفراء الأتراك بأنها "حركة حشّاشين" جديدة (يقصد التنظيم الإسماعيلي السرّي الذي أسّسه حسن الصباح في القرن الحادي عشر).
"البابا الأسود" (كما يُسمّى الأبُ رئيسُ الآباء اليسوعيين في العالم) المسلم هو أقرب ما يكون إلى شخصية فتح الله غولن الفقيه المنصرف للدراسات والكتابة مثلما يشتهر اليسوعيون لا بالانضباط والطاعة الشديدة لرئيسهم كما لبابا الفاتيكان فقط بل بالمعرفة العلمية العالية أيضاً.
الصراع متواصلٌ والأرجح أنه لن يقف قبل أن يُقْصي الطرفُ الآخرَ من أكثر ما يمكنه من مواقع النفوذ داخل الدولة والمجتمع. لكن في اعتقادي أن الضربة التي وجّهتها حركة غولن إلى مصداقية رجب طيِّب أردوغان وحزبه لا شفاء منها لأنها من ذلك النوع من الإصابات التي تترك عاهةً كبيرة ولاحقا قاتلة ولو نجا المصاب من الموت في البداية. فمن الآن فصاعدا أصبح أفق أردوغان محصوراً في أن يبقى في السلطة أطولَ ما يمكنه، إنما في العمق سقط كمشروعٍ وأصبح - كما لم يكن - ممثِّلاً لطبقة سياسية فاسدة في نظر شريحة واسعة من الرأي العام التركي!
أما حركة غولن التي تمارس السياسة بشكل غير مباشر وتعتمد، ، كاليسوعيين، على نفوذها التربوي والثقافي بين النخب، فهي قادرةٌ على تحمّلِ الانكفاء وحتى الإقصاء وهو ما تعرّض له اليسوعيون في بعض دول أوروبا مراراً في تاريخهم الدؤوب... بل كما تعرّض فتح الله غولن نفسُه أواخر تسعينات القرن المنصرم عندما أجبرته المؤسّسة العسكرية على اللجوء إلى أميركا... ولا يزال فيها ناشطاً...ومتوسّعاً!
(النهار اللبنانية)