بحسب تقارير صحافية سعودية، فإنه بعد ساعات فقط من إصدار وزارة الداخلية
السعودية بياناً الجمعة الماضي يصنف حركة
الإخوان المسلمين حركة إرهابية، ويحظر أي تعبير عن التعاطف معها، أزال العديد من المواطنين السعوديين شعارات رابعة من صفحاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي. وبالطبع من الصعب التأكد من صحة هذا الأمر، ولكن من الممكن الجزم بأن التعليمات الواردة تحت النقطة 10 في بيان الداخلية ذي النقاط الأحد عشر لم يتم الالتزام بها. وتحظر هذه النقطة "التعرض بالإساءة للدول الأخرى وقادتها"، لأن صحف المملكة حفلت بسيل من الانتقادات والإساءات لدولة قطر "الشقيقة".
ولا بد ابتداءً التحذير من التعامل بسطحية مع هذه التطورات التاريخية، لأنها ستكون ذات أثر "ثوري" في البنية السياسية للمنطقة. ولكن لا بد من وضع هذه التطورات في إطارها الأشمل. فمن جهة ليس هناك جديد في قرار حظر حركة الإخوان المسلمين، لأن الحركة محظورة في كل دول الخليج، بما فيها قطر. وتسمح البحرين والكويت للإسلاميين بالعمل تحت مظلة جمعيات ومنظمات لا تستخدم هذا الإسم. وسمحت ودول الخليج للإسلاميين المطاردين في مصر وسوريا والعراق ودول عربية أخرى باللجوء إليها واستخدمتهم في معاركها ضد خصومها الإقليميين من ناصر إلى الخميني، ولكن بدون السماح للإخوان أو غيرهم ببناء تنظيمات في الدول نفسها.
من جهة أخرى فإن الحالة السعودية كانت تعاني مما وصفه الصحافي السعودي البارز جمال خاشقجي في مقابلة صحافية مع مجلة "النيويوركر" عام 2004 بالانفصام أو "الشيزوفرينيا". فبحسب خاشقجي، فإن الصحون اللاقطة محظورة في السعودية، ولكن السعوديين أكثر الشعوب مشاهدة للقنوات الفضائية، بل إن رأس المال السعودي هو من أكبر المساهمين في هذه القنوات. كذلك إن الربا محرم قانوناً في السعودية، ولكن 90% من المصارف السعودية هي ربوية. ويمكن أن يضاف أن الحركات الإسلامية وكل تنظيم سياسي كانت ولا تزال من المحظورات في السعودية، ولكن المملكة ظلت تستخدم هذه التنظيمات ‘غير الموجودة’ كأدوات فاعلة في سياستها الخارجية، وأحياناً الداخلية.
ومن هذا المنطلق فإن قرارات السعودية الأخيرة يمكن أن تعتبر تصحيحاً لهذا الانفصام، وفرض حظر التنظيمات السياسية بصورة أكثر حزماً، بما يشمل حتى مجرد إبداء التعاطف مع هذه التنظيمات أو التواصل معها بأي طريقة، بما في ذلك حضور مؤتمرات أو برامج إذاعية أو تلفزيونية معها.
ولكن هناك ما يشير إلى أن الأمر لا يقتصر على مجرد التشدد في تطبيق سياسات قائمة، كما يتضح من الاتجاه لتوسيع نطاق الحظر ليشمل مناطق خارج السعودية، منها اليمن والعراق وسوريا، وبالطبع مصر. وإذا أخذنا تنظيم الإخوان المسلمين، فنجد أن الحظر يشمل جميع الدول العربية، وعشرات الدول الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية. وإذا أخذنا ما ورد في بيان وزارة الداخلية من أن الحظر يشمل كذلك "كل تنظيم مشابه لهذه التنظيمات، فكراً، أو قولاً، أو فعلاً"، فإن هذا يشمل جميع دول العالم، وتيارات فكرية كثيرة موجودة في السعودية نفسها.
إضافة ذلك فإن تسمية الحركات الإسلامية عموماً، حتى السلمية منها، حركات إرهابية، وتجريم من يتداول أفكارها ومضامين فعالياتها "بأي صورة كانت"، سيوسع نطاق الأعمال المجرَّمة، ليشمل من يتسلم رسائل بريدية أو يحتفظ في مكتبته بأي كتاب أو مجلة. وإذا أضفنا أن البيان يجرم كذلك الاعتصامات والمظاهرات السلمية وكتابة العرائض الجماعية، فإن هذا ينذر أن تتحول "مملكة الصمت" (بحسب منظمة المادة 19 والنيويوركر)، إلى "مملكة الرعب"، حيث أن مثل هذا الحظر الشامل على الفكر والتعبير والنشاط لا نظير له إلا في دول مثل كوريا الشمالية وروسيا الستالينية. ولعلنا نشهد حالياً إعلان "الدولة السعودية الرابعة" في مسعى لإعادة صياغة شاملة للمجتمع السعودي. ويبدو أن أهم ملامح الدولة الجديدة هو اعتبار أي تحرك سياسي أو مدني داخل الدولة تهديداً لها، وأي تحرك إسلامي مستقل في أي مكان في العالم أكبر خطر عليها. وإذا كانت الدولتان الأولى والثانية جزراً "وهابية" في محيط تقليدي، والثالثة جزيرة إسلامية في محيط علماني، فإن الرابعة تريد أن تصبح جزيرة وقلعة مناهضة لمحيط إسلامي طامح.
ولكن أهم ما ورد في البيان هو الإخراج (أو التخريج) الديني لهذه القرارات، كما يتضح من البند الثاني من القرار الذي حظر "مبايعة" أيّ حزب، أو تنظيم، أو تيار، أو جماعة، أو فرد في الداخل أو الخارج، واعتبر ذلك بمثابة "من يخلع البيعة التي في عنقه لولاة الأمر في هذه البلاد". ومضمون هذا البند هو أولاً افتراض أن كل مواطن أو مقيم في المملكة قد ادى البيعة للملك، وأن الانتماء إلى أي تنظيم أو جماعة سياسية يعتبر خرقاً لهذه البيعة وشروطها. وبحسب هذا الفهم فإن هذه البيعة (والتي يبدو أنها تلزم المواطن والمقيم، ولكنها لا تلزم الطرف الآخر بشيء)، تحظر على المبايع الشعور بالتعاطف مع أي جهة أو اعتقاد أي أفكار لا ترضى عنها السلطة، حتى لو كان هذه الأفكار والمعتقدات في مجال الدين. فقد حظر البيان كذلك إصدار الفتاوى غير المرضي عنها أو حتى الدعاء لهذه الجماعات. وقد مهد البيان في بنده الأول لهذا الحظر أيضاً بتجريم "التشكيك في ثوابت الدين الإسلامي التي قامت عليها هذه البلاد".
إذا أخذنا كل هذه الأقول مجتمعة فنجد أنها تنظر لما يمكن أن نسميه مبدأ "ولاية الملك" على غرار نظرية "ولاية الفقيه" التي خرجها آية الله الخميني. فكما أن الولي-الفقيه بحسب الخميني هو من يحدد صحيح العقائد من فاسدها، فإن هذه المهمة تؤول حصرياً إلى "ولي الأمر" (الملك) في السعودية. فهو الذي يحدد للناس ما يعتقدون ومع من يتعاطفون. ولا شك أن هذه تطرح إشكالية أمام الفكر الوهابي، أبرز "الثوابت" التي قامت عليها المملكة، لأن مبدأ التوحيد عند الوهابيين هو أم المبادئ. وبحسب هذا المبدأ فإن القبول بدعوى أي جهة لتحليل ما حرم الله أو تحريم ما حلل تعتبر نظير الشرك، وهو أعظم الظلم. وهذا ينطبق على دعوى الأحبار والرهبان والعلماء، ناهيك عن سواهم.
مهما يكن فإن فرض إجراءات استثنائية لا سابقة لها هذه يعطي الانطباع بالهلع، وقد يفجر التناقضات داخل المجتمعات الخليجية ويعجل بما تخشاه الأنظمة. هذا فضلاً عن أن هذه الإجراءات يصعب تطبيقها في هذا العصر. ولا يعني هذا بالطبع أن الأفكار التي تستشعر الأنظمة خطرها هي بلا إشكاليات. وكنا نوهنا في مداخلة سابقة أن القطيعة التي تم الإعلان عنها رسمياً بين الحركات الإسلامية ودول الخليج تمهد لتصحيح العلاقة بين الطرفين. فقد شوهت هذه العلاقة الأوضاع في دول الخليج، كما شوهت مسيرة الحركات الإسلامية. وليس أدل على ذلك من البيان الهزيل الذي أصدرته حركة الإخوان المسلمين رداً على إدراجها في قائمة الإرهاب، وهو بيان يعتبر مرافعة ذليلة في بلاط الحكام بما يوحي بأن مواقف توجهات الحركة تنطبق تماماً مع مصالح الأنظمة، وهو لو صح يستوجب بالفعل الحظر والعقوبة. وتتناقض فحوى البيان مع ما ورد فيه من أن "الإخوان دائما ما يقولون وبصوت مسموع أن الحق الذي يدينون به هو منهاجهم المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم". لأن المسألة لا تتعدى أحد أمرين: إما أن وصف الحركة بالإرهاب صحيح، فعليها أن تقبل الإجراءات التي صدرت في حقها كما فعلت جماعة بن لادن، وإما أن التهمة باطلة فإذن لابد من رد حازم يتناسب مع عظم التهمة وشدة الإجراءات التي ترمي إلى تجريم مجرد التعاطف مع الحركة أو حضور حلقة تلفزيونية مع أحد ممثليها. وهذا يتطلب الاعتراف بأن العلاقة بين الإخوان ودول الخليج وصلت إلى نقطة اللاعودة رغم ما أشار إليه البيان من خضوع وتذلل من التنظيم لهذه الأنظمة طوال تاريخه. وعلى الإخوان الآن التعايش مع وضع أصبحت فيه هذه الدول العدو الأول للتنظيم. وهذا يتطلب كذلك بأن أساس العلة هي في التنظيم ومنهجه.
لقد تنامى تيار قوي منذ مطلع التسعينات، وبالتزامن مع نشأة حماس وحزب الله، وهو تيار تتزعمه إسرائيل، وينطوي على حلفاء كان من أبرزهم تونس ومصر مبارك والجزائر، يسمى بالتيار الاستئصالي، ويدعو إلى معاملة كل الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها على أنها حركات إرهابية، وحظرها والتضييق عليها. ولكن هذا التيار لم يجد القبول من الدول الكبرى لتناقضه مع المواثيق الدولة والقوانين التي تكفل حريات الاعتقاد والتنظيم في إطار القانون. وفوق ذلك أن الدول التي طبقته مثل تونس وقبلها تركيا، بأشد صرامة ممكنة فشلت فشلاً ذريعاً، وكلا هذين البلدين يحكمه اليوم إسلاميون. ولكن انضمام السعودية ودول خليجية أخرى إلى هذا المنهج الاستئصالي ستكون له عواقبه، لأنه سيعني تغييرات واسعة في هذه الدول وفي الحركات الإسلامية.
ولا نستطيع حالياً التنبؤ بمآلات هذه التغييرات، ولكن أرجح الاحتمالات هو تراجع مؤقت للحركات السلمية لصالح حركات عنيفة كما حدث في مصر والجزائر، وفي السعودية نفسها بعد حظر نشاط تيار ‘الصحوة’ في التسعينات. ولا شك أن مثل هذا التحول سيكون كارثة على الحركات والبلاد.
وعلى كل فإن الوضع سيفرض مراجعات فكرية جادة لمسيرة الحركات الإسلامية، وكل الأوضاع السياسية في البلاد العربية. ونذكر هنا بأن الحظر السعودي ينطبق على كل الأحزاب، بما فيها تلك التي صفقت للحظر.
وبنفس القدر، فإن الخلل القائم تتوزع مسؤوليته على كل الأطراف. فما حققته الحركات الإسلامية من نجاح سببه في المقام الأول فشل وإفلاس القوى المنافسة. فقد تناوبت التيارات العلمانية من ليبرالية وراديكالية وقومية وتقليدية على حكم البلدان العربية حتى قبل الاستقلال، منفردة وفي يدها كل الأمور، ولكنها فشلت في إقناع الشعوب بجدارتها بالحكم. والحل ليس في ملاحقة من حققوا شعبية أكبر، بل التأمل في الفشل. فقد احتكرت النخب الحاكمة كل السلطات، بما فيها سلطات تفسير الدين لعقود، دون أن تنجح في خلق الأوضاع التي تريد.
وقد ظلت استراتيجية الأنظمة العربية دائماً هي محاربة التيارات الصاعدة، وضرب القوى السياسية بعضها ببعض. وهذا الدور السلبي هو السبب في الأوضاع التي تعاني منها المنطقة ودولها، لأن الأنظمة تمارس دور الهدم فقط، وليس لديها أي دور إيجابي تلعبه. ومن هنا فإن الخطوات الأخيرة سيكون لها على المدى الطويل مردود إيجابي. فالحركات الإسلامية أيضاً كانت تعمل بردود الفعل. وما تلقته من صدمات يجب أن يدفعها إلى تحرك إيجابي وتغيير حاسم في المناهج والقيادات والفكر بما يتناسب مع المناخ الجديد، والقطيعة مع المواقف والتحالفات السابقة والمواقف الضبابية.
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
(القدس العربي)