هذا السؤال لا شك أنه طرح على ذهن كل منا سواء كان مهتما بما يجرى أو لم يعد، وسواء هو إسلامي معارض أو مسلم ساخط.
ولا شك أيضا أن الصبغة الإسلامية تظهر بقوة فيما حدث من
انقلاب عسكري وتآمرات داخلية وخارجية وإفشال للثورة ومجازر تجرى كل يوم في الشوارع.
ليس لأن الشعب المصري متدين بطبعه فتلك المقولات الجاهزة والسخيفة أظنها لا تدخل إلا على السُذج والمغفلين.
لكن السبب الأكثر قدرة تفسيرية لأن جماعة الإخوان المسلمين أكبر جماعة إسلامية في مصر والمنطقة كانت حاضرة في قلب المشهد وطرفا أساسيا في الصراع وتمثل قلب الحركة الإسلامية في مصر ومشاركا أساسيا في ثورة يناير.
فهل ما حدث فعلا من انقلاب عسكري حرب على الإسلام والمسلمين؟؟
هذا ما سنحاول الدوران والاقتراب والتسديد حول الإجابة عنه.
وهو سؤال ربما تبدو إجابته بدهية من أول وهلة.
فإذا كنت شخصا مسلما وتعمل من أجل رفعة الإسلام أو كما تدعى، وشاركت في الثورة من أجل الإسلام، وشاركت في العملية الانتخابية من أجل الإسلام، وانتخبت الرئيس محمد مرسى من أجل الإسلام، ثم تأتى طغمة من العسكر فتهدم كل ذلك ألن تعتقد أنها حرب على الإسلام؟
سنتناول القضية على مستويين، وهما مستوى كل طرف في تلك المعركة أولهم مستوى الحركة الإسلامية وفي القلب منهم الإخوان.
أما المستوى الثاني فهو مستوى الطرف الآخر وسنفككه لعدة أطراف وهم مستوى أمريكا والقوى الاستعمارية، مستوى الدول الإقليمية العربية الداعمة للانقلاب، مستوى الطغمة العسكرية.
وسنبدأ بتناول مستوى الحركة الإسلامية وفي قلبها الإخوان.
ظهرت الحركة الإسلامية أول ما ظهرت في القرن العشرين وإن كان لها بذور في القرن التاسع عشر والقرن الثامن عشر ولكنها ظهرت في الأساس كرد فعل على الاستعمار وسقوط الخلافة العثمانية واختفاء مظاهر الإسلام من المجتمع.
لذلك عاش الإسلاميون قرنا يحاربون على عدة جبهات أولها الاستعمار الأجنبي لبلاد المسلمين وثانيها مع الأفكار العلمانية التي تدعو لفصل الإسلام عن الحياة وثالثها مع الحكومات المحلية التي كانت طليعة التعليم الأجنبي والغرور السلطوي.
وتطور الأمر كثيرا في النصف الثاني من القرن العشرين فزال الاستعمار وبقيت طغمة عسكرية تقاتل بأفكاره وظهرت أمريكا والاتحاد السوفيتي.
وعلى مستوى الأفكار كان الاستقطاب على أشده بين الماركسية الراديكالية وبين الليبرالية والسوق الحر وبسبب القرن الذى عاشه الإسلاميون تحت ظل الحضارة الغربية وسعيها للطوبيا والمثالية فقد تشربت مناهجهم منها.
وفى رأيي تمثل طوبيا الإيديولوجيات وفلسفة العلوم الطبيعية والمثالية الراديكلية أكبر مشاكل تواجه الحركة الإسلامية في العالم كله حاليا وهذا ربما يكون طبعي بسبب محاصرة الفلسفات الاجتماعية الغربية للإسلاميين بين سندان الليبرالية الإمبريالية الغربية (خاصة الأمريكية) ومطرقة المثالية الراديكلية الشيوعية.
عاصرت أجيال من الإسلاميين المد الشيوعي الأممي الإلحادي وتصدت له بقوة واستخدمت نفس أدواته الراديكالية بصبغة إسلامية وجادلت أفكاره الجاهزة ذات الردود المعلبة والطوبيا التي تبهر عين أي كادح وما أكثرهم في بلاد الإسلام.
وشاهدت الليبرالية كل ذلك وعاينته وعندما انهار الاتحاد السوفيتي ووقفت الليبرالية وحيدة في الساحة تستند إلى أكبر مخزون براجماتي وشهواني لدى الإنسان تعد الناس بحلم أمريكا الوردي بالسيارة والزوجة الشقراء والبيت الجميل والأطفال.
لم تفلح أدوات الإسلاميين التي استخدموها من قبل ضد الشيوعية في التصدي لذلك الكم من الشهوات، مدعوما بقوة العلم وقوة الجيوش والتفوق العسكري والمادي والاقتصادي والصناعي في العالم، وهنا -كما يقول مالك بن نبي- تفوقت الفكرة الفعالة ذات النتائج العملية على الفكرة الأصيلة وطرحتها أرضا.
وبقى من تلك الأجيال بقايا أفكار عفا عليها الزمن مثل الدولة الإسلامية والخلافة التي ستحل كل المشاكل وأستاذية العالم التي سينبهر منها الغرب ومشروع النهضة الذى سيحقق الرخاء في أربع سنين.
كلها أفكار طوباوية عفا عليها الزمن ولم تعد تقدم استجابة للواقع الأكثر تركيبا، ونشابك أجيال الإسلاميين الآن مليئة بشخصيات لديها تصورات رائعة وكاملة وردود جاهزة لكل شيء ووعود كاذبة لكل شيء، وكل شيء مدروس وكل شيء مخطط له، ويفاجئ الجميع بعد أول تحدٍ -ولو كان سؤالا صغيرا- بانهيار كل شيء، وإن لم يجد صاحب الردود الجاهزة والدماغ العملية إجابة يصف السؤال بأنه عبث وفلسفة وكلام بدون فائدة، وتبقى إشكاليات عظمى لم يتطرق لها أحد ولم يتكلم فيها أحد لاطمئنانهم الدائم أن كل شيء مدروس والمعجزات ستحل داخل التاريخ بمجرد الشروع في العمل.
وتبقى إشكاليات التغير وكيفيته وعلاقته بالمجتمع والجماعة المسلمة أكبر إشكالية تواجه المسلمين وليست الطوبيا فقط هي ما تمثل من إشكالية عند الإسلاميين فأيضا جيتو الآيدولوجية يمثل إشكالية ضخمة.
ولأن الإسلاميين أكثر الأشخاص الذين يشعرون بالغربة في ذلك المجتمع الجاهلي والواقع المأساوي فهم يأوون للايدولوجية وتنظيمها كشكل من أشكال الجيتو، ثم تبدأ الآيدولوجية والتنظيم بإعادة تفسير كل شيء بدءا من التاريخ إلى الواقع، فترى تلك الإسقاطات العجيبة للتاريخ على الواقع منها ما شيع بين الأخوة أننا في غزوة أحد الآن، وأننا في غزوة الخندق، كذلك تفعل الآيدولوجية بالعقول عندما ينغلق نسقها على شخص أو تنظيم أو مسلمات ليس لها أصل وإنما كانت مجرد اجتهادات خاضعة لسياقها التاريخي.
فنجد الإحساس دائما بالمؤامرة والإحساس بالعدو الخارجي خارج حدود الآيدولوجية والتنظيم، ثم بلغ ذلك الجيتو ذروته في اعتصام رابعة حيث كان واضحا لكل من ذهب ومنهم العبد لله أن المدينة الفاضلة تنتهى بحدود الاعتصام خاصة أن مكان الاعتصام، وهو مدينة نصر الحي الثامن، وهو مكان برجوازي أغلب سكانه من أفراد الجيش والشرطة، يمثل لا محالة القذارة القيمية في مقابل القيم التي كانت متمثلة في اعتصام رابعة من رفض الظلم ونصرة المظلوم والمطالبة بالعودة للحق وإقامة العدل.
وقال التاريخ كلمته حيث انهارت المدينة الفاضلة تحت وابل الرصاص والهجوم الوحشي والمجازر الوحشية، أما قذارة الواقع وفاعليته فأظهر الوجه القبيح القذر للطغمة العسكرية وأصحاب المصالح والدولة الحديثة الوثنية وذراعها الأمني والإعلامي، وظهر الكفر البين في قتل المصلين وذبح الأطفال والشيوخ والنساء ومحاصرتهم في المساجد وسحلهم على الأسفلت.
وظهر الوجه الوثني الكافر من الجيش في قتل المسلمين، ووأد أي تجربة إسلامية قبل أن تبدأ، إنهم يحاربون الإسلام، يأممون المساجد يقتلون ويعتقلون الشيوخ وكل من يقول كلمة الحق.
إنها حرب على الإسلام لا شك على مستوى الطرف الآخر أولا أمريكا والقوى الاستعمارية.
طلت أمريكا أول ما طلت على العالم بوجها القبيح في الحرب العالمية الثانية، وبعد انتهاء الحرب العالمية كانت أمريكا تملك أسطولا بحريا عملاقا، وحاملات سفن توجد في معظم بحار ومحيطات العالم، ثم خاضت حربا باردة مع الاتحاد السوفيتي، حتى انهياره في تسعينات القرن العشرين. في تلك الفترة أصبحت أمريكا أكبر دولة رأسمالية في العالم، وأكثر مكان تتراكم فيه رؤوس الأموال، وفي فترة من سبعينات القرن العشرين إلى عام 2006، دعمت أمريكا أغلب الانقلابات العسكرية في بلاد أمريكا اللاتينية وبلاد الشرق العربية الإسلامية، وعدد من بلاد جنوب شرق آسيا، وراحت مدرسة شيكاغو التي صاغت نظرية الليبرالية الجديدة تغزو العالم فوق الدبابات والمدرعات وبقوة السلاح وآلية الانقلابات العسكرية والغزو الثقافي والفكري والسلعي.
هنا يأتي السؤال هل أمريكا تحارب الإسلام؟
ذلك ما قد تكون إجابته متضمنة في عدة مشاهد في العالم وعدة وقائع متفرقة تكاد لا ترى العلاقة المنطقية بينها ففي الوقت الذى كانت أمريكا فيه تحارب الإسلاميين في البلاد العربية وتحاول أن تحتويهم داخل المنظومة العالمية دعمت أمريكا المجاهدين في أفغانستان ضد الغزو السوفيتي بالسلاح والدعم اللوجيستي حتى خرج السوفييت من أفغانستان، ثم أعادت مهاجمتها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفى سبعينات القرن العشرين قادت أمريكا عدة انقلابات عسكرية في أمريكا اللاتينية، فهل أمريكا اللاتينية كان فيها إسلام؟ الحقيقة أن أمريكا اللاتينية لم يكن فيها إسلام ولكن كان فيها ماركسية وحركة تحرر اقتصادية من النفوذ الأمريكي، فأمريكا التي تعتنق المذهب البراغماتي الذى يعتبر مرجعية الرأسمالية ليس لها عداوة مع أي دين طالما ظل هذا الدين بعيدا عن المصالح الأمريكية ولا يهددها، وطالما هذا الدين لا يعمل على تثوير الشعوب ضد حكامهم الطغاة والمصالح الأمريكية.
بل أن أمريكا حاولت في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي أن توظف الدين وتطوعه لمصالحها وتحتوى الإسلاميين داخل منظومة النظام العالمي الجديد، وهذا ما أشار له الشيخ سيد قطب في مقاله الإسلام الأمريكاني وذلك التطويع لا يلزم أن يكون بشكل واع وملحوظ بل في الأغلب يكون بشكل لا واع، وذلك ما وقع فيه الإسلاميون في تجربة الحزبية في الأردن وتونس والعراق.
وفى مشروع النهضة في مصر حيث لم تخرج تلك المشاريع عن النسق الرأسمالي، أو الدوران في سياق النظام العالمي، إذن أمريكا تنظر للإسلام على أنه خطر، طالما يهدد مصالحها ويثور الشعب عليها، لذلك تعمل على نشر الإسلام العلماني أو الصوفي الذى لا يهدد مصالحها.
الدول الإقليمية ودول الخليج الداعمة للانقلاب.
أغلب دول الخليج إن لم تكن كلها، لم تظهر إلا حديثا في القرن العشرين، والقرن الذى يسبقه، فتلك الدول لم يكن لها وجود أو تاريخ، وإنما هي دول تكونت بعد الاستعمار الإنجليزي وبعد اكتشاف آبار البترول والغاز في تلك البلاد التي أصبح لها شيء من التأثير في المنطقة.
وفى العقود الأخيرة ظهرت تلك الدول الخليجية كلاعب أساسي في المنطقة خاصة بعد حرب الخليج وظهور ولاية الفقيه في إيران، وازداد الوضع تعقيدا واشتباكا بعد ظهور مشروع إيران في المنطقة ودعمهم للشيعة في دول الجزيرة العربية وحربهم مع العراق وظهرت الثلاث دول الأبرز على الساحة، وهي الإمارات وقطر والسعودية، حيث عقدت أمريكا تفاهمات مع الجميع لضمان نفوذها في المنطقة، خاصة بعد تصاعد نفوذ ايران، وبرغم أن قطر والسعودية كان ولا زال بينهما خلافات طويلة -تتلخص في أن السعودية ترى أن منطقة قطر جزء من الأراضي السعودية وأرادت ضمها عام 1913- إلا أن قطر لديها أيضا كروت ضغط وقوى ناعمة، مثل قناة الجزيرة التي عملت على توازن القوى في المنطقة وتغطية الإسلاميين سواء الإصلاحيين منهم أو الجهاديين إعلاميا بعد موافقة أمريكا التي لديها أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة على أرض قطر.
لذلك لم يكن دعم دول الخليج مثل الإمارات والسعودية للانقلاب في مصر إلا استكمالا لمسلسل الصراعات الإقليمية والتمدد الإقليمي للنفوذ.
فالإمارات والسعودية هما رأس حربة القضاء على ما عرف بالربيع العربي خشية أن ينتقل إليهم ويهدد سلطتهم، كما أن مبارك كان الحليف الأكبر لتلك الدول وشارك في تدبير انقلاب داخل قطر على الأمير السابق لها.
لذلك تقف قطر وقناتها الجزيرة في وجه الانقلاب وتعمل على وقف ذلك المد الإقليمي لمشروع السعودية والإمارات ونفوذهما.
يبدو أن الأمر بعيد كل البعد عن الإسلام لكن أليست تلك الصراعات والاقتتال على النفوذ وعلى رضا أمريكا كان على حساب أرواح آلاف المسلمين.
ليس في مصر فقط بل في كل بلاد الإسلام.
أليس هؤلاء الحكام مسؤولون أمام الله عن عموم المسلمين.
ذلك ما يجعل للأمر بُعدا قيميا لا ينظر إليه هؤلاء الذين تشربوا تعاليم أمريكا وعبدوها كما عبدوا المال والسلطة والشهوة الطغمة العسكرية.
في عام 1952 قام مجموعة من الضباط لقبوا نفسهم بالضباط الأحرار بانقلاب عسكري على الملك فاروق وتشيد الجمهورية في مصر، ورفعوا شعارات الحرية والديموقراطية والعدالة والكرامة والاستقلال، ثم بعدها بسنتين تم إلغاء الديموقراطية وإلغاء البرلمان وقمع الحريات وإقامة محاكم الثورة التي أعدمت كثيرا من قادة التيار الإسلامي، وسجنت الآلاف منهم وعذبت الكثيرين حتى الموت.
استمر حكم العسكر 60 سنة من الخراب والقمع والاستغلال والنهب وسرقة الشعوب، حتى ظهر جيش كامب ديفيد الذى بنى إمبراطورتيه الاقتصادية ونفوذه داخل مناصب الدولة العميقة خلال حكم المخلوع.
لا نريد أن نحكى قصة طويلة هي قصة العسكر في مصر ولا امبراطورياتهم الاقتصادية التي تحدث عنها يزيد صايغ في ورقته "فوق الدولة" عن عصبة رجال عندهم مشروع طموح لحد المراهقة تقاتلوا فيما بينهم على النفوذ فقاموا بتصفية بعضهم البعض إلى جيش هو مجرد أداة في يد أي طاغوت يمتلك زمام الحكم، جيش ليس عنده أي عقيدة لا يفعل إلا ما يؤمر به ولو كان قتل النساء والأطفال والشيوخ ومنع إقامة الشريعة التي ستكون خطرا حتميا على الأمن القومي في نظرهم.
هل جيش كامب ديفيد طائفة كفر؟ هل هو من الطوائف الممتنعة؟ هل جيش السيسي جيش ردة عن الإسلام؟
قد نختلف ونتجادل على تكفير ذلك الجيش المصري الذى يرتكب مجازر كل يوم، لكننا حتما سنتفق على تفسيقه وتجريمه ووجوب محاربته وردعه عن قتل المسلمين، يبدو مما سبق ذكره أن الصراع في مصر مركب وله عدة أبعاد، قد تكون العقيدة منها لكن مما يجب النظر فيه أن الإسلام عندما جاء لم يحارب فقط ديانات الكفر والشرك ولم يهتم فقط بعلاقة الإنسان بربه تاركا أمر تصور الوجود للاجتهاد البشري دون أن يحدد علاقة الإنسان بربه، والإنسان بالكون، ويرسم له حدود تلك العلاقة وملامحها، فقد حارب الإسلام أيضا مصالح النظام القائم وعمل على إسقاطه وإحلال نسق التوحيد محله، فإذا كانت المعركة معركة مصالح وإذا كان الصراع صراع قيم العدل والتحرر مقابل قيم الاستعباد والذل والظلم والاستغلال، أليست معركة المصالح القائمة مع ما يهددها من إرادة في إحقاق الحق وإقامة العدل هي معركة مع الإسلام؟ وأليس صراع الاستبداد والفساد والشهوات مع العدل والكرامة والحرية صراعا مع الإسلام؟
إذا هل هي حرب على الإسلام؟