إنّ التكلّم في موضوع كهذا هو كالوقوف على حافة جرف، بآلافٍ من الألسن تقف خلفك و تتسابق لدفعكَ بكلّ قوة و ازدراء إلى الأسفل.
ألسنٌ بهويّاتٍ مختلفةٍ و منابتَ شتّى، لكنّ صفة الأنانية و العمى الإنساني تجمعها كباقة تُهدى في عزاء كلّ من يحاول أن يحلم و ينجز شيئاً في حياته القصيرة التعيسة.
لكن لا بأس، فظهورنا أضحت اسمنتا مسلحا، و تردد عتبة كرامتنا في ارتفاعٍ مستمرّ، و لا مبالاتنا تريحنا نفسيّاً.
ليلة أمس، التقيت بأربعة أصدقاء تخرّجوا من كليّة
الهندسة في جامعة مؤتة بتخصصاتٍ مختلفة، سألتهم عن أحوالهم، و أتت الإجابة النموذجية لكلّ خرّيج هندسةٍ في الأردنّ يقف في طابور النقابة الطويل: "قاعدين مندوّر ع شغل"، و "الشغل" هنا يعني عملاً يُطبَّق فيه ما تمّ تلقينه لنا طيلة خمس سنوات.
إلى هُنا وجميع شرائح الشعب تتعاطف معنا، لكن ما إن تَهربَ منّا كلمةٌ من لهجتنا أثناء مكالمةٍ مع البيت، أو عند الإجابة على سؤال "من وين أنت؟"، حتى يتحوّل هذا التعاطف إلى حقدٍ و سخط، و تذمّرٍ و تبادلٍ للشكوى و الشتائم في بعض المجالس.
نعم، نحن سوريّون، و صدّقوني لم يختر أحدٌ من آبائنا أن يأتي إلى هذا البلد أو أيّ بلدٍ آخر ليحتلّه و ينشر جذور استعماره و مخططاته الشريرة فيه، لقد هربوا من الموت، لا أكثر.
لو ناقشنا بعض الحقائق عن قِبلةِ شباب "ما قبل الرّبيع" في
العمل؛ الخليج -و السعودية حصراً-، سنتّفق معاً في كره آل سعود، خاصّةً عند ذكر واقع أنني لا أستطيع زيارة بيت الله الحرام فقط لأنني سوري، وربّما أشكلّ خطراً محدقاً على أمن أعظم دولة في التاريخ: السعودية.
لكن ما أن يأخذ بنا مركب الحديث إلى الأردن، البلد الذي ولدتُ و كبرتُ فيه، حتى تُقلبَ الآية.
نعم، في الأردنّ تزداد البطالة يوماً بعد يوم، و شبابها المتعلّم يجد صعوبة كبيرةً جداً في الحصول على وظيفةٍ إذا ما قرر أن يلتزم المنافسة الشريفة و أن يبتعد عن الأذرع التي ستسحبه إلى الأعلى متجاوزاً الكثيرين ممن سبقوه في الصفّ، ذات الأذرع التي ستسحقه يوماً ما بطلبٍ لن يجرؤ على رفضه.
في المقابل، تزداد الشكوى من قبل "السكّان الأصليين"، لأنّ "الغرباء" انتشروا في المجتمع وأصبحوا يشغلون الوظائفَ كلّها على حسابهم، و هذه وجهة نظر تستحق أن يُدافعَ عنها.
لكن قبل أن تشهر المدافع في وجه سُفن الوافدين واللاجئين، فكّر قليلاً في هذه الأسئلة:
ما رأيكَ في مواطنِ أردنيّ، يرفض توظيف الشابّ الأردني ويوظف السوريّ لأنه بهذه الحالة سيوفر على نفسه مئات الدنانير؟
أيقبلُ أيّ مهندس العمل لمدّة 12 ساعة يومياً مقابل 200 دينار فقط.
إذا قابلتَ لوظيفة، و قالوا لكَ إنك ستعمل لمدة ستة أشهر كتجربة قبل توقيع العقد مقابل راتب زهيد وبدوامٍ إضافيّ، وبعد انتهاء المدة اعتذروا منك وطردوك ليأتوا بغيرك ويكرروا نفس الفيلم، ماذا سيكون شعورك؟
علينا أن نعي جيداً ونفهم الحقيقة الأهمّ، وهي أنّ شعباً بأكمله وبشرائحه كلّها لجأَ إليك، أي أنّه أتى بحثاً عن الأمان بعد أن رأى الموت وذاق الذعر.
هذا الشعب يحوي الصالح و الطالح، و فيه الفاسد و المخلص، تماماً كشعبك أنت!
أصبحنا نترك كلّ شيء و نهاجم في الآن ذاته كل شيء.
تركنا جشع أصحاب المصالح، و هاجمنا من يشغل تلك المصالح.
تركنا اللصوص، و هاجمنا أصحاب النفوس العفيفة و أدرجناهم في قوائم الغير.
تركنا الشابّ عندما وقف في وجه الموت، و هاجمناه عندما وقف في وجه الفقر.
لم أكن أتخيل يوماً أن كلمة "سوريّ" ستجلب لي نظرات الازدراء، و أنّ اعتراضي على سياسات التضييق والخنق في الأردنّ وغيرها من الدول ستعرّضني للشتم والتهديد.
ما يهمّني، أنّ طموحي وطموح من هم مثلي لا يقف عند نقطة أمنية أو سفارةٍ قذرة، أو حتى ليلة نقضيها في الحبس لأننا نقود سيارةً برخصة مصبوغة بلونٍ غير الأزرق.
ما يهمّني أنني أدفن في قلبي بقايا جسدٍ كان يُدعى "الإنسانية" بعد أن فُجِّر، و أنني أحلم بوطنٍ لا قهرَ فيه.
ما يهمّني، أنّ القشعريرة لا تزال تنتشر في جسدي كلّما سمعتُ أو غنّيتُ "موطني" /..