كتب صبحي حديدي: كلما ألمّ خطب بالأمير السعودي
بندر بن سلطان، كأنْ يغيب فجأة، أو يخضع لعلاج طارىء، أو تتناوله إشاعات الإبعاد عن المنصب… سارع الناشطون السوريون، المعارضون للنظام، إلى إحياء نكتة قديمة (انتقلت عدوى جاذبيتها إلى بعض المراقبين الأجانب، أيضاً)، تنهض على التساؤل الساخر: ‘يا للهول! ما الذي سيحلّ برواتبنا ومخصصاتنا بعد بندر؟’.
قسط أعظم من رسالة النكتة يتوجه إلى ادعاءات النظام، التي كانت البادئة باتهام الأمير بتمويل المعارضة (بفصائلها كافة في الواقع، وليس الإسلاميين أو الجهاديين وحدهم)؛ وقسط آخر، ليس بالضئيل، يغمز من قناة بعض مؤسسات المعارضة السورية، المجلس الوطني والائتلاف خاصة، وبعض أفرادها (أحمد الجربا، ميشيل كيلو، اللواء سليم إدريس…) بالخضوع لإرادة الأمير، لاعتبارات تمويلية محضة.
طبيعي، إذاً، أن تعود النكتة مع الأمر الملكي الذي أصدره الملك عبدالله بن عبد العزيز، وقضى بإعفاء الأمير من منصبه كرئيس للاستخبارات العامة (‘بناءً على طلبه’، كما نصّ الأمر)، وتكليف الفريق أول ركن يوسف بن علي الإدريسي بالقيام بأعمال رئاسة الجهاز.
الأيام كفيلة بإزالة بعض، وربما الكثير من، الغموض الذي اكتنف هذا الإجراء؛ ليس في ما يخصّ الأمير وحده، وما إذا كان الأمر إطاحة واستبعاداً أم استقالة وحرداً، فحسب؛ بل كذلك على صعيد القائم بالأعمال، وهل سيصبح أصيلاً ودائماً، أم سيوكل بالمهمة إلى أمير آخر. كذلك سوف تتضح طبيعة مفاعيل هذا القرار، وآثاره القريبة والبعيدة، في ملفات عديدة حساسة كانت في عهدة الجهاز، والأمير شخصياً: من سورية وإيران، إلى المشكلات الخليجية ـ الخليجية، والعلاقات السعودية ـ الأمريكية، والسعودية ـ الروسية، وسواها.
وفي المقابل، ولكي يجنح المرء إلى تلمّس بعض السياقات السياسية والأمنية التي اقترنت على الدوام بشخص الأمير؛ لا تستقيم قراءة الحدث دون عودة إلى الماضي، بهدف استقراء الحاضر من جهة، واستشراف أيّ مستقبل مختلف قد ينجم عن انطواء صفحة الأمير (بافتراض أنها ستطوى حقاً، وليس مؤقتاً وعلى سبيل المناورة)، من جهة ثانية. عودة، إذاً، إلى أواخر العام 2006، حين ثار السؤال الدراماتيكي التالي: هل من الممكن أن يجري أي تنسيق أمني على مستوى رفيع بين الولايات المتحدة والسعودية، يشارك فيه الأمير بندر (وكان، يومذاك، مستشار الأمن القومي السعودي)؛ وإليوت أبرامز، كبير مسؤولي الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي في حينه، دون علم السفير السعودي في واشنطن؟
وتحديداً أكثر، هل يعقل أن تتمّ سلسلة مباحثات من هذا النوع، دون إشراك سفير يحدث أنه ليس أيّ سفير عادي، لأنه كان الأمير تركي الفيصل، ابن الملك فيصل (الذي حكم المملكة منذ 1964 وحتى اغتياله في آذار 1975)، وشقيق وزير الخارجية الحالي سعود الفيصل، ورئيس إدارة المخابرات العامة طيلة 25 سنة، والسفير السعودي في لندن قبل انتقاله إلى واشنطن؟ هذا ما حدث بالفعل، منتصف كانون الأول (ديسمبر) تلك السنة، مما دفع السفير الأمير إلى الاستقالة الفورية، بعد 15 شهراً من توليه المنصب، والعودة بشكل مفاجئ تماماً إلى الرياض. وتلك الخطوة توّجت شهوراً من الخلاف الداخلي المحتدم بين بندر، الذي كان بدوره سفيراً في واشنطن طيلة 23 سنة، وظلّ مقرّباً تماماً من البيت الأبيض، سواء أكان الرئيس جمهورياً أم ديمقراطياً، ومعظم أفراد مجلس الأمن القومي السعودي، من جهة أولى؛ وفريق وزارة الخارجية، ممثلاً في الوزير، وشقيقه السفير، وعدد كبير من أبرز الدبلوماسيين السعوديين، من جهة ثانية.
ويمكن القول، مع بعض التحفظ على التصنيف، إنّ الفريق الأخير ظلّ يمثّل ‘الحمائم’، مقابل فريق ‘الصقور’ الأوّل، في سلسلة من الملفات الساخنة والمركزية؛ سواء الداخلية التي تخصّ الإصلاحات السياسية وتطوير نظام البيعة والخلافة، أو الخارجية المتعلقة بالعراق ولبنان وسورية وفلسطين وإسرائيل وإيران، فضلاً عن اتخاذ المواقف من السياسات الأمريكية بصدد هذه كلها. ولأنّ هذا الطراز من الخلاف يظلّ عادة حبيس القصور الملكية المغلقة، ولا يطّلع عليه إلا نفر قليل من ابناء العائلة الملكية، فإنّ حوادث مثل اجتماعات بندر ـ أبرامز السرّية في واشنطن كانت كفيلة بنقل الخلاف إلى مستوى علني، خصوصاً إذا أسفر عن عواقب دراماتيكية مثل استقالة أمير مخضرم من منصب حساس كسفارة المملكة في واشنطن.
ولقد توفرت واقعة علنية أخرى في هذا الصدد، جرت قبل هذه بأسابيع قليلة، حين نشرت صحيفة ‘واشنطن بوست’ الأمريكية مقالة لافتة تماماً، بعنوان ‘السعودية سوف تحمي السنّة إذا انسحبت الولايات المتحدة’، وقّعها نواف عبيد، مدير ‘مشروع تقويم الأمن الوطني السعودي’، والمستشار الأمني للسفارة السعودية في واشنطن. ورغم أنّ عبيد ذيّل المقالة بعبارة تشير إلى أنّ آراءه لا تعبّر عن السياسة الرسمية للحكومة السعودية، إلا أنّ المقالة كانت في الواقع بالون اختبار لفريق بندر، ولفريق الشرق الأوسط في الإدارة الأمريكية، ولرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي… في آن معاً. ذلك لأنّ عبيد قال بصريح العبارة: ‘إذا انسحبت أمريكا من العراق دون سابق إنذار، فإنّ واحدة من أولى النتائج ستكون تدخلاً سعودياً واسعاً لمنع الميليشيات الشيعية التي تدعمها إيران من ذبح السنّة في العراق’؛ وكذلك أنّ المملكة ستدعم مجموعات السنّة بالمال والسلاح، وقد تضطرّ إلى خفض سعر النفط من أجل توجيه ضربة اقتصادية موجعة إلى إيران.
وكان ذلك الكلام مدوياً بالفعل، خصوصاً وأنه صدر عن رجل مقرّب من السفير السعودي، ومن غير المرجح أن يطلق تلك التصريحات الخطيرة دون ضوء أخضر من سيّده. كان لافتاً أيضاً، ومحرجاً تماماً، أن تبدأ المقالة بمديح وزير الخارجية سعود الفيصل (لأنه، حسب عبيد، حذّر الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن من أنّ أمريكا ‘ستحلّ مشكلة واحدة وتخلق خمس مشكلات’ إذا أطاحت بالرئيس العراقي صدّام حسين)؛ ثمّ تنتقل مباشرة إلى امتداح السفير السعودي تركي الفيصل (لأنه، بدوره، حذّر في خطبة علنية من أنّ ‘أمريكا جاءت إلى العراق من غير دعوة، ولهذا ينبغي ألا تغادر العراق من غير دعوة’). في قراءة أخرى، كانت أقوال عبيد لا تردّد اصداء هواجس فريق آل الفيصل، تجاه السياسة الأمريكية في العراق عموماً، وإزاء حمهور السنّة في المنطقة خصوصاً، فحسب؛ بل هي تبدو، اليوم، أقرب إلى نبوءة عجيبة حول مآلات تلك السياسة، ولكن بيد سيّد البيت الأبيض الآتي، باراك أوباما، حول سورية ومصر والعراق وإيران…
قراءة هاتين الواقعتين لا تستقيم، بدورها، دون استذكار حقيقة مركزية: أنّ العاهل السعودي عبد الله ظلّ يقف على مسافة متساوية من الفريقين، مع أرجحية طفيفة لأبناء فيصل، لسبب مباشر هو أنّ بندر لم يكن سوى امتداد لنفوذ أبيه، وليّ العهد ووزير الدفاع الأمير سلطان؛ هذا الذي لم تكن علاقته مع الملك الحالي طيّبة على الدوام، خصوصاً وأنّ عبد الله أخ غير شقيق لما عُرف باسم ‘السديريين السبعة’، أبناء الملك عبد العزيز من زوجته حَصّة السديري. غير أنّ ما اكتنف الواقعتين من مؤشرات، يومذاك، أوحى بأنّ الملك لم يحسم أمره لصالح أيّ من ‘الصقور’ أو ‘الحمائم’، وأمسك العصا من منتصفها: لا هو اتخذ موقفاً يثني تركي عن استقالته، فاكتفت السلطات السعودية بتأخير إعلان النبأ، وتأخير تعيين البديل، عادل الجبير؛ ولا هو أكّد الإشاعات التي راجت، من وحي ذلك كله، حول تعيين بندر وزيراً للخارجية.
والحال أنّ الأمير خارج اللعبة الآن، كما يلوح للوهلة الأولى، دون أن يُتاح الجزم بأنّ صفحته انطوت نهائياً ضمن هرمية المهامّ والمناصب داخل العائلة الملكية؛ أو أنّ الصفحة تُقلب فقط، في انتظار تطورات أخرى، تجعل قرار الإعفاء الراهن أقرب إلى منح الأمير
استراحة محارب، بناء على طلبه فعلاً. الثابت أنّ حامل لقب ‘بندر بوش’، الذي اختارته للأمير كواليس الصحف الأمريكية، يغادر المشهد السياسي السعودي، والإقليمي أيضاً، دون أن يحظى بلقب ‘بندر أوباما’؛ وأنّ العديد من ذرى ما سُمّيت ‘العلاقة الخاصة’ بين السعودية والولايات المتحدة، والتي سهر بندر على تشييدها يوماً بعد آخر، تحتجب اليوم خلف ضباب كثيف من اختلاف التقديرات بين واشنطن والرياض. وتلك علاقة كانت سيرورة ارتهان من جانب المملكة، للسياسات الأمريكية عموماً، على نطاق كوني ظلّ دائماً يتجاوز المشكلات المحلية أو الإقليمية؛ من الإنفاق على الانتخابات البلدية الإيطالية لكي لا ينجح الشيوعيون، إلى الدور السعودي المركزي في تقديم الأرض والقواعد العسكرية لتحالف ‘حفر الباطن’، ثمّ غزو العراق لاحقاً. ولهذا فإنّ تلك السيرورة خلقت وقائعها وظواهرها الرديفة أو المكمّلة، ولم تأتِ دائماً برياح تلائم سفائن آل سعود.
الثابت، أيضاً، على الصعيد السوري، أنّ غياب بندر سوف يحرم ‘الممانعين’ و’المقاومين’ من تشكيلة ‘التهم البندرية’ التي كانت تُشهر ضدّ الانتفاضة السورية؛ في رأسها ذلك السخف القائل بأنّ المال السعودي، في عهود بندر تحديداً، كان يساوي بين الإسلامي السوري وشقيقه العلماني السوري، سواء في تضميد جرح أو في منح بندقية؛ أو ذاك السخف، الآخر، الذي افترض أنّ السعودية يمكن أن تسلّح عناصر ‘القاعدة’ في سوريا، وتسهر على مكافحتهم في أرجاء المملكة ذاتها. هذا إذا وضع المرء جانباً ذلك الاتهام الأسخف، والأشدّ بذاءة: أنّ بندر هو الذي زوّد ‘العصاة السوريين’ بأسلحة كانت وراء الهجمات الكيماوية على الغوطة، أواخر آب (أغسطس) الماضي.
وهذا، أيضاً وأيضاً، إلى جانب مرارة الناشطين المعارضين، إذْ يهتفون: يا ويلنا! مَنْ سيدفع رواتبنا!
(القدس العربي)