كتب فاروق شوشة: هذا موضوع تدفعنى إليه ذكريات طلب العلم فى كلية التربية حين كان أستاذنا العالم الجليل شيخ التربويين الدكتور حامد عمار يدرِّس لنا أصول التربية، مواصلاً تقديم مشروعه التربوى فى التربية والتعليم والثقافة وحاملاً مشعل التجديد التربوى الثقافي.
فى ذلك الوقت البعيد من خواتيم الخمسينيات كان الدكتور عمار يحدِّثنا عن نموذجين للمواطنة فى بلدين قديمين هما أثينا وإسبرطة، وكيف كان هذان النموذجان ممثِّلَيْن للواقع الاجتماعى والحضاري، والمثال المنشود للمحاكاة والتقليد.
كنا نحلِّق معه وهو يعرض النمط الثقافى للمواطن الأثيني، فى بلد الحكمة والفلسفة والتأمُّل، وحرية العقل والفكر، والغوص فى أعماق الأشياء بحثًا عن ظواهرها وأسبابها البعيدة. وكان هذا النمط الثقافى cultural pattern يستهوينا ونحن فى السن التى يولع فيها الإنسان بالمثاليات، وفكرة المثل الأعلى، وتشدُّه نزعات العقل والروح بأكثر مما تستهويه الماديات وعناصر الواقع المتشابكة.
فى مقابل النمط الأثينى للمواطنة، كان هناك النمط الإسبرطي، المعبِّر عن مجتمع الحرب وثقافة القوة، مثله الأعلى فى قادته وفرسانه وأبطال فتوحاته ومعاركه. وبين النمطين الأثينى والإسبرطى كثيرًا ما كان مجال الكلام يتسع لتساؤلات عدة، ومناقشات فرعية كثيرة، وبخاصة حين يلفت أستاذنا الكبير نظرنا إلى تأمُّل الواقع الذى نعيش فيه، واستكشاف طبيعة النمط الثقافى والحضارى الذى يسود فى بيئتنا المصرية، ونحن فى العقود الأخيرة من خمسينيات القرن الماضي.
وسرعان ما أصبح هذا الأمر أكبر من مجرد لفت نظر، فقد تحوّل إلى تكليف لنا فى البحث الميداني، بكل متطلباته من استطلاعات رأى واختبارات منهجية واستقراء لظواهر الواقع فى إيجابياته وسلبياته، ومناقشة لكثير من الفروض والاحتمالات. وكم كانت دهشتنا - فى ختام هذا البحث الميدانى - حين خرجنا بنتيجة واحدة، هى أن نمط
الشخصية المصرية يدور حول مفهوم «الفلهوي»، الذى يعتمد على الذكاء والحيلة وخفَّة الظل وحضور النكتة فى الوصول إلى مآربه، وعندما بدأنا نبحث فى كلمة «الفهلوي» وجدنا أنها كلمة فارسية الأصل، وأن صورتها فى الفارسية پهلوى بالباء الثقيلة، ومعانيها ودلالتها هى نفسها التى انتقلت معها إلى العربية. وبدأنا نتأمَّل الواقع من حولنا، وخريطته السياسية والاجتماعية والثقافية، نتوقَّف عند كل فهلوى استطاع أن يأكل الجوّ وأن يسبق غيره من المستحقين فى الجهد والعطاء والمكانة، وسرعان ما اكتشفنا أن «الفهلوي» صفة لاصقة بكثير ممن أصبحوا وزراء ورؤساء جامعات ومسئولين كبارًا عن هيئات ومؤسسات، وكانت كل مواهبهم تتركَّز وتدور حول صفات «الفهلوي» التى مكَّنتهم من القفز على ما ليس لهم، وما لا يستحقونه، من جاه أو شهرة أو مال أو منصب أو مكانة.
ودارت السنون، وباعدت ما بيننا - نحن مريدى حامد عمار وطلبته - والرجل الذى دارت حياته فى دوائر واسعة، خبيرًا دوليًّا مرموقًا فى التربية الأساسية، واليونسكو، وأصول التربية، وبرامجها، فى أماكن شتَّى من العالم العربي، يبذر بذور حكمته وعلمه فى كل أرض تطؤها قدمه، ويهَب من حوله من سعة أفقه ورجاحة رأيه وعمق مناهجه يهيئهم لتبوؤ مناصبهم ومسئولياتهم المستقبلية. وظل هو لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، فكرًا تربويًّا متجدِّدًا، وقلمًا مُشْهرًا على التخلًّف والفساد وتراخى العقل والفكر، وهو يرى اختلال الأولويات فى قضايا الإصلاح التربوي، والتربية فى عالم ما بعد الحداثة، واختفاء جامعاتنا من قوائم التميُّز، وإيقاف نزيف التردِّى فى التعليم العالى أولاً، والالتفاف الماكر حول مجانية التعليم، وأزمة النشر فى المجلات العلمية التربوية. يعرض لهذا كله وغيره كثير بفكر شابٍّ متجدِّد وعقلية متفتحة، وحسٍّ وطنيٍّ أصيل، ونقد بناء يهتم بالحلول ويقدم البدائل.
حتى التقينا ذات مرة - فى إطار البرنامج التليفزيونى الأمسية الثقافية - وحين ذكّرته بالبحث القديم عن نمط الشخصية المصرية، وهل ما زالت كلمة الفهلوى صالحة للتعبير عن العصر، انتفض غاضبًا وهو يؤكد أن «الفهلوي» كان يمتلك بعض الذكاء وبعض خفَّة الظل والحيلة، أما الآن فقد وقعنا فى قبضة «الهبّاش» الذى يخطف كل شيء، ويبتلع كل شيء، كل أرض فضاء تحرّضه على
الهبش والسرقة ووضع اليد، كل شبر فى الصحراء يخايله ليجعل منه مستعمرة ومنتجعًا يُدرّ عليه الملايين، كل الصفقات المشبوهة يقوم بها جهارًا وتودع تحويلاتها فى بنوك خارج مصر، التهريب شعاره، وخيانة الوطن ديْدنه، والإيغال فى أحشاء مصر تمزيقًا وتقطيعًا هوايته. وحين انتقلنا إلى الحديث عن «التعليم» راح يشير إلى بعض المستثمرين فى مجال التعليم وعينهم على الكسب الفاحش والثراء السريع وتحقيق أقصى قدر من الأرباح، سواء كان ما يبتنونه رياضًا للأطفال مصروفاتها بالألوف، أو جامعات خاصة مصروفاتها بعشرات الألوف. وبين روضة الأطفال والجامعة ينتشر هؤلاء «الهبّاشون» فى كل ربوع مصر، عيونهم على الغنيمة التى سيسقطون عليها، وقلوبهم يحرّكها حساب الأرباح والعائد الذى سيدر عليهم الملايين.
قلت: هذا فى قطاع واحد هو قطاع التعليم، فماذا عن بقية قطاعات المجتمع. قال: أخشى ما أخشاه ألا نعطى لهذا الوباء الفاتك ما يتطلبه من حسم ومسئولية، ونحن نتجه إلى بناء المستقبل. إن هؤلاء الذين ينخرون فى بنية المجتمع، وينهبون أمواله بدون حق، ويستولون بمنطق «الهبّاشين» على الأخضر واليابس، هم أعداء هذا المستقبل، وهم الذين يريدون أن يعيشوا على فساد منظومة التعليم فى مصر - على سبيل المثال - ليصنعوا منظومتهم الفاسدة والمفسدة، والذين يخوضون أعتى القضايا مسلّحين بذخيرة ضخمة من أصفيائهم القانونيين لإنقاذهم من الوقوع فى شرك الفساد والخيانة، ويظلون يخرجون ألسنتهم للدولة وللناس معًا، مؤكِّدين أن الدولة العميقة فى جيوبهم، وأن ما يمارسونه مستمر بلا نهاية.
وودعت أستاذى الكبير، بعد حوار ساخن عن الفهلوى والهبّاش، وعن نمط المواطنة المصرية الذى أُطالعه الآن، بعد ثورتى 25 يناير وثلاثين يونيو، وعما يحمله مستقبل مصر القادم من نُذُرٍ وعلامات.
(الأهرام)