كتب عبد الوهاب بدر خان: الرسالة التي تلقتها روسيا وإيران والنظام السوري لم تتضمّن تهديداً بعمل عسكري غربي في سورية، كما تكهّن رئيس هيئة الأركان في القوات الروسية فاليري غيراسيموف، بل كانت واضحة في أن الدول الغربية لم تقبل
الانتخابات الرئاسية في ظل القتل والقتال ولن تأخذ بنتيجتها كأمر واقع، وبالتالي فإن أي حل سياسي لا يمكن أن يبنى عليها، ومتى وجد هذا الحل فإن بشار
الأسد لن يكون جزءاً منه.
وفي حدود ما بات معروفاً من تطورات الأزمة الأوكرانية، فإن ديبلوماسية التأزيم التي اتّبعها فلاديمير بوتين لم تتمكّن من فرض منطق التقسيم. كانت مجدية طالما أن هناك من هو مستعد للمساومة معه، أما وقد وجد نفسه وسط قطيعة غربية، فإن المساومة توقفت بدورها، ولم يعد لديه سوى تحريك جيشه لتحصيل ما يريده بالقوة. لا يزال هذا الخيار متاحاً أمامه، غير أنه يورّطه في أزمة ليس أكيداً حتى الآن أنه يسعى إليها. كيف يمكن أن تؤثر نتائج أوكرانيا في سورية؟ هذا ما سيتضح أكثر خلال المرحلة المقبلة، فقد تكون المكان الذي تثأر فيه روسيا بدفع النظام إلى التصعيد، أو ربما يحصل العكس بالتشجيع على العودة إلى مسار جنيف مع بعض التعديلات. لكن، هل حسابات روسيا ستتطابق دائماً مع حسابات إيران الغارقة في المفاوضات النووية وفي عدَّين عكسيَين: أولهما إيجابي لرفع العقوبات، والآخر سلبي للموافقة على محدودية برنامجها النووي؟
ماذا يعني التصعيد في حال ترجيحه؟ أن تضاعف إيران القوات التي تستقدمها من هنا وهناك لخوض معارك واسعة واسترجاع كل المناطق السورية. لكن موسكو وطهران مدركتان أنه لا يمكن فرض «حل سياسي» بالقوة، وأن النظام لم يعد مؤهلاً في حد ذاته للاستمرار، وبالتالي فإن «الانتصارات» التي حققها له الإيرانيون وأتباعهم وفّرت لهما أوراقاً للمساومة، غير أنهما لا يجدان حالياً شركاء لهذه المساومة. نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أبلغ أخيراً أعضاء قياديين في «الائتلاف» السوري المعارض التقاهم على هامش القمة العربية في الكويت، أن موسكو ترغب في أن تُستأنَف مفاوضات جنيف، لكن واشنطن لم تعد تردّ على رسائلها، وبدا أنه يحضّ «الائتلافيين» على إثارة الموضوع خلال زيارة وفدهم واشنطن، وإذ لم يمانعوا فإنهم سألوه عن مصير الانتخابات الرئاسية وعن «ضمانات» مسبقة بأن النظام بات موافقاً على البحث في «هيئة انتقالية» للحكم.
وفيما تُمَهّد السبل للشروع في التفاوض الإيراني - السعودي تكثر التساؤلات أولاً عن كيفية إحراز تقدّم فيه إذا كانت إيران تنوي استكمال السيطرة العسكرية في سورية، وأيضاً عما يمكن أن تقدمه وعن الثمن الذي تطلبه في المقابل... وأين تريده، في لبنان أم في العراق أم في الخليج؟ انبرت طهران مجدداً إلى تذكير الأطراف الدولية بضرورة التحدّث معها في شأن سورية، إذ أثار رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاء الدين بروجردي، في لقاء مع السفراء العرب والأجانب، نقطتين: الانتخابات الرئاسية التي قال إنها من «العوامل الفاعلة والمؤثرة في إعادة الأمن والاستقرار»، وضرورة تضافر كل الجهود «لمواجهة الإرهاب». واعتبرت الناطقة باسم الخارجية الإيرانية مرضية أفخم أن «تنظيم الانتخابات سيلعب دوراً كبيراً من أجل حل الأزمة سياسياً»، وأنه «فرصة لاستعادة الاستقرار» في سورية.
حتى النظام لا يروّج لانتخاباته باعتبارها وسيلةً لـ «الاستقرار»، وإنما عنواناً لبقائه، فيما يتفق خصومه جميعاً على أن الحرب لن توقف ما دام الأسد في الحكم. أما طهران فلا تشرح كيف سيستعاد «الاستقرار» لكنها تلوّح بأنها تملك الطريقة. فمن النقاط التي يتجدّد طرحها، وتحظى بنوع من عدم الممانعة أميركياً، أن يُعتمد مبدأ القبول باستمرار النظام في مرحلة أولى «من دون الأسد» لكن بوجود
بديل «عَلوي» قادر على طمأنة الطائفة من جهة وإيران من جهة أخرى فضلاً عن روسيا.
صحيح أن الفكرة قديمة، لكن اللافت أن إصرار الأسد على الانتخابات هو ما أعاد إطلاقها، أي أن «إعادة انتخابه» تتزامن عملياً مع «البحث عن بدائل» مع التسليم بأن إيران لا روسيا هي الجهة التي تستطيع صنع هذا «الحل» على أن يبدأ بتقديم التنازل الذي يرضي المعارضة ثم يُستكمل بترتيبات العملية الانتقالية.
طُرح هذا «التنازل» في بعض الدوائر ولا يزال افتراضياً، لأن التفاوض لم يبدأ فعلياً بعد، لكن ما ساهم في إبرازه أن الطرفين (النظام وحلفاؤه، والمعارضة مع «أصدقائها») بلغا نقطة اللاعودة، فانهيار مساعي الحل السياسي وتقدّم النظام ميدانياً وضعا الأميركيين وحلفاءهم أمام ضرورة إعادة تأهيل النظام والاستعداد للتعاون معه، وهذا خيار لم يعد ممكناً ويرفضونه تماماً، لذلك أعادوا حساباتهم على أساس أن الحرب هي الخيار الوحيد وتحتّم عليهم إجراء تغيير جذري في الطريقة التي أداروا بها الأزمة حتى الآن. لذلك، أُعيد النظر في مسألة التسليح، وحُسم الجدل حول «ضوابطه»، وطُلب من الدول الإقليمية كافة أن تعالج خلافاتها وتناقضاتها ليكون التنسيق في ما بينها أكثر فاعلية وأكثر شفافيةً على الأرض. وقد انعكس ذلك في تحركات مفاجئة للفصائل الإسلامية التي تواصل السعي إلى توحيد صفوفها، وصولاً إلى دمجها، بعدما أُحيط قادتها علماً بألا يعوّلوا بعد الآن على الانسياب نفسه للتمويل والتسليح. وبموازاة هذا التحرك استشعرت «جبهة النصرة» مزيداً من الضغوط عليها كي تحسم وجهتها بعدما تأكد تناقضها مع تنظيم «داعش» أما انتماؤها لـ «القاعدة» فسيضطر فصائل المعارضة الأخرى لعدم التعاون معها في المرحلة المقبلة.
بطبيعة الحال سينعكس التغيير الحاصل على «الائتلاف» الذي سينتخب قيادة جديدة مطلع تموز (يوليو) المقبل، وللمرة الأولى لا يُتوقّع تنافس بين «مجموعة السعودية» و «مجموعة قطر»، لأن التناقض هنا حُسم أيضاً لمصلحة تنسيق تديره السعودية. وفيما تُجرى مداولات لاختيار رئيس «الائتلاف»، يلاحظ أن الدول الكبرى الداعمة تريد حالياً رفع درجة الاعتماد على «الحكومة الموقتة» وزيادة مواردها كمؤشر من جهة إلى الاستعداد لأزمة طويلة، ومن جهة أخرى إلى رغبة هذه الدول في تعزيز الاتصال المباشر مع الداخل. لكن العمل الأهم في الأسابيع المقبلة سينصبّ على إعادة تشكيل هيئة أركان «الجيش الحر» وتمتين ارتباط المجالس العسكرية بها، فضلاً عن تنظيم العلاقة وتوضيحها بين هذا الجيش و «الائتلاف». ولعل احتدام المعارك في الكثير من الجبهات يشير إلى استشعار النظام وحلفائه بضرورة استباق التطورات الجارية قبل اكتمال عناصرها، إذ جرى أخيراً تنشيط جبهتي حلب ودرعا وسجّل فيهما ظهور مقاتلين من أتباع إيران، كما أوعز إلى عناصر «داعش» تكثيف الضغط على دير الزور وإلى عناصر «حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» تأكيد سيطرته على القامشلي ومنع الأحزاب الأخرى من الحراك، وفي الوقت نفسه زيد التصعيد في الغوطة كما في إدلب وحماة...
يستكمل النظام الاستعدادات للانتخابات الرئاسية ظناً منه أنها تتويج لـ «انتصاراته» فيما يكتشف أنها قد تكون الغلطة التي من شأنها تغيير مجرى الأزمة. لم يكن في حاجة إلى مَن يشرح له أن الانتصار يكون حقيقياً لو نجح في إعادة مهجّر واحد إلى أي بلدة استعاد السيطرة عليها، ثم إن أحداً لا ينظّم انتخابات بعد أن عمل على تشريد نصف الشعب وتسبّب بكل هذا الدمار.
(الحياة اللندنية)