كتب سعيد الشهابي: بعيدا عن الإنجازات الميدانية أو الخسائر في المعارك الطاحنة في شمال العراق وغربه، يجد المراقبون صعوبة في استيعاب أبعاد المشهد السياسي والأيديولوجي الذي يؤطر المشروع
الداعشي الذي فاجأ الجميع بجرأته في المبادرات العسكرية وقدرته على تجاوز العقبات التي تتحداه. ولم تشهد المنطقة مسارا مماثلا إلا في عهد صدام حسين الذي كان يمتلك زمام المبادرة ويفاجئ خصومه بما ليس في حسبانهم. فجرأة الرئيس العراقي السابق كانت من مميزات شخصيته. فمن كان يملك الشجاعة مثلا لإعدام مرجع ديني كبير كالسيد محمد باقر الصدر في 1980؟
ومن كان يتخيل ان صدام حسين سيعبر الحدود الدولية ليبدأ حربا مع ايران استمرت ثمانية اعوام؟ وأي زعيم آخر يستطيع التعامل مع «اصدقائه» اعضاء حزب البعث، بل مع اقاربه (مثل حسين كامل وصدام كامل) بالطريقة التي تعامل بها صدام حسين؟ وهل هناك زعيم يوجه جيشه لبلد دعمته طوال حرب السنوات الثماني، غير صدام حسين؟ وما يفعله ابوبكر البغدادي، زعيم مشروع «الدولة الاسلامية في العراق والشام» التي اصبحت تختصر بـ «داعش» يشبه كثيرا ممارسات صدام حسين، بل تفوق عليه في الممارسات التي تميزت بالقسوة غير المسبوقة. ولذلك استطاع البغدادي، المتواري عن الانظار، ادخال الرعب في قلوب اعدائه وحلفائه على حد السواء. فأتباعه لم يترددوا في اعدام حلفاء الامس من مقاتلي جبهة النصرة، كما يفعلون مع من هم في خانة الاعداء من قوات الدولة العراقية او المسلمين الشيعة. من هنا اصبح هناك من يتحدث عن صعود نجم البغدادي عاليا في فضاءات «
القاعدة» بدون منازع. واصبح حلفاؤه يروجون له بديلا لأسامة بن لادن، متجاوزين بذلك قيادة أيمن الظواهري الذي ما يزال يعتبر الزعيم الرسمي لتنظيم «القاعدة». فحين طلب الظواهري من البغدادي حصر نشاط داعش داخل العراق وترك الشأن السوري لجبهة النصرة بزعامة أبي محمد الجولاني، رفض الانصياع لذلك وواصل نشاط مجموعته داخل الاراضي السورية. وفيما تكبدت جبهة النصرة وحلفاؤها في الجبهة الاسلامية خسائر كبيرة على ايدي الجيش السوري وحلفائه، بقيت مناطق نفوذ البغدادي في الرقة ودور الزور في الشمال الشرقي من سوريا، خارج سيطرة الجيش.
مشهد جديد اذن يتبلور تدريجيا في المنطقة المكونة من الشمال الشرقي لسوريا والشمال الغربي للعراق، بزعامة داعش وزعيمها ابي بكر البغدادي. وجاءت العمليات الاخيرة بشن هجوم صاعق على مناطق الشمال العراقي لتخلق مناخا جديدا محيرا للجميع. وقد لا تستطيع الحركة الاحتفاظ بالموصل او المناطق الاخرى التي وقعت بايديها، ولكن التجربة نفسها كانت ضربة موجعة للحكومة العراقية بعد ان استسلمت قطاعات الجيش في الموصل بشكل مهين. ولكنها كانت كذلك ضربة لتيار تنظيم القاعدة الذي اصبح مجبرا على اعادة النظر في سياسات مؤسس التنظيم، اسامة بن لادن نفسه. لقد رسم بن لادن استراتيجيته مفترضا ان الولايات المتحدة الامريكية هي المعوق الاساس لتحرر العالم الاسلامي، وان مشروع تحرير الامة وانهاضها واقامة الكيان الاسلامي يتطلب استهداف امريكا بالعمل المسلح.
وحدثت اعمال ارهابية عديدة بلغت ذروتها بحوادث 11 سبتمبر. ومن جانبها اعتبرت الولايات المتحدة تنظيم القاعدة وزعيمه بن لادن عدوها الاول، وصاغت سياساتها الامنية على اساس استهداف القاعدة ورموزها في كافة البلدان. وشهد العقد الماضي واحدة من اشد الحقب الزمنية شراسة من حيث سعة الاستهداف واساليبه التي لم توفر شيئا، ابتداء بالاعتقالات الجماعية والسجون الخفية والرحلات الجوية السرية والاغتيالات واستخدام طائرات «درون» بمعدلات غير مسبوقة في دول شتى.
وكان من نتيجة هذه السياسة عزل بن لادن في متاهات افغانستان، ثم قتله. وربما الاهم من ذلك ان الولايات المتحدة استطاعت عزل قيادات القاعدة عن بقية الجسد، الامر الذي ادى تدريجيا لاضعافها. وبلغ الامر ذورته في السنوات الاخيرة حيث بدأت مجموعات قاعدية بالتمرد على القيادة المركزية، واصبح ايمن الظواهري قائدا بدون صلاحيات تذكر. وظهر البغدادي ليس منافسا للظواهري فحسب، بل قطبا يجذب العناصر الناشطة من كافة اقطار العالم لمشروع «الجهاد» الجديد الموجه ضد «اعداء» ليس الغرب واحدا منها. جاء ذلك بعد ان ساهمت تعقيدات ثورات «الربيع العربي» في إعادة صياغة العقل العربي ليقبل التطبيع السياسي والفكري مع امريكا.
التحول في اولويات القاعدة تجسد بشكل واضح في سوريا والعراق. ويمكن ملاحظة هذا التحول في عدد من الامور: اولها ان اهداف هذه التنظيمات التي تفرعت عن التنظيم الام اصبحت ذات اهتمامات محلية بشكل واضح. ثانيها: ان الخطاب ابتعد عن استهداف امريكا او اعتبارها العدو الاول للامة، وربما حدثت محاولات لاسترضائها او طلب دعمها ضد نظام بشار الاسد بعد تجربة التدخل الامريكي ضد نظام القذافي في ليبيا. ثالثا: ان هذا الخطاب اختلف بشكل ملحوظ، فحل المسلمون الشيعة محل امريكا كهدف للتنظيم الذي استهدف المنتمين لذلك المذهب في ارواحهم ومساجدهم ومقدساتهم واستبيحت دماؤهم بشكل ليس له نظير في التاريخ الحديث. رابعها: ان الفقه السياسي الذي اعتمدته تنظيمات القاعدة التي تصرفت بعيدا عن القيادة المركزية اصبح اكثر توسعا في استهداف المخالفين ضمن الدائرة الاسلامية، فاستهدفت قبور الصحابة في سوريا والعراق، واضرحة الاولياء في مصر ومالي وليبيا، وتم اعادة توجيه الخطاب الاسلامي باتجاه معاكس تماما للخطاب القاعدي الذي كان يتحدث عن الامة ويعتبر الغرب خصوصا امريكا «عدوة» للمسلمين. خامسا: ان تحرير فلسطين الذي كان محوريا في خطاب الحركات الاسلامية منذ النكبة لم يعد اولوية لدى تنظيمات «القاعدة» الجديدة، بل استبدل ذلك بمقولات غرست في النفوس ثقافة جديدة مخلتفة من نوع: الشيعة اخطر من اليهود والنصارى، الامر الذي ترتب عليه تخفيف الضغط الخارجي على الكيان الاسرائيلي. سادسا: ان الشعار الذي استخدم لتعبئة الرأي العام في المناطق التي تتواجد فيها المجموعمات المقاتلة ينطلق اليوم على اساس الانتماء المذهبي، ولم يعد «الاسلام» اطارا جامعا للمسلمين جميعا، كما لم تعد مقولات «الامة» و»المشروع الاسلامي» و»تحرير فلسطين» و»الوحدة الاسلامية» ذات اهمية لدى المجموعات المقاتلة.
سابعا: اصبح التركيز على الشكليات اهم من الا هتمام بمضمون المشروع الاسلامي البديل، كما تطرحه حركات الاسلام السياسي، فاطلاق اللحى وارتداء الثوب القصير والعمامة والسواك وفرض نمط التعامل الذي تمارسه هيئات الامر بالمعروف والنهي عن المنكر السعودية، كل ذلك اصبح واضحا للعيان. ثامنا: ان حركات الاسلام السياسي فقدت المبادرة، واصبح الكثير من كوادرها منسجمين مع الطرح السياسي الداعشي.
الموضوع هنا ليس اصدار احكام بصحة الممارسة او خطئها، بقدر ما هو توصيف لواقع يمثل تحديا جديدا للامة، وبشكل خاص للحركات الاسلامية التقليدية. فالواضح ان التطورات والعلاقات وخطط الثورة المضادة واساليب التصدي للمشروع الاسلامي، تجاوزت الفرضيات التي تتبناها تلك الحركات. كما اصبح واضحا ان واقعا جديدا اصبح يفرض نفسه على العلاقات والمواقف الدولية فازاء مجموعات العنف رشح حتى الآن موقفان متميزان: اولهما جاء على لسان الرئيس الامريكي مؤخرا عندما برر صفقة اطلاق سراح خمسة سجناء من اعضاء حركة طالبان في مقابل اطلاق الحركة سراح جندي امريكي. فقد ألمح الى ان امريكا لا تسعى لمواجهة من لا يتصدى لها. وحيث ان داعش لا تستهدف الامريكيين فان واشنطن لن تستهدفها. ثانيهما: ان ايران هي الاخرى ادركت انها الهدف المقبل لمن تسميهم «ادوات الاستكبار»، وقررت التصدي لهم بحزم، الامر الذي يعني انها ستواجه هذه المجموعات اينما استطاعت خصوصا بعد تجربتها الخاصة في جنوب شرقي البلاد او العراق او سوريا. وكما ان المجموعات المسلحة في العراق وسوريا اصبحت بديلا لتنظيم «القاعدة» وما يعنيه ذلك من تغير في التوجهات والاهداف، فان «الاسلام الجهادي» يطرح نفسه بديلا عن «الاسلام السياسي»، ويسعى هو الآخر لتهميش الحركات الاسلامية التقليدية كالاخوان المسلمين. وهنا تفتعل حوادث كبيرة لتوفر اجواء اسدال الستار على المؤامرة الكبرى المتمثلة في الانقلاب المتعدد الاطراف على ثورات الربيع العربي وافشالها. وعلى المستوى المنظور قد تستطيع المجموعات المسلحة في العراق وسوريا استقطاب الاضواء وتهميش ما سواها من الحركات والتوجهات ذات التوجه الاسلامي، ولكن المتوقع ان تصحو الامة مجددا على واقع أشد إيلاما، لتكتشف ضرورة التصدي للفكر المتطرف والمجموعات الارهابية وتستعيد زمام المبادرة على طريق التغيير المنشود. فما تطالب به المجموعات الاسلامية التقليدية التي يقبع شبابها في السجون، يمثل نظاما مدنيا عصريا يستمد من الاسلام قيمه وحدوده، ويوفر الحرية للناس بدون اكراه او تشدد او عصبية. لقد اصبح البديل لها مجموعات مسلحة تمارس العنف بدون حدود وتسعى لفرض منظورها الاسلامي بالقوة.
النقاش الفكري بين النخب المثقفة سيصطدم بحقائق الواقع ويحرج الكثيرين من الذين يؤطرون مواقفهم بالمشاعر الدينية والمذهبية. لقد اصبح عليهم ان يجيبوا على الكثير من التساؤلات: هل تصلح داعش ان تكون مدافعا عن «الحق السني»؟ هل حقا انها تسعى لتكوين دولة تشمل الاردن وفلسطين ولبنان وسوريا والعراق والكويت؟ ما موقف حكام هذه الدول؟ هل ستقبل السعودية بحكم داعش وهي التي رفضت حكم الاخوان المسلمين وشاركت عمليا في الانقلاب ضدهم؟ وحيث ان فلسطين لا تبدو واضحة على خريطة اولويات «داعش» هل تتكرر مقولة ان «تحرير القدس يمر عبر بغداد ودمشق؟ ما دور نظام حزب البعث في ما يجري؟ خصوصا ان رغد صدام حسين عبرت عن سعادتها بما يجري قائلة انها «فرحانة بمقاتلي الوالد وبانتصارات «عمي» عزت ابراهيم»، واخيرا: هل ينتفض الغرب فجأة ويساعد العراق حقا ضد تمدد المجموعات التي طالما وصفت بالارهاب؟ الامر المؤكد في نظر النشطاء الاسلاميين ان التغيير باتجاه الاسلام لا يتحقق بالعنف والارهاب، بل يتطلب اطروحة اسلامية شاملة تستوعب الآخرين وتتسم بالاعتدال وتوحد الامة وتتحاشى اراقة الدماء، وتحترم كرامة الانسان وقداسة وجوده الذي هو قبس من الفيض الالهي.
(القدس العربي)