منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وخطوات الدول الصاعدة تتوالى لتفادي سلبيات السياسات
الاقتصادية لأمريكا وأوروبا، كما تسعى الدول الصاعدة لتحقيق اصلاحات حقيقية في المؤسسات المالية الدولية، بما يزيل سيطرة أمريكا وأوروبا على إدارة هذه المؤسسات، وتوجيه سياساتها.
ففي خطوة لتفادي مخاطر الاعتماد على الدولار كعملة رئيسة لتسوية المعاملات الدولية، دخلت الصين بعد الأزمة المالية لعام 2008، في إجراء تسويات التجارة البينية مع جيرانها في المحيط الإقليمي على أساس العملات المحلية، كما تم توسيط اليوان كعملة في تلك العمليات، وهو ما جعل البعض يذهب إلى أن هذه الخطوة بمثابة تأهيل لطرح اليوان الصيني كعملة دولية على المدى المتوسط والطويل.
وهذه الخطوات وغيرها، تدعونا لأن نؤكد على أن ثمة ملامح جديدة لخريطة القوى الاقتصادية العالمية تظهر على الأرض، كما أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد يشهد ارهاصات صعود نجم الدول الصاعدة، وتعظيم دورها في مجريات هذا النظام.
ومؤخرًا أعلن ضمن قمة "بريكس" بالبرازيل (الأربعاء 16 يوليو/ تموز الجاري) عن توقيع اتفاقية بإنشاء كيانين ماليين موازيين للبنك والصندوق الدوليين، الأول بنك للتنمية برأس مال مبدئي 50 مليار دولار، تمثل كل دولة فيه بحصة قدرها 10 مليار دولار، ويستهدف هذا البنك زيادة القروض الممنوحة للدول النامية لمساعدتها في تنفيذ مشاريع البنى التحتية، ومن المقرر أن يبدأ البنك في تقديم قروضه في عام 2016.
أما المؤسسة الثانية فهي "صندوق الطوارئ أو الأزمات" ويبلغ رأس ماله 100 مليار دولار، تتحمل الصين منه 41 مليار دولار، و18 مليار دولار لكل من الهند والبرازيل وروسيا، أم جنوب افريقيا فحصتها 5 مليارات دولار. وقد أعلنت "بريكس" مجموعة من الأهداف لهذا الصندوق، منها تجنب ضغوط السيولة قصيرة الأجل، ودعم التعاون بين دول "بريكس" وتعزيز شبكة الأمان المالية العالمية.
والجدير بالذكر أن "بريكس" قد أعلنت عن عزمها إنشاء هذه المؤسسات خلال اجتماعاتها المتعددة لوزراء المالية في عام 2013، سواء في روسيا أو جنوب أفريقيا، مما يضفي على إعلان اتفاقية هذه المؤسسات في يوليو 2014، قدر من المصداقية ودراسة الدول الأعضاء للأثار المترتبة على هذا القرار.
ولا شك أن توقيع اتفاقية إنشاء هذه المؤسسات من قبل "بريكس" يعكس مجموعة من الدلالات السياسية والاقتصادية، على الصعيد العالمي، كما يدعونا لأن نقرأ أثر هذه الاتفاقية على الوضع الإقليمي، وإمكانية استفادة منطقة الشرق الأوسط منها. وفيما يلي نتناول هذه الدلالات والآثار.
مواجهة النفوذ الغربي الأمريكي
يمكننا قراءة هذه الدلالة من عدة أوجه، أولها تقليل أثر آلية العقوبات الاقتصادية التي تستخدم من قبل الغرب وأمريكا في العديد من القضايا السياسية، والتي كان آخرها فرض عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب موقفها من أوكرانيا. وبين باقي دول "بريكس" وأوروبا وأمريكا، العديد من الملفات السياسية الباردة، ولكنها قد تحسم في توقيت ما، فتفقد أمريكا والغرب في ظل وجود المؤسسات الجديدة لـ "بريكس" الـتأثير أو التلويح بورقة العقوبات الاقتصادية.
والملاحظ أن روسيا بادرت بالخروج من وطأة العقوبات الاقتصادية الغربية، بالضغط باستخدام ورقة تصدير الغاز، ومن ثم أعلنت عن عزمها تصدير الغاز إلى الصين، كبديل عن أوروبا، وهو ما جعل مسئولين غربيين يطلقون بعض التصريحات، مثل "يجب ألا تستخدم الطاقة في أغراض سياسية". وخطوة روسيا تعد بمثابة نوع من توطيد العلاقة ووجود جبهة تستطيع أن تواجه الغرب وأمريكا، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي.
الأمر الثاني على الصعيد الاقتصادي، فإن أمريكا أعلنت قبل عدة شهور عن عزمها تقليص برنامجها للتحفيز الاقتصادي، والذي أثر بشكل كبير على عملات كافة دول "بريكس" بسبب سحب الاستثمارات الأمريكية من هذه الدول، بغية الاستفادة المستثمرين من ارتفاع سعر صرف الدولار مستقبلًا.
ومن جانب آخر، فإن مؤسستي البنك والصندوق الدوليين، لم تجر بهما أية اصلاحات في نظم إدارة مجالسها، بما يسمح بدور للدول النامية، وكذلك على صعيد السياسات المتبعة بهذه المؤسسات، وقد يسمح إنشاء مؤسسات "بريكس" المالية بجذب العديد من الدول النامية، مما يشكل ورقة ضغط حقيقية للاصلاح وتمثيل الدول النامية في مجالس إدارة البنك والصندوق الدوليين بصورة عادلة.
غياب عربي
شأن العديد من المناسبات التي سمحت لأن يكون هناك تكتل عربي يسمح للدول العربية بمارسة دور على الساحة العالمية، وفي نفس الوقت يقلل من مخاطر وجود هذه الكيانات العملاقة على كل دولة على حدة، فإن انضمام الدول العربية مستقبلًا للمؤسسات المالية لـ "بريكس" سيكون ضعيفًا إذا ما اتخذ العرب القرار بشكل قطري، وليس من خلال تكتل إقليمي.
فعلى سبيل المثال سارعت الدول العربية لعضوية منظمة التجارة العالمية فردى، مما أضعف موقف العديد من الدول عن انضمامها فيما بعد، بينما مثل الاتحاد الأوروبي ككيان إقليمي، مما حافظ على العديد من المزايا لصالح دوله الضعيفة. كما أن اتفاقية المشاركة الأورومتوسطية، تمت بنفس الشكل. فالاتحاد الأوروبي ككيان واحد، ويوقع اتفاقيات الشراكة مع كل دولة على حدة، مما عظم من فرص الاتحاد الأوروبي، واصطياد الدول العربية كفريسة.
فاقتصاد الدول العربية متباين من حيث الإمكانات الاقتصادية، وإن كانت كافة الدول العربية في إطار تصنيف الدول النامية، ولا شك أن وجود تكتل عربي، سوف يحفاظ على مزايا لصالح دول العجز والفقر العربي.
وعلى الدول العربية ان تقرأ المستقبل جيدًا، حتى لا تخسر كافة الأوراق في ظل ارتمائها في أحضان الغرب وأمريكا، وبخاصة فيما يتعلق باستثماراتها المتراكمة هناك، وبخاصة أن دافة الصادرات النفطية العربية بدأت تشهد نوعًا من التغير لصالح الدول الصاعدة.
فرصة لتركيا
تمثل اتفاقية إنشاء المؤسسات المالية لـ "بريكس" فرصة لصالح
تركيا، سواء في الانضمام لعضوية هذه المجموعة، واقتصادها يؤهلها لذلك، كما أنها فرصة لكي تضغط على الاتحاد الأوروبي لنيل عضويته، حيث تسعر تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن دون جدوى، على الرغم من التحسن البادي على الاقتصاد التركي منذ عام 2002، وإقدام تركيا على تنفيذ غالبية شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي.
وأرجح أن تقوم تركيا بالانضمام لعضوية هذه المؤسسات، حيث إنها بادرت بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، باتخاذ خطوات مشابهة فيما يتعلق بتسويات التجارة الخارجية، عبر العملات المحلية مع دول الجوار المحيطة بها، بغية تخفيف مخاطر الاعتماد على الدولار كعملة رئيسة لتسوية المعاملات التجارية الدولية.
والملاحظ على السياسة الاقتصادية الدولية لتركيا، أنها تتفادى عيب تركز تعاملاتها مع دولة أو إقليم بعينه، فهي في ظل العقوبات الاقتصادية على إيران ، توسع من حجم تبادلها التجاري مع إيران ليصل لنحو 40 مليار دولار، كما أنها تحتفظ بقدر كبير من تعاملاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، وتتمدد العلاقات الاقتصادية التركية في أفريقيا كما هو شأن دول "بريكس". وهو الأمر الذي يزيد من ترجيحنا لانضمام تركيا قريبًا للمؤسسات المالية لـ "بريكس".
فرص النجاح
إن أهم ما يميز خطوات "بريكس"، أنها بعيدة عن العواطف والأيدلوجيات، وتعتمد على المصالح الاقتصادية المتبادلة، ولذلك يتوقع أن تشهد المنشآت المالية المزمع إنشاءها نجاحًا على أرض الواقع، وأن تمثل نوع من التوازن مع الحضور الأمريكي والغربي على صعيد خريطة القوى الاقتصادية الدولية.
كما لا يفوتنا أن "بريكس" تتخذ هذه الخطوة في ظل ظروف دولية اقتصادية مواتية لصالحها، فهي تمتلك وضع اقتصادي جيد، بينما أمريكا وأوروبا يعانيان من الآثار السلبية للازمات المالية المتوالية، وبالتالي سيكون أمام أمريكا والغرب خيارين لا ثالث لهما، أن يستجيبا لمطالب الدول النامية بإصلاح البنك والصندوق الدوليين، ويتنازلان عن سيطرتهما على مجالس الإدارة بهذه المؤسسات، أو إعطاء فرصة تاريخية لدول الجنوب بإيجاد مؤسسات موازية، قد تحظى بتأييد أكبر من قبل الدول النامية على مستوى العالم.
والأمر الآخر، أنه في إطار ما هو معلن، فإن كل من بنك التنمية وصندوق الطوارئ، لن يقصرا خدماتهما على أعضاء "بريكس"، ولكن سيفتح الباب لصالح الدول النامية، وهو ما سيجلب عضوية العديد من الدول النامية في ظل معاناتها التي امتدت لعقود مع البنك والصندوق الدوليين.