لم أجد
اليمنيين وأنا منهم في حالة من عدم اليقين بشأن حقيقة ما يدور في الحاضر وما ينتظرهم في المستقبل، كما هو الحال اليوم، وحتى القوى السياسية فقدت البوصلة على ما يبدو واختلطت الأمور وأُعيد النظر، على نحو دراماتيكي، في بنية التحالفات القائمة.
ولعل أقرب شيء يمكن إدراكه، هو أن الأحداث الأخيرة التي شهدتها منطقة شمال العاصمة، وبالتحديد محافظة
عمران، قد استهدفت بشكل أساسي تصفية نفوذ تحالف القوى السياسية والنخبة القبلية المساندة لثورة الشباب الشعبية السلمية، وهو التحالف الذي مثّل خلال السنوات الثلاث الماضية أهم سند للرئيس الانتقالي عبد ربه
منصور هادي.
الأبعاد الخطيرة للمعارك العسكرية التي انتهت بالتضحية بلواء عسكري مدرع وكبير في محافظة عمران، تتمثل في مآلاتها التي تتجلى اليوم فيما يمكن اعتباره تنصيباًللجماعة الحوثية الدينية الشيعية المتطرفة الموالية لإيران، وصياً على المنطقة الشمالية من البلاد، وإعطائها الضوء الأخضر لقضم المزيد من الأراضي وإخضاعها لنفوذها، بما يسمح بتطويق صنعاء من جميع الجهات وإسقاطها، ما قد ينتج عنه الفصل الأسوأ من حرب أهلية طاحنة ومدمرة، وتفكيك لبنيان الدولة ومؤسساتها وفي مقدمتها الجيش والأمن.
قبل يوم الأربعاء الماضي، وهو اليوم الذي قام فيه رئيس الجمهورية الانتقالي عبد ربه منصور هادي بزيارة مدينة عمران التي استيقظت من بين الركام على هذه الزيارة، كانت المدينة لا تزال خاضعة بالكامل لنفوذ الجماعة الحوثية المسلحة، وحتى اللواء العسكري الذي حل محل اللواء 310 المنهار، يُوصف بأنه قريب جداً من الجماعة الحوثية ولحليفها الرئيس السابق علي عبد الله صالح عفّاش، بل أن مواقع إخبارية أظهرت جندياً من هذا اللواء وهو يحمل بندقيته الآلية وعليها شعار الحوثيين الذي يتضمن لعنات وشتائم للأمريكيين ولليهود.
لا يُعرف بالتحديد طبيعة التنسيق الذي تم من أجل تسهيل زيارة الرئيس الانتقالي لمدينة عمران، وعما إذا كان الجيش فعلاً قد أنهى سيطرة الجماعة الحوثية عليها، وهو ما يستبعده المراقبون، خصوصاً وأنه لم يسبق لمحافظ عمران ولا لأي وزير معني، ولا حتى المنظمات الإنسانية الإغاثية المحايدة أصلاً، أن تمكنت قبل الزيارة الرئاسية من الوصول إلى المدينة، التي شهدت أعنف المعارك خلال الشهرين الماضيين وتسببت في نزوح أكثر من 60 ألف إنسان بحسب ما علمت من نائب محافظ عمران وأمين عام مجلسها المحلي، الذي كنت معه الأربعاء ضيفين على برنامج تلفزيوني حول عمران في القناة الفضائية الرسمية.
وما حدث من أمر هذه الزيارة المفاجئة وغير المتوقعة، يُرجح أن الرئيس رُبما فتح حواراً سرياً مع الجماعة الحوثية للوصول إلى صيغة تسمح بعودة عمران، إلى النفوذ الحكومي، مع الإبقاء على الحركة الحوثية المسلحة صاحبة صوت أعلى في المدينة والمحافظة، وهذا يعني إقصاءً مرتباً للقوى السياسية والقبلية المناوئة للجماعة الحوثية، بانتظار فصل جديد من التوتر والمواجهات في المستقبل.
كل الدلائل والمعطيات تشير إلى أن العلاقة بين الرئيس الانتقالي والقوى السياسية المساندة للتغيير وفي مقدمتها حزب التجمع اليمني للإصلاح - أكبر قوة سياسية دعمت انتخاب الرئيس هادي وساندت مسيرة التسوية السياسية- هي اليوم في أسوأ حالاتها.
أعتقد أن التجمع اليمني للإصلاح الذي يُصنف على أنه قريب من الإخوان المسلمين، يتعرض لأكبر عملية إقصاء سياسي غير مبررة، وهي مهمة على ما يبدو أنها تحظى بدعم خارجي، لكن الأسوأ في سيناريو تهميش الإصلاح، يكمن في أن الرئيس هادي لا يملك بدائل سحرية لإحلال الاستقرار في البلاد، خصوصاً وأن التهديد الأخطر الذي يواجهه الرئيس كما تواجهه البلاد والعملية السياسية، يأتي أصلاً من الحركة الحوثية الشيعية المتطرفة المدعومة من إيران، التي تمتلك مشروعاً سياسياً ماضوياً، لا يمكن أن يُنفذ إلا على أنقاض الدولة اليمنية الحديثة.
أعتقد أن التواطؤ على تحجيم نفوذ القوى السياسية المساندة لثورة التغيير، والمنحازة أصلاً إلى الدولة والعملية السياسية، تُعد في تقديري مغامرة غير محسوبة، خصوصاً وأن مهمة كهذه يتم تنفيذها بمقاييس وأدوات الحروب القذرة التي نرى لها شبيهاً اليوم في ليبيا وفي سورية وفي العراق، وهذه الحروب لا تُسهم إلا في تعميق الأزمات واستفحالها، وتصديرها إلى المستقبل.