لم يأخذ الطفل أسامة العطار وقتًا طويلا في التفكير، ليقرر ماذا سيرسم على ورقته البيضاء، فمشاهد طائرة وصاروخ ومنزل مدمر بجواره جثث لأطفال، مازالت محفورة في ذاكرته الطفولية، ترجمتها ألوانه سريعًا على لوحته الصغيرة.
ويقول أسامة ذو الرداء الأزرق، وهو يجلس مع أطفال، ضمن برنامج تفريغ نفسي تنفذه دائرة الصحة النفسية في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين الأممية "أونروا" لأبناء العائلات النازحة في مدارسها، إنه يرسم "ما يعيشه ويشاهده".
ولم يكن هذا حال أسامة فقط، فمعظم أيدي الأطفال النازحين الذين جلسوا على الأرض مشكلين حلقة دائرية في ساحة مدرسة "بنات الشاطئ الإعدادية" بغزة، التابعة لوكالة "أونروا"، رسموا أيضًا لوحات تعبر عن الحرب والدمار والموت.
وقال أسامة ابن الـ "10" أعوام: "لقد هربنا من منزلنا في بيت حانون شمال القطاع، ليلا وكنت خائفًا جدًا، ولا أنسى ما شاهدته، لذلك أرسمه دائمًا".
وفي لوحتها البيضاء، كتبت الطفلة ياسمين العطار "
غزة في خطر"، وقالت "نتمنى أن ينقذنا العالم، ولا نموت، إننا نشعر بالخوف".
ورغم ذلك يشعر أسامة بأنه سعيد جدًا في الأنشطة التي ينفذها برنامج الصحة النفسية للأطفال، كما يقول، وإنه نسي قليلا خوفه من
القصف الإسرائيلي، ومعاناته من العيش لأكثر من 40 يومًا في المدرسة.
وينفذ برنامج الصحة النفسية في وكالة غوث تشغيل اللاجئين "أونروا" أنشطة ترفيهة لأطفال العائلات النازحة، في معظم مدارسها على مستوى محافظات قطاع غزة.
وتشير إحصائية أصدرها المركز الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في غزة، إلى أن عدد النازحين في قطاع غزة، يصل إلى 460 ألف فلسطيني، فيما أشارت إحصائية للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، إلى أن عدد النازحين يصل إلى نصف مليون شخص.
ولجأ معظم النازحين إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، بينما فضل آخرون اللجوء إلى منازل أقاربهم، الواقعة في أماكن يعتقدون أنها أكثر أمنا.
ورغم ما عاشه أطفال غزة النازحين إلا أنهم داخل المدرسة لم تغب عن وجوههم مظاهر الفرح والابتهاج وهم يرسمون، وصوت ضحكاتهم كان تسمع من وقت لآخر.
وفي حلقة دائرية أخرى في ساحة المدرسة، كانت تردد الفتيات والفتيان، الذين كان معظمهم حافي القدمين ومتسخ الثياب، خلف مرشدهم النفسي إحدى الأغنيات بسعادة، وبين مقطع وآخر يعلو صوت تصفيقهم وضحكاتهم.
ولم تتفاجأ المرشدة النفسية فاطمة أبو عاصي، التي تشارك في تنفيذ برامج الصحة النفسية للأطفال، وهي تقلب بين يديها اللوحات الفنية للأطفال، وتشاهد رسومات الموت والبيوت المدمرة في أكثرها.
وتقول: "لقد كان الأطفال في حالة خوف شديد وبكاء في بعض الأحيان، وبعضهم لم يكن يترك يد والدته، لكنهم أوضاعهم النفسية تحسنت الآن قليلا مع ممارستهم للأنشطة الترفيهة لأكثر من 10 ساعات يوميًا".
وتتابع لمراسلة: "الأولاد مشاعرهم متضاربة، يشعرون بالخوف مرة ويصرخون مرة أخرى، نشاهد في أفعالهم ونظراتهم حيرة وتشتتا وغرابة، فمثلا لا يسمحوا لنا بإطفاء أضواء المدرسة ليلا".
ولفتت أبو عاصي إلى أن عددا من الأولاد أصبحوا عدوانيين ولديهم حركة زائدة، مضيفة: "ما يعانون منه الآن هو ترجمة لما عايشوه خلال أيام الحرب، وقد يستغرقون طويلا لنسيانه".
وتشن إسرائيل حربا على قطاع غزة، تسببت في استشهاد 2028 فلسطينياً، من بينهم 545 طفلا، كما وأصيب أكثر من 10 آلاف آخرين، فضلاً عن تدمير وتضرر 38,086 منزلاً سكنيًا، ومقرات حكومية، ومواقع عسكرية في غزة، بحسب أرقام رسمية فلسطينية.
ويُشكل الأطفال وفق إحصائيات مركز الإحصاء الفلسطيني نسبة 60 % من سكان قطاع غزة، يعاني 30% منهم بحسب إحصاءات حقوقيـة أمراضاً نفسية متعددة، منها الخوف الشديد وأعراض الصدمة النفسية والعصبية جراء القصف الإسرائيلي المتواصل على مدينتهـم.
وكما تقول المرشدة النفسية أبو عاصي، فإن عددا قليلا جدا من الأطفال من يرسم لوحات تنم عن حالة طبيعية، كرسم أشجار أو بحر أو ورد، مؤكدة على أنهم سيحاولون "إخراج الأطفال من الوضع النفسي السيئ الذي يعيشونه".
من جهته قال إياد زقوت، مدير برنامج الصحة النفسية في وكالة "أونروا" إن هدف تنفيذ الأنشطة الترفيهية للأطفال يكمن في "التخفيف من الآثار النفسية السلبية التي يعانون منها بسبب الحرب الإسرائيلية على القطاع".
وأضاف: "نريد الأطفال عندما يعودون إلى بيوتهم ويتذكرون أيام الحرب واللجوء، أن تكون في ذاكرتهم أوقات اللعب والترفيه وليس القتل والخوف".
وأكمل زقوت: "لقد بدأنا بأنشطتنا أثناء العدوان على القطاع، كنا نسعى لجعل الأطفال لا ينتبهون لأصوات الصواريخ والقذائف، وسنستمر في عملنا بعد بدء العام الدراسي أيضًا، وسنكثف نشاطنا".
وأشار إلى أن نحو 110 آلاف طفل استفادوا من البرنامج في معظم مدارس "أونروا" على مستوى محافظات قطاع غزة.
وقال "لقد أقمنا بعض حفلات عيد الميلاد لبعض الأطفال، ونفذنا لهم أنشطة متنوعة خلال أيام عيد الفطر، تعويضا عن عدم تمكنهم من الخروج".
وأردف زقوت: "لقد واجهنا بعض الحالات الصعبة لعدد من الأطفال، فمنهم من فقد النطق مثلا".