لم يستغرق طريق سهير وزوجته من الرقة إلى إحدى المناطق المجاورة لمدينة أورفا التركية سوى ثلاث ساعات، فيما استغرق جدَّه أكثر من أسبوع "ربما" لقطع هذا الطريق بشكل معاكس. فالأول لم يعد يستطع احتمال القوانين التي فرضها تنظيم الدولة الإسلامية "
داعش"، أما الجد فقد كان هاربا من ملاحقة "الجندرما" العثمانية له بسبب محاولته مساعدة أحد أصدقائه الأكراد.
سهير يشبه بلون بشرته السمراء وقوامه المربوع العرب، لأن والدته عربية مع أن والده أرمني. وهو مسلم لسببين، الأول هو محاولة جده التخفي من العثمانيين وتطبعه بعادات الأكراد الدينية الذين احتمى بهم في الرقة، والسبب الثاني لأنه أراد ذلك واقتنع به "لكن بطريقة ليست قسرية كما تقوم بفرضه داعش اليوم" على حد قوله.
يجلس سهير الآن في
تركيا على بعد 10 كيلومترات فقط من الأراضي التي كان يملكها جده في هذه المنطقة، في بيت لا تتجاوز مساحته الـ 100 م وإيجاره الـ 150 ليرة تركي، حيث روى لنا قصة جده "الخوجا" الذي كان يملك قريتين، على حد قوله، وهما "البي سي يك" و"البي سي دو"، إذ كان الأرمن يسكنون هذه القرى مجاورين لقرى كردية، وذلك قبل حصول
المجزرة الأرمنية التي راح ضحيتها نحو مليون شخص غير الذين هجروا بشكل جماعي من قراهم.
تبدأ القصة عندما اعتقلت الجندرما العثمانية عام 1909 صديق جد سهير، أحد "الباشاوات الأكراد" وهو ذو نفوذ وأملاك كبيرة، وأصدرت حكما بإعدامه، ليقوم "
الخوجا الأرمني" هو وشقيقه بالتخطيط لتهريبه من السجن قبل تنفيذ حكم الإعدام به. وفعلا استطاعوا إخراجه من السجن، لكن الكارثة كانت عندما أخبره أحد أتباعه مساء بأن عليه الهرب بسرعة لأن الشرطة العثمانية اكتشفت أمره وستعتقله.
يقول سهير: "كانت سوريا حينها تابعة للدولة العثمانية لكن بحكم علاقة جدي القوية مع الأكراد ساعدوه حينها للوصول إلى شمال الرقة وتكريما له أعطاه الباشا الكردي الذي ساعده جدي على الهروب من السجن قرى في هذه المنطقة، وما بقي منها الآن "خربة علو وطرابيخ"، متابعا: "مازلنا نملك مساحات كبيرة من الأراضي فيها على الرغم من تأميم نظام البعث لأراضي الإقطاع".
تخفى "الخوجا الأرمني" بين الأكراد بسبب خوفه من ملاحقة العثمانيين وتزوج من امرأتين، الأولى كانت عربية وأنجب منها 8 أبناء ووالد سهير أحدهم، أما الثانية فقد كانت كردية وأنجب منها 9 أولاد.
يقول سهير توفي جدي مورثا أبي وأخوته مساحات كبيرة من الأراضي شمال الرقة. لكن بحكم دراستهم وعملهم سكنوا فيما بعد داخل المدينة، مشيرا إلى أن جده كان يشبه في عاداته المسلمين بحكم مجاورة الأكراد، أما أبوه فقد أسلم بشكل رسمي على عكس العديد من عمومه الذين عادوا إلى المسيحية بعد مجيء الاحتلال الفرنسي وتطمينهم كأقلية داخل المنطقة.
يتابع ضاحكا: "زوجتي جرى تعميدها في صغرها وكانت تذهب للكنيسة باستمرار، لكنها عندما كبرت أسلمت وهي تعيش في وسط مسيحي وكردي ومسلم"، مشيرا إلى أنها قبل "اندلاع الحرب في سوريا بقليل تحجبت لقناعتها بذلك".
بقيت أحوال عائلة "الخوجا" الأرمني في الرقة مستقرة في ظل حكم الأسد منقسمين بين إسلام ومسيحية، كما أنهم كانوا ميسوري الحال بفضل الأراضي التي أمنها لهم جدهم "الإقطاعي" سابقا، فهم "خوجات" أيضا، حتى اندلاع الثورة في سوريا، "فمنهم من أيدها وقسم آخر شعر بالخوف من المستقبل المجهول كونهم أقلية في هذه المنطقة".
يقول سهير: "لم تحصل أي مشكلة عندما كان الجيش الحر موجودا في الرقة، وكانت حركتنا داخل المدينة جيدة وسهلة ولم يسألنا أي شخص عن أي شيء، حتى دخول داعش وهنا كانت الكارثة التي عشناها نحن وأشقاؤنا العرب".
بداية لم تتعرض عائلة "الخوجا" لمضايقات من "داعش" عندما علم أن العديد منهم أصبحوا مسلمين، أما المسيحيون منهم فيدفعون له الجزية السنوية، ومع الوقت أصبح تفرض داعش على جميع "أهالي الرقة وليس الأرمن فقط"، قوانين لم نستطع تحملها "كالخروج مع محرم والنقاب وغيرها"..
يقول سهير: "زوجتي لم تعد تستطع الاحتمال، لذا فقد قررنا الخروج من الرقة إلى تركيا، فيما رفض أخوتي الخروج خوفا على ممتلكاتهم في المنطقة. أما أنا فتركت ورائي ما أملك هربا من قمع داعش لأعبر طريقا قطعه جدي قبل مئة عام هربا من شيء آخر".