كتب
حازم الأمين: بعد أكثر من شهر على مباشرته عملياته العسكرية، لم يتمكن
التحالف الدولي من الحد من نفوذ «داعش». هذا في سورية، أما في العراق، ففي موازاة تقدم الجيش والبيشمركة ثمة تقدم موازٍ يجري تحت أنظار التحالف، يتمثل بالنفوذ الإيراني المتعاظم، الميداني والسياسي، بحيث صار الجنرال قاسم
سليماني نجم الحملة الميدانية على «داعش»، يلتقط صوراً لنفسه على الجبهات محاطاً بالضباط العراقيين.
في سورية، «داعش» و»النصرة» تتقدمان في ريف إدلب وفي الشمال، على رغم الغارات الجوية.
النظام أيضاً يتقدم، في حلب وفي دمشق وريفها. الخاسر الوحيد هو البؤر التي ما زالت الفصائل غير المتطرفة المعارضة تتحرك فيها. ويبدو هنا أن التحالف الدولي يؤدي مهمة عكس تلك التي أعلن عنها، فهو جاء ليضرب «داعش» وليمنع النظام من الاستثمار في ضرباته! لكن ما يجري هو عكس هذا تماماً. ضرباته لـ»داعش» غير مثمرة على الإطلاق، ونتيجتها الميدانية الوحيدة حتى الآن التقاط النظام أنفاساً مكّنته من التقدم على جبهات موازية. فمن المنطقي ميدانياً أن تكون الوحدات العسكرية النظامية التي كانت تقاتل على الجبهات مع «داعش» قد ابتعدت مفسحة المجال للغارات الجوية، وهو ما مكّن النظام من الاستعانة بها لتعزيز مواقعه في حلب.
الواضح أننا أمام فشل دولي هائل، وهو فشل لا يقتصر على إخفاق الضربات في تحقيق الأهداف التي أُعلن إنشاء التحالف من أجلها، بل شمل مختلف أشكال إدارة الأزمة في سورية وفي العراق. فالموقع التركي الملتبس مما يجري لم يتم جلاؤه بعد. ما زال المقاتلون غير السوريين يتدفقون على جبهات «داعش» بمعدل ألف مقاتل في الشهر. يجري ذلك عبر الحدود التركية السورية. وإذا كان السماح للبيشمركة بالدخول إلى كوباني لمنع «داعش» من احتلالها، تحولاً في الموقف التركي، فهو تحول طفيف ومحدود الوظائف.
إيران من جهة أخرى كيّفت تحفظها على التحالف بما ينسجم مع مصالحها، وها هي اليوم تتحرك وفق الأجندة الميدانية للضربات، لكن أيضاً بما ينسجم مع قرارها حماية النظام في سورية. فلم يستعر خطاب تخويني ممانعاتي يدين الضربات ويؤسس لمزاج «مقاوم» يُثبّت التحالف بصفته عدواناً. تحفظت طهران على التحالف وأعطت النظام السوري هامشاً ليرحب به، وهذه لعبة تجيدها طهران منذ أيام «المقاومة» في العراق، لا سيما وأنه ترافق مع إفساح عملي في المجال لتواجد أمني واسع لها وغير مسبوق في العراق.
النظام السوري بدوره لم يشعر حتى الآن بأن الضربات الجوية في غير صالحه، بل على العكس من ذلك تماماً. ثمة انفراجات واضحة في أدائه أحدثتها الضربات. فهو اليوم يسعى لأن يكون جزءاً من «منظومة دولية لمكافحة الإرهاب»، وأطلق إعلامه خدمات باللغتين العبرية والفارسية بهدف المزيد من «الانفتاح» على العالم، ووزير خارجيته وليد المعلم يتصرف في المحافل الدولية بصفته مانديلا المشرق العربي، كما غطت أخبار غارات التحالف على أي خبرٍ آخر عن البراميل المتفجرة التي استــمرت طائرات النظام السوري بإمطار المدن بها.
أما «داعش» فهي بصدد التحول إلى دولة حقيقية في موازاة القرار الدولي في الحرب عليها. فأن يقود قاسم سليماني الوحدات العراقية التي تستثمر في الضربات، وتوزيعه صوراً لنفسه أثناء أدائه هذه المهمة، فإن ذلك لا يُمثل غير هدية كبرى لتنظيم دولة الخلافة. فهو اليوم يمثل رأس حربة المواجهة السنية الشيعية في المنطقة كلها، وليس أمام من يغيظهم ويحبطهم تولي سليماني القيادة سوى أن تتوجه آمالهم إلى أبو بكر
البغدادي، لا سيما أن العملية السياسية الموازية في العراق والتي أعطي السنّة فيها وعوداً بالمشاركة تجري ببطء، تُواجهها عقبات كبيرة.
ما جرى في إدلب مؤخراً ليس بعيداً عن هذا السيناريو. فقد أمسكت «جبهة النصرة» بمعظم المناطق التي كانت تحت سيطرة الجيش الحر. و«النصرة» لا تبعد سوى خطوات قليلة عن «داعش» على رغم الخصومة المريرة بينهما، كما أنها هدف معلن للتحالف الدولي، وإمساكها بريف إدلب يعني ضم المزيد من المناطق إلى دائرة الاستهداف الجوي، بالتالي إلى مساحة «الجهاد الدولي».
يجري ذلك على وقع تعاظم الشكوك في تقارب أميركي إيراني، وعلى وقع ما كشفته «وول ستريت جورنال» ولم ينفه البيت الأبيض عن رسالة من الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي أشار فيها إلى مصالح مشتركة بين البلدين لجهة «محاربة الإرهاب». وإذا صح ذلك، وهو أمر شبه راجح، نكون مرة جديدة أمام مزيد من الانتصارات التي ستحققها «داعش». ذاك أنها ستخاطب لدى الأكثرية في المنطقة أمرين، الأول هو الرغبة في قتال الأميركيين وهي رغبة مقيمة في الوجدان الجماعي الأكثري، والثاني وقوفها في وجه المد الإيراني الشيعي، وما سيمثله ذلك من حماسة تخترق المشرق والمغرب على حدٍ سواء. وإذا ما استمرت العقدة التركية مرخية بظلالها على مهمة التحالف، فإن الحدود في حينها ستشهد تضاعفاً في عدد المتطوعين لأداء المهمتين.
هذا السيناريو الشديد التشاؤم هو ما يلوح حتى الآن. كل الوقائع تؤكده وتشير إلى أننا سائرون إليه لا محالة. واقعة واحدة ربما تعيقه، هي نتائج الانتخابات النصفية الأميركية التي فاز فيها الجمهوريون بالغالبية في مجلس الشيوخ، ذاك أن الأخيرين يميلون إلى دور أميركي مختلف في المنطقة. يريدون الحد من نفوذ إيران وحملة عسكرية ميدانية على «داعش». المبالغة بالتعويل على هذا المتغير هي إفراط في التفاؤل، لكن يبقى أن انعطافة أوباما الإيرانية لن تكون في ظل مجلس الشيوخ الجديد سهلة.
ما يجعل التشاؤم راجحاً أيضاً هو الموقف الإسرائيلي. ذاك أن ثمناً «نووياً» تطمح إليه تل أبيب في مقابل إفساح المجال أمام نفوذ إيراني على حدودها. وعلينا هنا أن نراقب الانقلاب في الموقف الإسرائيلي من بشار الأسد والترحيب بخطوة «خدمة اللغة العبرية لساناً».
المواجهة المقبلة ستكون إذاً بين قاسم سليماني وأبو بكر البغدادي، وستقف خلف الرجلين جيوش كثيرة.
(الحياة اللندنية)