نشرت صحيفة "التايمز" تقريرا لهيلين رمبلو بعد أن قابلت الجراج ديفيد
نوت، وشاهدت الفيلم الذي أعده عن
سوريا، الذي ستعرضه القناة الرابعة ليلة الأربعاء.
تبدأ رمبلو تقريرها بوصف مقابلتها للطبيب الجراح ديفيد نوت في منطقة الوست إند في لندن، حيث قال لها: "هل تسمحين لي أن أريك شيئا فظيعا؟"، ثم تقول: صمت قليلا ونظرت إلى المتسوقين الذاهبين إلى محلات بيتر جونز الشهيرة لشراء الكثير من الألعاب لأطفالهم، بمناسبة عيد الميلاد وحسدتهم على سعادتهم بسبب جهلهم.
وتشير الصحيفة إلى أن الجراح نوت هو أشهر جراحي الصراعات في العالم، حيث تطوع للعمل في معظم الحروب على مدى عشرين سنة الماضية، ويأخذ كل عام ستة أسابيع إجازة غير مدفوعة من عمله، وهو جراح أوعية دموية؛ للذهاب إلى الأماكن المضطربة التي يهرب منها الناس فعليا أو أخلاقيا.
ويصف التقرير نوت بأنه كان ابنا وحيدا لوالديه اللذين توفيا، وأبقى نفسه حرا من أي ارتباطات، فلا زوجة ولا أطفال؛ حتى لا يشعر بالذنب عندما يضع نفسه في خطر، ولم يبحث عن الأضواء، لكن اسمه عُرف، وأشهر مرضاه توني بلير، الذي عالجه من عدم انتظام دقات القلب.
وتقول الكاتبة إنه الآن يريد أن يسمعه العالم، فقد عاد قبل عدة أسابيع إلى حلب، بالرغم من خطر القتل أو أسوأ من هذا الاختطاف والتعذيب وقطع الرأس، وهو يقول إن الناس سيدركون أن عمله يستحق هذه المخاطرة لو رأوا ما رأى، ويقول إن سوريا مختلفة عن الحروب الأخرى التي شهدها، حيث أصبحت البلد مقبرة كبيرة للأطفال، بينما يضغط على مفتاح في حاسوبه المحمول ليشغل فيلما.
وتبين رمبلو أنه مباشرة كان هناك صوت بكاء، ويعرض الفيديو مشاهد من الدور السفلي (تحت مستوى الأرض) من مستشفى سابق، حيث على الأطباء في منطقة الجيش السوري الحر أن يعملوا تحت الأرض لسلامتهم وسلامة المرضى الذين يعالجونهم. يقول نوت: "في سوريا هذه المرة كانت نسبة الأطفال بين
الجرحى حوالي 70 بالمئة.. ولو رجعت إلى غزة التي كنت فيها خلال
حرب الصيف الماضي كان ثلث الجرحى من الأطفال، بينما لم تتجاوز هذه النسبة الـ 10 أو 12 بالمئة في الحروب الأخرى التي شاركت فيها، فغزة كانت سيئة، وهنا أسوأ بكثير".
وعند سؤال الصحيفة له عن مدى صعوبة معالجة الضحايا الأطفال، قال: "لم أكن لأستطيع فعل ذلك لو كان عندي عائلة، ودائما أقول ذلك، ولكنها تبقى مؤلمة جدا، والمشكلة أن الشخص لا يستطيع .."، ثم يلتف ويشير إلى طفل صغير على الشاشة.
ويلفت التقرير إلى أن نوت ذهب إلى سوريا ثلاث مرات، كانت المرتان الأخيرتان منها إلى حلب، وقد اختار أن يذهب مرة أخرى إلى حلب هذا الخريف؛ وذلك لعمل فيلم سيتم عرضه في برنامج الطوارئ والحوادث على القناة الرابعة، ويقول "لكن لا نستطيع عرض هذه المشاهد، التي تظهر سقوط برميل متفجر على المستشفى"، مضيفا أن "حلب كانت وكأنها مدينة محاصرة، فكان هناك الكثير من نيران القناصة، بالإضافة لرشقات المدفعية المتبادلة، فكأن الشخص في جبهة قتال حقيقية".
وتذكر الكاتبة أنه خلال
الأسابيع الثلاثة التي قضاها العام الماضي في حلب مع فريق من الأطباء السوريين، الذين كان يدربهم على الجراحة الحربية، استطاعوا علاج الحالات التي كانت تصلهم كلها، ولكن هذا العام مع
البراميل المتفجرة تغيرت طبيعة الإصابات، فمعظمهم من الأطفال الجالسين في بيوتهم، وهذه الإصابات أصعب بكثير من إصابات الرصاص. وكثير من الناس يموتون بسبب استنشاقهم للغبار الناتج عن القصف، فخلال المدة التي قضاها في حلب هذا العام كانت نسبة الوفيات بين المصابين 80 بالمئة.
ويعلق نوت "لم أستطع أن أنقذهم .. في هذا القصف ببرميل متفجر جاءنا سبعة أطفال، أربعة منهم من العائلة نفسها، وأحد الأطفال خسر قدميه .. وهذا خسر ساقا .. كان صباحا عاديا، وكان على وشك أن يصبح أسوأ، هذا الطفل خسر نصفه السفلي ولا يزال حيا"، وتقول رمبلو "كنا نشاهد هذا التسجيل على جهاز الآيفون للجراح".
وتتابع "ننظر لحظة على طفل آخر عمره حوالي ثلاث سنوات لم يكن يبكي، فقط يحملق في الكبار من حوله، ويقوم الأطباء بمسح وجهه، ويعلق نوت قائلا: (هذه القطع البيضاء هي دماغ أخته، لقد تهشمت جمجمتها، والأمر كذلك في كل يوم يجلب الأطفال أشلاء مغطاة بالدماء والغبار)".
وتفيد "التايمز" أن نوت صور هؤلاء الضحايا؛ لأنه لم يكن يستطيع فعل أي شيء آخر، فلم يبق لدى المستشفى حتى المورفين لتسكين الآلام "هذا ما تريد أن تفعله في تلك اللحظات، وهو أن تعطي المورفين لأولئك الأطفال للتخفيف من ألمهم".
وعندما سئل عن الإخوة الأربعة إن عاشوا، قال: لم يعش منهم إلا واحد، ويظهر في الفيديو، يبلغ من العمر حوالي سبع سنوات، وكان يجلس بالقرب من إخوته ويصرخ.
وسألته رمبلو عن بعض الحروب التي عالج فيها مدنيين، فذكر سيراليون وساحل العاج والكونغو ودارفور وتشاد وليبيريا وأفغانستان والعراق، فسألته إن كانت هذه هي الأسوأ فقال "أظن ذلك".
ويوضح التقرير أنه من بداية الفيلم حتى نهايته يشاهد نوت تحت ضغط كبير، وعندما يسمح له بالخروج يجري هربا من طائرة تطلق النيران من مدفع رشاش، حيث يقول: "اختبأت بجانب حائط؛ آملا ألا يروني"، كما أنه لم يبد عليه الخوف من بداية الفيلم وحتى نهايته.
ويقول نوت للصحيفة: "لا أعرف لماذا أنا كذلك، ولكني كذلك، وعندما بقيت هناك كنت خائفا كثيرا، وكنت أحس بألم في أسفل معدتي حتى في منتصف الليل عندما أدعى لعلاج أحد".
ويضيف التقرير أنه لم يكن التواصل بالإنترنت سهلا، ولكن كان ممكنا أحيانا، وكان نوت يسمع بأخبار قطع الرؤوس على بعد كيلومترات معدودة من مكان إقامته ويعلق قائلا: "إن لم تكن قادرا على ضبط أعصابك، فبالتأكيد ستصاب بالجنون بعد يوم أويومين هناك، ولذلك عليك ضبط أعصابك، وأن تبقي نفسك متحفزا، والطريقة التي مكنتني من هذا الأمر هي أنني قلت لنفسي أن عليك الاستمرار لنسيان الألم الذي أعاني منه في أسفل معدتي".
وتبين الصحيفة أن نوت قام بإجراء العمليات لطفل تلو الآخر، وكانت أرضية غرفة العمليات تغرق أحيانا بالدم، وكانت القنابل تعطل مولدات الكهرباء، فيبقى الجراح نوت يعمل لعدة ساعات على نور مصباح ذي رأس وإضاءة الآيفون.
تساءلت رمبلو إن كان زملاؤه يعتقدون أنه أفضل لهم أن يكون حيا في لندن من أن يكون ميتا في سوريا، فقال: "لقد غامرت مغامرة كبيرة، ولكنها كانت مستحقة"، ويقلب مجموعة من الصور على حاسوبه المحمول لفتاة أصيبت فخرجت أحشاؤها، ليصل إلى الصورة التي يريد، وهي صورة لزميلين خلال فترة راحة من العمليات يبتسمون لكاميرا نوت.
ويقول: "الأطباء الصغار هناك يبقون حتى يقتلوا، لن يذهبوا، إنهم أناس طيبون جدا، هذا طبيب التخدير وصديقه المسعف، كنت هناك لخمسة أسابيع قتل خلالها خمسة من الطواقم الطبية، وقد قتل المسعف (الظاهر بالصورة) قبل عودتي بأسبوع، أما طبيب التخدير فوصلتني صورة على (الواتس آب) في اليوم نفسه الذي غادرت به وكانت له، كان ملفوفا بكفنه، وهذه هي الصورة التي عدت بها إلى هنا".
ويفيد التقرير أن نوت عاد للتأقلم مرة أخرى مع الحياة الغربية المترفة، ولكن هذه المرة كانت أسوأ من كل مرة، ولم تساعده دعوة من الملكة لوليمة غداء في قصر باكنغهام بعد عودته بأسبوع في أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر، ويقول عن تلك الدعوة: "كانت كارثية، كنت في غرفة متميزة وبين أشخاص متميزين جدا، شعرت وكأنني كائن غريب من المريخ، فعندما تأخذين شخصا من منطقة حرب، كما كنت أنا، وقد رأى ما رأيت وتضعينه في قصر باكنغهام.. لم أستطع أن أتكلم ولم أنبس ببنت شفة".
وعندما سألته الكاتبة إن كان غاضبا على الناس مثلها في الغرب، والذين لا يفعلون شيئا لمساعدة السوريين، قال "نعم ولكن هذه هي الثقافة الغربية، لكن ما يزعجني أكثر هو أنه عندما قابلت سياسيا قبل أسبوع حاولت إخباره عن مدى سوء الأحوال في سوريا، وأسأله لماذا لا تفعل الحكومة شيئا، رفض قائلا: لم لا نتحدث عن الإيبولا؟، فقلت له: لا أريد الحديث عن الإيبولا، إن هذا أسوأ بكثير من الإيبولا. وبعد خمس أو ست جمل مني ذهب وتركني، فشعرت بإحباط شديد".
ويشير التقرير إلى رفض نوت الإفصاح عن هوية السياسي الذي تحدث معه، وقال: "أنا أتفهم عندما يتحدث السياسيون عن الصورة الأكبر في سوريا أو الصين أو روسيا، ولكن ما كنت أرغب في رؤيته هو أن تتبع بريطانيا الطريق الإنساني، فلو نسيت الحكومة الصور الأكبر وساعدت المحتاجين، لكنها لم تساعدهم أبدا".
وتختم الصحيفة تقريرها بالإشارة إلى أن الفيلم الوثائقي سيعرض على القناة الرابعة ليل الأربعاء في الحادية عشرة ليلا؛ وذلك لاحتوائه على مناظر مخيفة، ويشكو نوت لعرضه في وقت متأخر، فيقول إن التلفزيون يعرض أفلام الرعب في أوقات مبكرة من المساء.