بدأ الشهر الأول من عام النظام السوري، 2014، بواقعة وحدث؛ كلاهما على صلة مباشرة بالموقف الصهيوني، القياسي، وكذلك الموقف
الإسرائيلي، الحكومي، من آل
الأسد. أما الواقعة فهي مقالة كتبها الأمريكي الصهيوني دانييل بايبس، الذي قد يكون الناطق الأبلغ بتفاصيل الوئام بين «الحركة التصحيحة»، أي الأسد الأب والابن معاً، من جهة؛ وإسرائيل، مؤسسات وشخصيات وقوى، داخل الكيان وخارجه، من جهة ثانية. كذلك يظلّ بايبس في عداد قلّة من المعلّقين الصهاينة يعلنون (على خلاف كثرة تشترك بالقناعة ذاتها، ولكن تبقيها طيّ الكتمان) تفضيل بقاء الأسد في السلطة (بوصفه «الشيطان الذي نعرف»)، لأنّ أيّ بديل آخر لن يكون في صالح إسرائيل، إذا لم يشكّل خطراً عليها.
مقالته تلك بدأت باعتراف شخصي يتقنع تحت ستار النقد الذاتي الخفيف: عنوان «ساندوا الأسد»، الذي حملته مقالة نيسان، 2013، كان «غير دقيق بعض الشيء، وتوجّب أن يكون: ساندوا أيّ طرف يخسر في الحرب الأهلية السورية»؛ كتب بايبس. ولكي يشرح ما آلت إليه تأملاته حول كيفية ترجمة هذا المطلب، تابع يقول: «يشقّ عليّ هذا، ولكني أصادق على دعم الجبهة الإسلامية. هنا أيضاً، ليس لكي تفوز، بل لكي تخوض يوماً إضافياً في المعركة ضدّ النظام الأسدي البغيض، ومناصريه الإيرانيين وحزب الله». لافتاً إلى هذا، أنّ المقالة نُشرت قبل بدء الصدامات العسكرية المباشرة بين «داعش» والكتائب الإسلامية الأخرى، في ريف حلب والشمال عموماً؛ الأمر الذي ساق بايبس إلى تبيان «المنطق» وراء أحدث تطورات تفكيره:
1) «ليس علينا أن ندعم أيّ طرف على أمل أنه سيفوز، بل فقط لكي يمنع الطرف الثاني من الفوز»؛ و2) لأنّ «مساعدة الجهاديين السنّة في سوريا ضدّ النظام يخدم التوازن»، في ملفّ البرنامج النووي الإيراني.
في نيسان (أبريل) 2013، خلال حوار على واحدة من أشهر قنوات التلفزة الأمريكية، لم يجد بايبس أيّ حرج في مطالبة الغرب بضرورة التدخل عسكرياً لصالح الأسد: «موقفي ليس نابعاً من أي تعاطف مع نظام الأسد أو إعجاب به، فهو نظام فظيع جدير بالازدراء. ولكني إذْ أنظر إلى الموقف ككلّ، نظام الأسد البغيض، والمتمردين الذين يزدادون فظاعة، أعتقد أنّ الأفضل لنا هو أن يواصلوا الاقتتال فيما بينهم. لا أريد منتصراً في هذه المعركة يتولى قيادة سوريا، ويصبح جاهزاً لقتال جيرانها. ونحن في حال استراتيجية أفضل إذا ركّز بعضهم على بعض، وهذه نقطة استراتيجية وليست إنسانية».
هي كذلك، بالتأكيد، استراتيجية وليست إنسانية؛ ولكنها، أيضاً، تكتيكية على الأمدية القريبة، بل القصيرة الوشيكة؛ لأنّ حكمة التفكير هذه تُختصر في الفرضيات التبسيطية التالية: الأسد دكتاتور وفاسد وقاتل أطفال، ولا خلاف على هذا، وهو ليس حليف إيران بقدر ما أصبح تابعاً لها ورهينة، بدليل قتال «حزب الله» إلى جانبه… ولكن، ما هَمّ الغرب في هذا كله، ما دام النظام قدّم، وقد يقدّم في أية لحظة، خدمات مباشرة لمصالح الغرب في المنطقة؟ وما هَمّ، إذا كان جيشه لم يطلق طلقة واحدة في الجولان منذ 1973، وصواريخه تسقط على حلب دون أن يكون صاروخ واحد منها قد اخترق أجواء إسرائيل؟ وما هَمّ، إذا كان لا «يمانع» و«يقاوم» إلا على مستوى اللفظ فقط؟
وأمّا الحدث، بعد الواقعة، فقد كان إعلان وفاة أرييل
شارون؛ حين صارت متاحة، أكثر من ذي قبل، فرصة إماطة اللثام عن حقائق الدعم الهائل، وغير العادي في الواقع، الذي حظي به نظام «الحركة التصحيحية» من جانب شارون، شخصياً. وكان الأمريكي دانييل فريدمان ـ المحرر البارز في مجلة «فوربز»، لسان حال شرائح نخبوية من رجال المال والأعمال، وراعية التنظير الدائب للأمن الاقتصادي والاستثماري الخاصّ بالشركات الكونية العملاقة ـ في طليعة القلائل الذين تولوا كشف حقائق الدعم الشاروني لآل الأسد. لم تكن مصادفة محضة، في المقابل، أنّ فريدمان كان من طينة بايبس: أحد أبرز المطالبين، علناً، بالإبقاء على نظام آل الأسد في سوريا، بوصفه نظام «الشيطان الذي نعرفه»، أفضل من أيّ «شيطان قادم» لا نعرفه.
كتب فريدمان: «بسبب الخوف من سيطرة الإخوان المسلمين قام رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون بتحذير الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، في سنة 2005، من مغبة إسقاط الأسد. حجته كانت التالية: الشيطان الذي تعرفه خير لك. وذلك بالرغم من تحالفه مع إيران وحزب الله». ولكي يوضح الحجة أكثر، من جانبه هو هذه المرّة، أضاف فريدمان: «كذلك رفعت من رصيد الأسد عند الإسرائيليين أنّ سوريا ضبطت حدودها مع إسرائيل بشكل صارم جداً. والاستثناء الوحيد كان في أيار/ مايو 2011، حين سُمح لبعض المقاتلين الفلسطينيين بمهاجمة الجانب الإسرائيلي من الحدود، على سبيل التذكير بما ينطوي عليه الأمر من رهانات».
ومن موقعه كرئيس وزراء، وكذلك بصفته السياسية كزعيم لحزب «كاديما»، طالب شارون بعدم تشديد الضغوط الأمريكية (ومثلها الفرنسية، أيام الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك) بحيث تهدّد بانهيار النظام. ولتذهبْ إلى الجحيم، طبقاً لمنظومة تفكير شارون، أوهام «شرق أوسط جديد» ديمقراطي، يبدّل سوريا إلى أية حال، حتى الديمقراطية منها، ويمكن أن يُلحق الأذى بإسرائيل. وما نفع سوريا جديدة، تقوم على أنقاض القديمة، إذا كانت ستعيد فتح ملفات الجولان المحتلّ، أو تنشّط الجبهة السورية، شعباً وجيشاً ودولة ومؤسسات، بما يكفل استيلاد أخطار جدّية غير مسبوقة على أمن إسرائيل؟ الدلائل كانت تشير إلى تجسّد مواقف شارون، هذه، في مواقف خلفه بنيامين نتنياهو، ومعه غالبية ساحقة من ساسة إسرائيل وجنرالاتها.
والحال أنّ شارون، لو استطاع إبصار المشهد السوري من داخل غيبوبته، طيلة أشهر الانتفاضة الشعبية السورية، كان سيقرّ عيناً إزاء ثمار خياراته في مساندة آل الأسد: أسلحة الجيش السوري كافة؛المدفعية والصاروخية، والدبابة مثل المروحية والقاذفة، وصواريخ «سكود» مثل الأسلحة الكيمياوية… استُخدمت ضدّ قرى وبلدات ومدن سورية، لا كما استُخدم 1% منها ضدّ إسرائيل. وهذا الجيش، الذي ظلّ المواطن السوري يقتطع من لقمته اليومية ليسلّحه طيلة عقود، استدار نحو الشعب السوري لا كما واجه أية وحدة عسكرية إسرائيلية، في أيّ يوم؛ فضلاً عن أنه فقد صفته كـ«جيش وطني»، وصار أقرب إلى ميليشيات ومرتزقة ومفارز ذات تكون طائفي رثّ وهشّ.
وخواتيم السنة، مثل بداياتها، لم تبخل في تقديم البراهين على طبائع، ومباهج، هذا الدلال الذي تنعّم به آل الأسد من جانب إسرائيل؛ ولا يغيّر من الحال، بل لعلّه يوطدها أكثر، أنّ يأتي البرهان من إيران، دون سواها! ففي تصريح، جسور والحقّ يُقال، أعلن حسين أمير عبد اللهيان، مساعد وزير الخارجية الإيرانية للشؤون العربية والإفريقية، أنه «إذا أراد التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش تغيير النظام السوري، فإن أمن إسرائيل سينتهي»، حسب وكالة فارس الإيرانية؛ و: «إيران حذرت أمريكا وسائر الدول المتحالفة معها من أنّ السعي لإسقاط نظام بشار الأسد، خلال المواجهة القائمة مع داعش، سيعرض أمن إسرائيل للخطر».
وبهذا فإنّ العام 2015 قد يبرهن أنه الأسوأ على آل الأسد، ما خلا في ملفّ واحد: أنّ الدلال الإسرائيلي مستمرّ، دون كلل أو ملل، وباستمتاع وابتهاج!
(نقلاً عن صحيفة القدس العربي)