أدّى
النفط وعوائده إلى تطور ملحوظ في الدور الاقتصادي السعودي إقليميا ودوليا، ففي عام 1973 ساعد استخدام النفط في إطار قضية إقليمية، هي الصراع العربي الإسرائيلي، إلى بروز الدور السعودي على الصعيد الدولي.
ولكن هذا المشهد لم يبنَ عليه لتكريس الدور الاقتصادي للسعودية على الصعيد الدولي، وكان بمثابة موقف تلاشى فيما بعد، وأتت تصريحات المسؤولين السعوديين أكثر من مرة، بأنه يجب استبعاد النفط كسلعة اقتصادية عن التوظيف السياسي. وإن كان الواقع الحالي لأزمة انهيار أسعار النفط يثبت عكس ذلك.
وظلت
السعودية على الصعيد الإقليمي تبحث عن إمكانية الحفاظ على مكانتها كأحد أركان النظام الإقليمي، وإن كانت مصر وسوريا قلّصتا من دورها بشكل كبير على مدار الثمانينيات والتسعينيات، وظلّت السعودية تؤدي دور الدولة المستقبلة للعمالة الأجنبية، والمصدرة لبعض الاستثمارات المباشرة في إطار بيني عربي، لا يرقى بأي شكل من الأشكال إلى ممارسة دور اقتصادي محوري، يمكن أن يفضي إلى تغيير ملموس في واقع التنمية العربية أو في منطقة الشرق الأوسط، إذ تركزت الاستثمارات السعودية بشكل رئيس في أمريكا وأوروبا.
ولكن في ظل هذه الأجواء امتدت يد السعودية بالمساعدات هنا وهناك في المنطقة العربية، مرة عن طريق الحكومات، وتارة أخرى من خلال الجمعيات الخيرية، وبخاصة في البلدان التي تضعف فيها سيطرة الدولة على عمل الجمعيات الخيرية، كما هو واضح في التجربة اللبنانية.
بل دعمت بعض رجال الأعمال العرب من خلال إعطائهم بعض الأعمال والمقاولات في السعودية، ليعودوا إلى بلادهم ليمارسوا أدوارا مختلفة ما بين السياسي والاقتصادي والخيري، ولعل نموذج رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في لبنان، من أشهر النماذج التي تبرز في هذا المجال.
وحتى فيما بعد رفيق الحريري، تدخل السعودية بشكل مباشر في لبنان، من خلال دعمها للجيش اللبناني، ودعمها لتمويل صفقة سلاح من فرنسا بنحو خمسة مليارات دولار، وذلك لمواجهة نجاح حزب الله الموالي لإيران في السيطرة على مقومات عدة على الأرض في إدارة الأزمة الداخلية في لبنان.
ومع حلول الأزمة المالية العالمية، سنحت فرصة كبيرة للمملكة العربية السعودية للمشاركة في أكبر تجمع اقتصادي عالمي، يدير مرحلة ما بعد الأزمة المالية العالمية، وهي عضوية مجموعة العشرين، ولكن كانت المؤهلات الرئيسة للسعودية للحاق بعضوية هذه المجموعة، هي الوفرة المالية التي تجمعت لدى للسعودية من عوائد النفط منذ عام 2003، وباعتبار أن السعودية أكبر منتج للنفط في العالم، وأدت دورا ملموسا للدول الغربية في استقرار أسعار النفط العالمية عند مستويات مرغوبة، وعدم انفلاتها لما بعد سعر 150 دولارا للبرميل.
ومع حلول ثورات الربيع العربي، اتجهت أنظار المملكة العربية السعودية مع بعض دول الخليج، لتوظيف بعض مواردها المالية لدعم تلك الدول وأنظمتها، لكنها أمسكت يدها في بعض الأوقات، كما حدث بعد تولي الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي شؤون البلاد، وقدّمت إليها مساعدات قليلة على استحياء، مقارنة بما قدمته بعد عزله، ومثال آخر للدعم، الوعد السخي الذي قدمته دول الخليج في مؤتمر الاستثمار في تونس، بإقامة مشروع ضخم عقاري سياحي إنتاجي، بكلفة مليارات الدولارات، لكن دون وجود برامج زمنية، أو تحديد تكلفة محددة.
ولم يكن الدور السعودي خفي في اليمن على الصعيد الاقتصادي، حيث ظلّت المساعدات الاقتصادية، والنفطية منها على وجه الخصوص، في إطار لا يسمح باستقرار الأوضاع للحكومة الانتقالية هناك، وتم توظيف المساعدات الاقتصادية السعودية لليمن في إطار أمرين، الأول: ما يؤدي إلى عدم تمكن الإسلاميين من تولي السلطة، والثاني: إدارة الصراع مع
إيران في اليمن، وإن كانت النتيجة على الأرض في اليمن تظهر هزيمة المخطط السعودي لصالح المخطط الإيراني، بعد استيلاء الحوثيين على مقدرات الأمور في اليمن، ليعلن أحد المسؤولين الإيرانيين بأن اليمن تعدّ الدولة العربية الرابعة التي تدين بالولاء لإيران، بعد سيطرة الحوثيين على الأمور هناك.
وفي سوريا منذ اللحظة الأولى، أعلنت السعودية عن دعمها للمعارضة، سواء في شكلها السلمي أو المسلح، ورأت السعودية ومعها بعض دول الخليج، أن عدم تفعيل ملف الأسلحة الكيماوية بسوريا من قبل أمريكا والغرب تحيزٌ لإيران، ورغبة في بقاء نظام الأسد.
وإن كانت الأرقام الخاصة لدعم السعودية للمعارضة السورية غير معلنة، إلا أنها موجودة ومعلن عنها من حيث المبدأ، وتثبت الدور السعودي للأزمة، وإداراتها من خلال مدخل اقتصادي.
تصعيد إقليمي عالمي
ثمة مؤشرات على أداء الدور الاقتصادي للسعودية على الصعيد الإقليمي، ومنها ما يتعلق بمؤتمر المانحين الخاص بمصر، والمنتظر عقده في آذار/ مارس 2015، حيث أتت الدعوة لعقد هذا المؤتمر على لسان الملك السعودي، وليسبق بها أي مسؤول مصري، وهو ما يعني أن إدارة بعض الملفات الاقتصادية المهمة باتت في يد السعودية.
وكثفت السعودية في تعاملاتها التجارية مع مصر كنوع من الدعم الاقتصادي ليصل حجم التبادل التجاري بين الدولتين لنحو خمسة مليارات دولار، خلال عام 2014، حسب تصريح السفير المصري في السعودية، فضلا عن شحنات النفط المجانية التي لا زالت السعودية ودول الخليج تقدمها لمصر بعد عزل الرئيس الأسبق.
ويعد الملمح الأبرز لتصاعد الدور الاقتصادي للسعودية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، في ذلك الدور الذي تمارسه السعودية الآن وعلى مدار الفترة منذ حزيران/ يونيو 2014، بالعمل على استمرار انهيار أسعار النفط في السوق العالمي، ولم يعد يخفى على أحد من أن استخدام ورقة انهيار أسعار النفط يحقق مصالح مشتركة لكل من أمريكا والسعودية.
ولذلك أتت تصريحات الرئيس الروسي بوتين بأن انهيار أسعار النفط
مؤامرة سعودية أمريكية.
وفي الوقت ذاته، تستهدف السعودية إنهاك الاقتصاد الإيراني، وتوجيه ضربة استباقية لإمكانية نجاح المفاوضات بين إيران وأوروبا بشأن برنامج إيران النووي، فتكون إيران في حالة أزمة مالية حادة لاعتمادها على عوائد النفط بشكل كبير، فتصبح ورقة نجاح المفاوضات غير ذات جدوى لإيران من الناحية الاقتصادية، ما يجعلها مشغولة بشأنها الداخلي بشكل أكبر من إداراتها لبعض الملفات التي تنافس فيها السعودية على الصعيد الإقليمي.
تهديد قائم
ما سمح للسعودية خلال الفترة الماضية بتمديد دورها الاقتصادي، وتبعته السياسية، هو العوائد النفطية، ولكن في ظل أزمة انهيار أسعار النفط، فإن هذا الدور يكتنفه الغموض، وبخاصة أن السعودية سحبت فقط بعد أربعة أشهر من أزمة انهيار النفط 50 مليار ريال (13.3 مليار دولار) من الاحتياطي العام، ووضعته تحت التصرف، للجوء إليه وقت الحاجة.
واستمرار الأزمة على الأجل المتوسط والطويل، سيجعل السعودية تعيد حساباتها، فاستمرار أزمة انهيار أسعار النفط في الأجلين المتوسط والطويل، من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الدور السعودي، وقد يكون هذا الاحتمال واردا في ظل إدارة أمريكا التي تستهدف استنزاف الجميع، فبعد فترة من الوقت تكون كل من روسيا وإيران والسعودية في حالة ضعف اقتصادي لا يسمح لهم بمناورتها إقليميا، وبالتالي تستمر سيطرة أمريكا في إدارة الملف الإقليمي للمنطقة حسب مصالحها، وفي القلب منها استقرار أمن واقتصاد دولة "الكيان الصهيوني".