من أكثر الميادين التي تتجلى فيها اختلافات
السلفيين، وتتباين رؤاهم ومواقفهم فيها، ميدان السياسة.
فبينما تقف "السلفية الألبانية" موقفا تنأى بنفسها فيه عن السياسة، هاجرة شؤونها ومعتزلة ميادينها، إعمالا لمقولة شيخها الأكبر محمد ناصر الدين الألباني "إن من السياسة ترك السياسة"، نجد سلفيات أخرى قد اتجهت إلى المشاركة في السياسة واقتحام ميادينها، كجمعية إحياء التراث في الكويت، التي كانت لها مشاركات متكررة في الانتخابات البرلمانية الكويتية، استنادا إلى تنظيرات الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، كمشاركة حزب النور المصري في الحياة
السياسية بعد ثورة 25 يناير، ومشاركة حزب الرشاد اليمني الذي يعد أول حزب سلفي في اليمن.
في الوقت الذي تواطأت فيه سلفية السعودية في تشكيلاتها الأعرض، واجتمعت كلمتها على تسليم مقاليد السلطة لعائلة آل سعود، وحصر ولاية الحكم بهم، مكتفية بالشأن الديني منذ أن أسندت أموره لعائلة آل الشيخ ولكبار العلماء والمشايخ، بعد التحالف التاريخي بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب.. فإن "السلفية الجهادية" خالفت السلفيات الأخرى بموقفها الرافض للمشاركة السياسية في الأنظمة القائمة رفضا جذريا، لأنها تعتبرها أنظمة طاغوتية مرتدة، تحرم المشاركة في مؤسساتها، وهو ما جعلها تهاجم بشدة الإسلاميين الذين قبلوا بالديمقراطية، وتنكر عليهم مشاركتهم في الانتخابات البرلمانية.
أمام رؤى السلفيين المتباينة بشأن المسألة السياسية، ومواقفهم المتخالفة من قضاياها وشؤونها، فهل نحن أمام سلفية واحدة في العالم العربي، أم سلفيات مختلفة متنافرة؟ وكيف يمكن فهم ذلك التباين الشديد، والاختلاف الكبير في صفوف السلفية المعاصرة ذات الأصول الجامعة، والمنهجية الواحدة في الفهم والاستدلال؟
ليست سلفية واحدة بل "سلفيات" متخاصمة
بحسب الخبير في الحركات السلفية، حسن أبو هنية، فإنه لا يمكن الحديث عن سلفية واحدة، لأنها باتت سلفيات متعددة ومتمايزة، لافتا إلى أنه درج في دراساته وأبحاثه على تقسيمها إلى تيارات ثلاثة رئيسة: السلفية التقليدية (العلمية)، والسلفية الإصلاحية (الحركية)، والسلفية الجهادية.
أما عن رؤى "السلفيات" ومواقفها من السياسة، فأوضح أبو هنية أن السلفية التقليدية تنطلق من اعتبار حكام الأنظمة السياسية أولياء أمور، تجب طاعتهم ويحرم الخروج عليهم، ويدين لهم الناس ببيعة ملزمة، في حين أن السلفية الإصلاحية تشارك السلفية التقليدية في أصل رؤيتها المقرة بشرعية الأنظمة القائمة، لكنها تتمايز عنها بتعاملها مع الأنظمة وفق أسس النظم الحديثة القائمة على التعاقد الحديث وليس على البيعة المعهودة.
في الوقت الذي تفارق فيه السلفية الجهادية، السلفيتين السابقتين، في رؤاها ومواقفها لرفض إقرارها بشرعية الأنظمة السياسية القائمة، واعتبارها أنظمة طاغوتية مرتدة، فإنه لا تجوز المشاركة السياسة في مؤسساتها، ويحرم إعطاؤها البيعة، معتمدين على بيعاتهم الخاصة لزعماء تنظيماتهم، بحسب الخبير أبو هنية.
وردا على سؤال لـ"عربي21" حول تقييم تجربة السلفيين الذين شاركوا في الحياة السياسة، فقد اعتبر أبو هنية أنه لعدم وجود مصداقية لدى الأنظمة السياسية في تبنيها للديمقراطية، إذ إنها لا تريد بها إلا تجميل صورتها فقط، وعدم قبولها بنتائجها حينما تكون لصالح الإسلاميين، فإن السلفيين وغيرهم لم يتمكنوا من تحقيق نتائج إيجابية، ولم يتجاوز دورهم إضفاء الشرعية على الأنظمة.
سلفيو السعودية: إجماع على شرعية النظام
تعتبر حالة السلفيين في السعودية، وموقفهم من النظام السعودي، نموذجا للسلفية العلمية، في إجماع سائر اتجاهاتها وتياراتها على شرعية الأنظمة القائمة، واعتبار حكامها أولياء أمور، تجب طاعتهم (في غير معصية)، ويحرم الخروج عليهم.
في هذا السياق، أكدّ الأكاديمي السعودي، أستاذ الفقه وأصوله في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، الدكتور محمد السعيدي، أن السلفيين في السعودية مع اختلاف أنماط تعاطيهم مع السياسة، فإنهم يتفقون على القول بشرعية النظام الحاكم، ووجوب السمع والطاعة في المنشط والمكره (في غير معصية).
لكن بحسب السعيدي في حديثه لـ"عربي21"، فإن السلفيين في السعودية يختلفون في كيفية إسداء النصيحة للنظام، فثمة اتجاه يرى الاكتفاء بالنصيحة السرية، رافضا النصح في العلن باعتباره من المنكرات التي تؤول بالبلاد عاجلا أو آجلا إلى الفتنة، مركزين جهودهم على الإصلاح العقدي والسلوكي للأمة، لأن الخطوة الأولى لإصلاح الراعي هي إصلاح الرعية.
أما الاتجاه الآخر طبقا للسعيدي، فيرى ضرورة النصح في العلن، لأنه الوسيلة الناجعة كي يتعاطى المنصوح مع النصيحة، ويستجيب لها، لافتا إلى أن من الفريق الأول من يرى الخلاف في النصيحة خلافا فقهيا سائغا، ومنهم من يرى النصيحة العلنية ابتداعا في الدين، ومخالفة للنصوص عن رسول الله والمعهود عن صحابته.
ووفقا للسعيدي، فإن الفريق الثاني يقف ذات الموقف، فمنهم من يعذر الفريق الأول ويثمن موقفه وإن خالفه. وآخرون منهم يرون أنهم مرجئة مبتدعون في الدين، مبديا رأيه بأنه يمكن الجمع بينهم بضبط النصيحة العلنية من حيث ترتب المصلحة أو المفسدة عليها، وتحديد المؤهل لها، وكونها ليست كلأً مشاعا لكل أحد.
مواقف السلفيين بعد الثورات العربية
كان لافتا تحول بعض الاتجاهات السلفية التي كانت تبتعد عن المشاركة في الحياة السياسية من قبل، وتعتبر
الديمقراطية نظاما غربيا كفريا، إلى القبول بالديمقراطية، والمشاركة في الانتخابات البرلمانية، خاصة في مصر بعد ثورة 25 يناير، وهو ما تمثل في حالة حزب النور السلفي، الذراع السياسة للدعوة السلفية في الإسكندرية.
فما الذي حمل تلك الاتجاهات على التحول في رؤاها ومواقفها؟ وفقا للباحث المصري في الحركات الإسلامية، صلاح الدين حسن، فإن معظم التيارات السلفية في مصر طالما رفعت شعارا شهيرا وهو "ننشغل بالسياسة ولا نشتغل بها"، لكنّ بعض التيارات الأخرى ظلّت لا تنشغل بالسياسة ولا تعمل بها.
ويتابع الباحث المصري شرحه لـ"عربي21" قائلا: "لكن ثمة طارئ بعد ثورة الـ25 من يناير أربك كافة الحسابات السلفية، وخاصة المنشغلين بالسياسة، التي بررت انعماسها في العمل السياسي، بعد تخليها عن انسحابها التاريخي، بأنها لم تكن ترفض العمل السياسي في حد ذاته، بل لأن "موازين القوى العالمية والمحلية لم تكن تسمح لهم بالمشاركة".
وحول مدى إيمان السلفيين بالديمقراطية والدولة المدنية، أوضح صلاح الدين أن السلفيين لم يؤمنوا يوما بذلك كله، حتى الذين انخرطوا منهم في الممارسة الحزبية والبرلمانية، فما زالوا يعتبرون الديمقراطية كفرا، ولا يصفون الدولة القائمة بالإسلامية، ولم يكن قبولهم بها إلا للضروة، التي حتمت عليهم ممارسة ذلك الدور للوصول إلى الحكم الإسلامي المنشود.
وعن تقييمه لتجربة تلك التيارت في العمل السياسي، فقد اعتبر صلاح الدين أنها حينما وجدت نفسها منغمسة في وحل الواقع السياسي، اضطرت لتقديم تنازلات متتابعة، فلم تجد سبيلا لإقناع قواعدها وأتباعها إلا بالرجوع إلى أصولها التراثية لتستخرج منها أدلة شرعية تسوّغ أفعالها السياسية.
وحول أداء حزب النور السلفي في الممارسة السياسية، رأى صلاح الدين أن الحزب كان يطمح في أن يكون بديلا للمكونات الإسلامية الأخرى، لاعتقاده بأن المستقبل له، رافضا ما أسماه هيمنة جماعة الإخوان بسبب جيناتها التسلطية والاستعلائية. ولفت إلى أن الحزب اختار مفارقة التيارات الإسلامية الأخرى بعد الـ30 من يونيو، لرفضه مواقفها وتصرفاتها التي أدّت إلى وقوع الصدام مع الدولة والشعب.
يبدو واضحا أن كيفية قراءة السلفيين للواقع، وتفاعلهم مع قضاياه وشؤونه، وعلى رأسها تحديد الموقف من الأنظمة السياسية القائمة، وكيفية التعاطي معها، من أظهر الأسباب وأقواها في اختلافات السلفيين، وتباين مواقفهم السياسية، ما يعني أننا لسنا أمام سلفية واحدة، بل هي سلفيات تسربلت خلافاتها باختلاف التضاد المذموم في أدبياتها وتقريراتها.