توالت مشاهد قطع الرؤوس على نحو استعراضي لا يراعي حرمة الدم ولا يرعوي لقدسية الإنسان التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقف عندما مرت جنازة يهودي وقد مات على غير الإسلام- كرامة لكونه إنساناً جعل الإسلام له تكريماً محفوظاً بحفظ كتاب الله إلى قيام الساعة: (ولقد كرمنا بني آدم).
إن قطع رؤوس البشر في غير مواجهة القتال هو نوع من المثلة (التمثيل بالميت) الذي نهانا الإسلام عنه، بل هو سلوك جاهلي لا يمت للإسلام بصلة؛ قامت به هند بنت عتبة -زوج أبي سفيان- يوم كانت على الكفر في معركة أحد؛ حيث قطّعت في جسد حمزة عم النبي (صلى الله عليه وسلم) وحاولت أن تأكل منه فما استطاعت.
ولعل هذه المسألة قد تكرر حدوثها عبر التاريخ الإنساني، لكن ما يهمنا هو أحكام الإسلام التي تحكمنا لا أحكام الغاب التي حكمت أوروبا قبل مئات السنين أو قوانين الوحوش التي لا تزال تسري في بعض القبائل الإفريقية الغائرة. لقد اشتهر عن الحسن البصري قوله: "العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلباً لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بالعلم، فإن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا"، فالعلم بأحكام الجهاد هو فرض عين على المجاهد كما فرضية علم أحكام الصلاة للبالغ، ومن عبد الله على جهل فكأنما عصاه. وفي ذات السياق عُرف عن الدكتور عبد الله عزام قوله: "المجاهدُ من غير علمٍ شرعيٍّ قاطعُ طريق".
إن سلوك القادر والمنتصر والمتغلّب يجب أن يحمل ملامح المرحلة التالية، فالمجاهد يبتغي رفع الظلم عن نفسه أو إخوانه، ويعمل من أجل تحرير وطنه أو استرداد حقوقه؛ وذلك يقتضي تخير الراجع مصلحةً على المرجوح نقلاً، والمسند نقلاً على المنقول وزراً.
وقد اختلف علماء المسلمين في حكم المثلة على ثلاثة آراء: رأي قال بالتحريم مطلقاً، وآخر بالكراهة تنزيهاً، والثالث بالجواز شريطة التعامل بالمثل. حيث لا حث على فعل ذلك العمل المشين، بل لا شواهد تاريخية تثبت صحة هذا الفعل من أعلام الجهاد والفتوحات الإسلامية عبر التاريخ؛ بل إننا سمعنا عن حسن المعاملة وطيب المعاشرة لمن ألقى سلاحه أو ترك قتال المسلمين.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل من عماله: أنه بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا بعث سرية يقول لهم: "اغزوا باسم الله، في سبيل الله تقاتلون من كفر بالله، لا تغلوا.. ولا تغدروا.. ولا تمثّلوا.. ولا تقتلوا وليداً" وقل ذلك لجيوشك وسراياك. هكذا توارث الفاتحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا مشكلة نفسية لدى المقاتل المسلم تجاه رجل ضعيف أو صحفي مراسل أو جندي خسر سلاحه. من يفعل ذلك هم أعداؤنا الصهاينة الذين رأى العالم كيف أنهم بعد أن يقتلوا الفلسطيني يدوسوه بالدبابات الثقيلة، بل إنهم يقتلون المجاهد بقذيفة أو صاروخ في الوقت الذي يكفيه رصاصة واحدة.
هذه النفسية المريضة قد سلمنا الإسلام منها وأبدلنا شفاء للصدور في قوله تعالى: "قاتلوهم يعذِّبْهم الله بأيديكم ويُخْزهمْ وينصُرْكمْ عليهم ويَشْفِ صدورَ قوم مؤمنين، ويُذهبْ غيظَ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليمٌ حكيم" وفي ذلك يقول الدكتور صلاح الخالدي: "المجاهدون يعالجون بالجهاد غيظ قلوب الأعداء، عن طريق تحطيم الغطرسة والاستكبار، وإبادة جراثيم الطغيان والعدوان.. وبذلك يعود الأعداء إلى وضعهم الطبيعي، وحجمهم العادي، بدون انتفاش أو استكبار".
هذا السلوك الذي يمثل معاني الدعوة إلى الله وحب الخير لكل الناس، هو الذي يجعل من عدم المعاملة بالمثل -مع القدرة على ذلك- بل حسنها دافع لتغليب النظرة الإيجابية التي يتركها ذلك الخلق وتلك المناقب الراقية للمقاتلين الأشداء والمجاهدين الأقوياء؛ على خصومهم. فعدوهم يعلم أنهم قادرون على ذلك وفاعلوه إن أرادوا لكن من دون إفراط ولا تفريط، حيث إن الأخلاق الفاضلة هي وسط بين رذيلتين: فالشجاعة وسط بين رذيلتي التهور والجبن، والكرم وسط بين رذيلتي البخل والتبذير، والتسامح وسط بين رذيلتي الغلو والتفريط.
إن سلوك القادر والمنتصر والمتغلّب يجب أن يحمل ملامح المرحلة التالية، فالمجاهد يبتغي رفع الظلم عن نفسه أو إخوانه، ويعمل من أجل تحرير وطنه أو استرداد حقوقه؛ وذلك يقتضي تخير الراجح مصلحةً على المرجوح نقلاً، والمسند نقلاً على المنقول وزراً. فانظر إلى أبي عزيز بن عمير -أخو مصعب بن عمير الشقيق- وهو يحدث عن حاله في أسرى بدر عند المسلمين وهو على الشرك: "كنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي؛ فأردها على أحدهم! فيردها علي ما يمسّها!
ولعل البعض يستند إلى وقائع من هنا أو هناك، تحتمل النظر والرد، لكن ليس هذا مقامها. وأحسب أن أوب المخطئ وعودة المسيء مما يُحمد عند البشر بل مما يُحتفى به في الأرض وفي السماء.
صحيح أن أبا بكر الصديق قد قال لعمر بن الخطاب لما أشار بعزل خالد بن الوليد رضى الله عنهم أجمعين: "والله لا أُغمد سيفاً سلّه الله على عدوه" إلاّ أن ذلك قد سبقه تبرؤ النبي صلى الله عليه وسلم من تجاوز خالد في قتل رجال من بني جذيمة متأولاً دون تثبت، فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد" ولم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم لكونه اجتهد، بل ذم الفعل ولم يذم الفاعل، ثم إنه أرسل علي بن أبي طالب ليدفع لهم الدِيَة واحداً واحداً.
إن التوقف عن المثلة والتشنيع في قتل
الأسرى أو
الرهائن هو سبيل الرشاد، وهو رجوع للحق من بعد باطل وتغليب للآجل على العاجل فقد ضمّن البخاري حديث قتلى بني جذيمة في باب "بيان رد اجتهاد الإمام إذا خالف الحق".