أوضح كبير المعلقين في صحيفة
تلغراف البريطانية
بيتر أوبورن أن سبب استقالته من عمله، هو احتجاجه على تغطية الصحيفة لفضيحة بنك "إتش إس بي سي"، التي قامت بإغلاق حسابات عدد من الشخصيات البريطانية المسلمة المعروفة.
وكشف أوبورن تفاصيل إجراءات رئاسة تحرير الصحيفة خلال تغطيتها للقضية، مؤكداً أن الأخبار الرئيسة في الصحيفة لم تعد تحدد بحسب القيم التحريرية.
كما أشار الصحفي الشهير إلى مناورة رئاسة تحرير الصحيفة، وتقديمها مبررات واعتذارات لعدم نشر مقالة له حول فضيحة "إتش إ سبي سي"، ما أضطره في ذلك الوقت لنشر المقال في موقع "open democracy"، وهو المقال الذي نشرت ترجمته في "
عربي21" آنذاك تحت عنوان
"بنك إتش إس بي سي..مفتوح للزبائن؟!".
وفي ما يأتي النص الكامل لمقال أوبورن الذي ترجمته وحررته صحيفة "
عربي21":
تغطية ذي ديلي تلغراف البريطانية لأخبار مصرف "إتش إس بي سي" خداع للقراء. إذا سمحت الصحف الرئيسة للمؤسسات التجارية بالتأثير على محتواها خشية فقدان الدخل من الإعلانات فإن الديمقراطية نفسها تصبح في خطر.
قبل خمسة أعوام دعيت لأصبح المعلق السياسي الرئيس في التلغراف، وكانت تلك وظيفة افتخرت جداً بقبولها. لم تزل التلغراف منذ زمن بعيد أهم صحيفة ذات ميول محافظة في
بريطانيا، استحقت الإعجاب على نزاهتها وعلى تغطيتها المميزة للأخبار. وحينما انضممت إلى الصحيفة تصادف ذلك مع كشفها لفضيحة نفقات أعضاء البرلمان، أهم سبق صحفي سياسي على الإطلاق في القرن الحادي والعشرين.
كنت أعي بأنني أنضم إلى واحدة من أعرق المنابر الإعلامية السياسية. وقبل أن أستلم عملي ككاتب عمود، أمضيت عطلتي الصيفية منكباً على قراءة مقالات العظيم بيتر أوتلي التي حررها كل من تشارلز مور وسايمون هيفر، وهما اثنان من كبار المتمرسين في هذه الصنعة.
لم يحدث من قبل أن عبر أحد عن لباقة وبراغماتية التيار السياسي المحافظ في بريطانيا كما فعل أوتلي. فصحيفة الميل صاخبة وشعبوية بينما صحيفة التايمز تعتز كصوت للطبقة الرسمية بتأرجحها مع الريح. وأما التلغراف فتشمخ في نسق تقليدي مختلف تماماً، تقرأها الأمة بأسرها ولا يقتصر قراؤها على أرباب المال وأرباب السياسة، تجدها واثقة من القيم التي تنطلق منها، ولطالما عرف عنها دقتها ومصداقيتها في نقل الأخبار. أتصور أن قراءها يشملون المحامين في البلاد، ورجال الأعمال الصغار الذين يبذلون وسعهم للنجاح والتغلب على التحديات، والدبلوماسيين الذين يشغلون منصب السكرتير الثاني ويتعرضون للمضايقة في سفاراتنا عبر العالم، ومعلمي المدارس، ومنتسبي القوت المسلحة، والمزارعين، وكل الناس المحترمين الذين تشغلهم أحوال البلد فباتت همومه همومهم.
كان جدي الكولونيل توم أوبورن، الحاصل على وسام شرف من القوات المسلحة، من قراء التلغراف. وكان أيضاً قيماً على الكنيسة، وله دور مهم في جمعية المحافظين بمنطقة بيترزفيلد. كان له رف خاص على مائدة الطعام، يضع عليه الصحيفة ليقرأها بعناية أثناء تناول طعام الإفطار، وكان يولي اهتماً خاصاً لمقالات الرأي فيها. وطالما خطر جدي ببالي وأنا أكتب عمودي في صحيفة التلغراف.
"تبًّا لك، أنت لا تدري ما الذي تتحدث عنه"
عندما انضممت إلى الصحيفة في سبتمبر 2010 كانت مبيعاتها في تراجع سريع، وساورتني شكوك بأن حالة من الهلع انتابت ملاك الصحيفة جراء ذلك. ثم ما لبثت الصحيفة أن بدأت تشهد أمواجاً من الإقالات، وأعربت الإدارة عن قناعتها بأن مستقبل الصحافة البريطانية سيكون رقمياً (أي عبر الإنترنت). دعاني حينها ميردوخ ماكلينان، الرئيس التنفيذي، لتناول وجبة الغداء معه في فندق غورينغ هوتيل القريب من قصر باكينغهام، حيث يحب مسؤولو التلغراف إنجاز بعض أعمالهم. ألححت عليه ألا يتعجل الحكم على الصحيفة، وأشرت إلى أنها كانت لا تزال تنعم بتوزيع صحفي يتجاوز نصف المليون، مضيفاً أن قراءنا مخلصون لنا، وأن الصحيفة ما زالت تجني الكثير من الأرباح وأنه لم يكن من حق ملاكها أن يحكموا عليها بالإعدام. إلا أن الإقالات استمرت. وبعد فترة قابلت السيد ماكلينان صدفة في طابور المعزين في جنازة مارغريت تاتشر (رئيسة الوزراء البريطانية السابقة)، وألححت عليه تارة أخرى ألا يستخف بقراء التلغراف، فقال لي: "تباً لك، أنت لا تدري ما الذي تتكلم عنه".
توالت الأحداث المفزعة داخل التلغراف، وفي يناير 2014 فصل محررها توني غولافر من عمله، رغم أنه كان محرراً رائعاً ومحترماً من قبل جميع العاملين، وحل محله صحفي أمريكي اسمه جيسون سيكين، ونصب في وظيفة "رئيس المحتوى". وكانت التلغراف في الفترة من 1923 وحتى عام 2004 قد ترأس هيئة تحريرها ستة صحفيين، كانوا جميعاً شخصيات شامخة، وهم: آرثر واتسون، وكولين كوته، وموريس غرين، وبيل ديبيس، وماكس هيستينغز وتشارلز مور. ولكن منذ أن اشترى الإخوة من عائلة باركليز الصحيفة قبل أحد عشر عاماً تعاقب عليها ستة آخرون، رغم أنه يصعب التأكد ما إذا كان منصب"المحرر" قد ألغي تماماً منذ وصول السيد سيكين واستبدل بمنصب "رئيس المحتوى" (الذي يعمل من الاثنين إلى الجمعة). وجدير بالذكر أن ثلاثة محررين عينوا في منصب "رئيس محتوى" خلال عام 2014 وحده.
ثم ساءت الأوضاع وازدادت سوءاً خلال الاثني عشر شهراً الماضية، وحل دمار شامل بقسم الأخبار الخارجية – الذي كان عظيماً تحت قيادة دافيد مونك ودافيد وستيل. كما هو معلوم بالضرورة لدى كل الصحفيين، لا يمكن لصحيفة أن تعمل بنجاح دون الاعتماد على مساعدي تحرير مهرة، وهؤلاء آل مصير نصفهم إلى الفصل من العمل في الصحيفة، واستقال مسؤولهم ريتشارد أوليفر ورحل.
كانت الأخطاء اللغوية غير واردة حتى وقت قريب، ولكنها باتت شائعة الآن، ومؤخراً قدم للقراء شخص بصفة دوق ويسيكس، مع أن الأمير إدوارد هو إيرل ويسيكس. وذات مرة نشر تقرير على الصفحة الأولى حول صيد الغزلان والحقيقة أنه كان حول التحرش بالغزلان، أي حول نوع من النشاط المختلف تماماً. من الواضح أن إدارة الصحيفة الحالية لا تعبأ بمثل هذه الفروق الدقيقة، إلا أن القراء يهتمون، وكانت التلغراف حتى وقت قريب تعتني عناية فائقة بأن تكون اللغة صحيحة والمعلومات دقيقة.
تصادف وصول السيد سيكين مع وصول ثقافة "الكليك" (النقر). وبدا كما لو أن القصص التي تعالجها الصحيفة لم تعد يحكم عليها بناء على مدى أهميتها ودقتها وتقبلها لدى من يقومون فعلياً بشراء الصحيفة، بل بات المعيار الأكثر أهمية هو عدد من يزورون موقع الصحيفة على الإنترنت. في الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر نشرت التلغراف خبراً عن المرأة ذات الثلاثة أثداء، وأخبرني أحد المسؤولين في الصحيفة وقد تملكه اليأس من الوضع فيها إنه كان معلوماً حتى قبل النشر أن القصة ملفقة. ليس لدي أدنى شك بأن القصة ما نشرت إلا لتولد المزيد من الزيارات للموقع على الإنترنت، ولعلها نجحت في ذلك. لا أقصد القول بأن زيارة الموقع ليست مهمة، ولكن ما أقصده أن مثل هذه الأساليب ستكبد الصحيفة على المدى البعيد إساءة بالغة لسمعتها وستنال لا محالة من مكانتها.
متاح للتجارة؟
ومع انهيار المعايير حصل تطور مشؤوم آخر. كان من المسلم به في الصحافة البريطانية المحترمة الفصل التام بين قسم الإعلانات وقسم التحرير، إلا أن مثل هذا الفصل لم يعد قائماً في صحيفة التلغراف كما يستدل من الكم الهائل من الأدلة والإثباتات.
في وقت متأخر من العام الماضي بدأت العمل على قصة تتعلق بعملاق المصارف على مستوى العالم بنك "إتش إس بي سي". وذلك أن عدداً من الشخصيات البريطانية المسلمة المعروفة تلقت رسائل بشكل مفاجئ من بنك "إتش إس بي سي" يعلمهم فيها بأنه تم إغلاق حساباتهم. لم يعط البنك أي أسباب مؤكداً لمن أغلقت حساباتهم بأنه لا يمكنهم الاستئناف ضد القرار. أخبرني أحد الضحايا بأن ما جرى "يشبه قطع المياه عن بيتك".
بعد أن أنهيت مقالتي قدمتها للنشر في موقع التلغراف على الإنترنت. قيل لي في البداية إنه لا توجد مشكلة. ولكن لما لم تنشر، بدأت في التحري، فناوروا معي بالمبررات والاعتذارات، ثم أخبرت في نهاية المطاف أن المانع من النشر قانوني. توجهت إلى الدائرة القانونية لأكتشف أن المحامين هناك لم يعلموا بالأمر وأنهم لا يجدون مشكلة قانونية في نشر المقال. وحينما ألححت في الأمر سحبني أحد المسؤولين في الصحيفة جانباً وقال لي: "هناك مشكلة صغيرة مع إتش إس بي سي". في نهاية المطاف استسلمت وقد تملكني اليأس، وعرضت المقال للنشر في موقع "أوبين ديموكراسي" (تجدون هنا رابط ترجمة المقال https://arabi21.com/story/797409 / بنك HSBC مفتوح للزبائن).
بعد ذلك بحثت عن التقارير التي نشرتها الصحيفة بشأن بنك "إتش إس بي سي"، فوجدت أن هاري ويلسون، مراسل التلغراف المرموق المتخصص في شؤون المصارف، كان قد نشر قصة على موقع الصحيفة على الإنترنيت حول "إتش إس بي سي" بناء على تقرير كتبه محلل مالي في هونغ كونغ ادعى بوجود "ثقب أسود" في حسابات "إتش إس بي سي". إلا أن القصة التي نشرها هاري ما لبثت سريعاً أن أزيلت من موقع التلغراف، رغم أنها لا تثير أي إشكالات قانونية. وحينما سألت "إتش إس بي سي" عما إذا كان قد اشتكى من مقالة هاري ويلسون، أو لعب أي دور في قرار إزالتها من النيت، رفض البنك التعليق. المهم أن القصة لم تعد موجودة في الإنترنت ومن ينقر على الرابط الموجود في تغريدات هاري ويلسون لن يحصل على شيء. لم يسكت السيد ويلسون، بل أثار الموضوع بشجاعة على الملأ أثناء الاجتماع العام الذي قدم خلاله السيد جيسون سيكين نفسه للعاملين في الصحيفة. بعد ذلك ترك ويلسون العمل في الصحيفة. ثم، في الرابع من نوفمبر 2014 نشرت عدة صحف خبراً مفاده أن أرباح "إتش إس بي سي" تلقت ضربة بسبب قرار البنك تخصيص مليار جنيه استرليني لتعويض العملاء وتمويل التحقيق في عملية التلاعب بأسواق العملات. حظيت هذه القصة باهتمام كبير من صحف التايمز والغارديان والميل، وخصصت لها الصفحة الأولى من صحيفة الإندبندنت. تفحصت التلغراف بحثاً عن تغطيتها للحدث فوجدته قد أشير إليه في ما لا يزيد عن خمس فقرات ظهرت في الصفحة الخامسة من القسم المخصص للمال والأعمال.
نشر الأخبار الخاصة ببنك "إتش إس بي سي" ما هو إلا جزء من المشكلة الأكبر. في العاشر من مايو من العام الماضي نشرت التلغراف تحقيقاً مطولاً حول سفينة كوين ماري 2 التابعة لكونراد، وذلك في صفحة التحليلات الإخبارية. لاحظ كثيرون أن نشر مثل هذا الموضوع لم يكن سوى دعاية في موقع من الصحيفة تعورف على تخصيصه للتحليل الجاد لمجريات الأحداث. ذهبت أدقق في الأمر وتأكدت من أن منافسي التلغراف لم يروا في خبر سفينة كونراد قصة تستحق مثل هذا الاهتمام. من هو كونراد؟ إنه واحد من أهم المعلنين في صحيفة التلغراف.
وكان تعليق الصحيفة على احتجاجات السنة الماضية في هونغ كونغ في غاية الغرابة، حيث كان المرء يتوقع من التلغراف بالذات أن تبدي اهماماً بذلك الحدث وأن يكون لها موقف قوي وواضح تجاهه. ولكن(وبالمقارنة مع منافساتها مثل التايمز) لم تكن تجد مقالاً تحليلياً واحداً حول الموضوع في الصحيفة.
في مطلع ديسمبر نشرت كل من الفاينانشال تايمز والتايمز والغارديان مقالات رأي قوية حول رفض الحكومة الصينية السماح للجنة من أعضاء البرلمان البريطاني بالدخول إلى هونغ كونغ. بينما التزمت التلغراف الصمت. وأي حدث يمكن أن يغضب قراء التلغراف أكثر من هذا أو يكون موضع اهتمام أكبر لديهم؟
في الخامس عشر من سبتمبر نشرت التلغراف تعليقاً للسفير الصيني قبل الملحق الإعلاني الخاص بالصين، والذي در على الصحيفة مبلغاً لا بأس به. بدون أدنى تهكم، كان عنوان مقال السفير الصيني"دعونا لا نسمح لهونغ كونغ أن تفسد ما بيننا". وفي السابع عشر من سبتمبر نشرت الصحيفة ملحقاً من أربع صفحات خاص بالأزياء يتوسط قسم الأخبار حظي بتغطية تتجاوز ما حظي به الاستفتاء على استقلال اسكتلاندا. وأما خبر حسابات متجر تيسكو المتلاعب بها في الثالث والعشرين من سبتمبر فحظي بتغطية محدودة وفي قسم المال والأعمال فقط، بينما كان موضوعاً رئيسياً في صحيفة الميل. ومع ذلك فتغطية التلغراف لمتجر تيسكو ليست بالقليلة، ومنها على سبيل المثال خبر بعنوان "تيسكو يتعهد بدفع 10 ملايين جنيه استرليني لمحاربة السرطان" و"إطلالة من الداخل على طائرة تيسكو التي كلفت 35 مليون جنيه استرليني" و"قابل القط الذي عاش داخل متجر تيسكو لأربعة أعوام". كل هذه التقارير فيما يبدو اعتبرتها الإدارة مما يستحق التغطية.
هناك عدد من القضايا الأخرى المزعجة، ظهر معظمها في مجلة "برايفيت آي" التي باتت مصدراً أساسياً للمعلومات يلجأ إليها صحفيو التلغراف الراغبون في فهم ما الذي يجري في صحيفتهم. لم يكن ثمة مفر من تشكل انطباع بأن خللاً أو انحرافاً قد طرأ على تقييم التلغراف للمادة الإخبارية. ولذلك بادرت إلى كتابة رسالة طويلة وجهتها لميردوخ ماكلينان عبرت له فيها عما يقلقني بشأن ما آلت إليه الأوضاع في الصحيفة، وقدمت له استقالتي. وأرسلت نسخة من الخطاب إلى رئيس مجلس إدارة التلغراف آيدان باركلي.
تلقيت رداً متعجلاً من السيد باركلي، الذي كتب إلي يقول إنه يأمل أن أتمكن من حل خلافاتي مع ميردوخ ماكلينان، فذهبت حسب الأصول لرؤية الرئيس التنفيذي في منتصف ديسمبر، وكان الرجل لبقاً، قدم لي كوباً من الشاي وطلب مني أن أخلع سترتي، وقال إنني كاتب مقدر وأكد لي إنه يرغب في أن أبقى على رأس عملي. عبرت له عن كل ما يقلقني بشأن توجهات الصحيفة، وأخبرته أننا لا أترك التلغراف لأنضم إلى صحيفة أخرى وإنما أقدم استقالتي بسبب وازع من ضميري. ووافقني السيد ماكلينان أن الإعلان سمح له بأن يؤثر على السياسة التحريرية، ولكنه ظل مصراً على أن الأوضاع جيدة، وقال لي: “ليست الأمور بهذا السوء" مضيفاً أن التلغراف لديها تاريخ طويل في التعامل مع مثل هذه الأشياء.
منذ ذلك الوقت تشاورت مع تشارلز مور، آخر محرر للتلغراف قبل أن تشتريها عائلة باركلي في عام 2004. اعترف السيد مور بأن نشر حسابات مؤسسة هولنغر التي كانت في حينها الشركة القابضة لصحيفة التلغراف لم يحظ بالتدقيق الذي يستحقه، إلا أنه لا يوجد صحيفة واحدة في التاريخ قدمت تغطية غير متعاطفة لقضية حسابات الشركة التي تملكها، وفيما عدا ذلك، أخبرني السيد مور بأن الصحيفة لم تكن من قبل تشهد تأثيراً للإعلانات على تغطيتها للأخبار.
بعد لقائي بالسيد ماكلينان وصلني خطاب من التلغراف يقول بأن الصحيفة قد قبلت استقالتي ولكنها ترحب بعرضي لها الاستمرار في العمل طوال فترة الستة شهور التي يتكون منها إشعار الاستقالة. ولكن طلب مني في منتصف يناير أن أقابل أحد المسؤولين التنفيذيين في التلغراف، وكان اللقاء هذه المرة على كوب من الشاي في فندق "غورينغ هوتيل". أخبرني بأن عمودي لديهم سيتوقف وبأن "كلاً منا سيذهب في طريقه".ولكنه أكد بأن التلغراف ستلتزم بما ينص عليه عقدي معهم وستفي به إلى أن تنتهي مدته في مايو. أما أنا فقلت له بأنني سأغادر الصحيفة بهدوء، وأنه ليس لدي أي رغبة في الإساءة إلى الصحيفة، فهي رغم كل مشاكلها ماتزال توظف عدداً كبيراً من الكتاب المرموقين جداً، وهؤلاء لديهم عائلات وعليهم أقساط قروض بيوت يلتزمون بدفعها، وهم يقومون بعمل بديع رغم الظروف الصعبة التي يمرون بها. وبذلك أعددت نفسي ذهنياً لأخذ إجازة مدفوعة الأجر لعدة شهور لعلي أقضيها في العمل في الاعتناء بحديقة منزلي.
آسف.. أي أسف؟
هذا ما آلت إليه الأوضاع وما كانت عليه يوم الإثنين من الأسبوع الفائت حينما بثت قناة تلفزيون البي بي سي برنامجاً وثائقياً ضمن سلسلة بانوراما عن بنك "إتش إس بي سي" وذراعه السويسرية زاعمة تورط البنك في مخطط للتهرب على نطاق واسع من دفع الضرائب. في نفس الأثناء نشرت صحيفة الغارديان وكذلك النقابة الدولية لصحفيي التحقيقات ما أطلقتا عليه اسم "ملفات إتش إس بي سي". أدركت جميع الصحف مباشرة أن ذلك كان حدثاً كبيراً جداً، فذهبت الفاينانشال تايمز تنشر تقارير عنه على مدى يومين، بينما أعطته كل من التايمز والميل حيزاً كبيراً من صفحاتها في تغطية جادة.
كنت بحاجة إلى مجهر (مايكروسكوب) لتتمكن من رؤية تغطية التلغراف للحدث: لم يكن هناك أي ذكر له في عدد يوم الإثينين، واكتفت الصحيفة بست فقرات نحيفة في أسفل الصفحة الثانية من عدد يوم الثلاثاء وسبع فقرات غارقة في مكان ما في صفحات قسم المال والأعمال من عدد يوم الأربعاء. وركزت الصحيفة بحثها في تغطية الحدث حول مزاعم بأن التهرب من الضرائب ربما طال أشخاصاً على علاقة بحزب العمال.
بعد معاناة شديدة، خلصت إلى أنني أتحمل مسؤولية أخلاقية توجب علي أن أكشف عن ذلك للناس، وذلك لسببين في غاية القوة، أما الأول فيتعلق بمستقبل التلغراف في أيدي الأشقاء من عائلة باركلي. قد يبدو للبعض أنني أبالغ نوعاً ما، ولكني أعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الصحيفة جزء أساسي ومهم من البنية الأهلية لبريطانيا، بل هي أهم صوت شعبي للتيار المدني المحافظ يعبر من خلاله عن حقه في النقد والمساءلة.
إن قراء التلغراف فئة من الناس تتمتع بدرجة عالية من الذكاء والعقلانية وسعة الاطلاع، وهم يشترون الصحيفة لأنهم يشعرون بأن بإمكانهم وضع ثقتهم فيها. فإذا سمح لأولويات الإعلانات التجارية أن تحدد السياسة التحريرية للصحيفة فكيف للقراء أن يستمروا في الشعور بهذه الثقة؟ إن التغطية الأخيرة للأخبار المتعلقة ببنك "إتش إس بي سي" تعتبر شكلاً من أشكال الخديعة التي مارستها الصحيفة بحق قرائها. لقد آثرت الصحيفة ما ترى أنه مصلحة مؤسسة مصرفية عالمية على واجبها في إيصال الأخبار والمعلومات صحيحة وكاملة غير منقوصة لقرائها. لا يوجد سوى كلمة واحدة لوصف هذا الوضع: إنه "فظيع". تصوروا لو أن الـ"بي بي سي"، التي كثيراً ما تتعرض لهجمات لاذعة من التلغراف، تصرفت بهذا الأسلوب. لو حصل ذلك لما نجت البي بي سي من تهكم الصحيفة وازدرائها، ولأصرت التلغراف على أن رؤوساً كبيرة في البي بي سي قد حان قطافها، ولكانت محقة في ذلك.
وهذا ينقلني إلى النقطة الثانية، والتي أراها أكثر أهمية، ليس فقط فيما يتعلق بأثرها على صحيفة واحدة وإنما أيضاً على الحياة العامة بأسرها. يعتبر وجود صحافة حرة من أهم متطلبات الديمقراطية السليمة. إن للصحافة غرض لا يقتصر فقط على التسلية. ليس الغرض من الصحافة أن تشبع الرغبات المنحرفة لذوي النفوذ السياسي والشركات الكبيرة والأثرياء. بل تحمل الصحف على عاتقها ما يمكن أن يرقى إلى الواجب الدستوري في أن تخبر قراءها بالحقيقة. وليست التلغراف وحدها هي المخطئة في هذا المجال، فلقد شهدت السنوات القليلة الماضية ظهور مدراء تنفيذيين يكتنفهم الغموض باتوا هم الذين يقررون ما هي الحقائق التي يمكن أو لا يمكن نقلها إلى الرأي العام عبر وسائل الإعلام الرئيسية. ولا يوجد مثال أكثر فظاعة على هذه الظاهرة الخبيثة من الممارسات الإجرامية التي وقعت فيها مؤسسة نيوز إنترناشنال خلال سنوات تنصت صحفييها على هواتف الناس. والحقيقة هي أن كل الصحف، باستثناء الغارديان المبجلة، انتهجت سلوكاً من التستر بشأن قضية التنصت على الهواتف حتى وإن لم تتورط هي نفسها (كما كان الحال مع التلغراف)في ارتكاب الجريمة. وكانت إحدى تداعيات مؤامرة التستر هذه هي تعيين أندي كولسون مديراً للاتصالات في مقر رئيس الوزراء، مع العلم أن كولسون يقضي الآن حكماً بالسجن ويواجه المزيد من التهم، ومنها الحنث باليمين.
أسئلة تنتظر بإلحاح الإجابة عنها
في الأسبوع الماضي اكتشفت شيئاً آخر. قبل ثلاثة أعوام وصلت معلومة إلى فريق التحقيقات في صحيفة التلغراف، وهو نفس الفريق الذي أجرى تحقيقاً رائعاً كشف تلاعب بعض أعضاء البرلمان في بيانات نفقاتهم، تتعلق بحسابات إيداع في فرع إتش إس بي سي الكائن في جيرزي. من الناحية المبدئية يشبه هذا التحقيق ما قام به برنامج بانوراما في تلفزيون البي بي سي بخصوص التحقيق في الذراع السويسري لمصرف إتش إس بي سي. بعد ثلاثة شهور قررت التلغراف نشر التحقيق، والآن توجد ست مقالات حول الموضوع في في الإنترنيت نشرت ما بين 8 و 15 نوفمبر من عام 2012، إلا أن ثلاث منها محجوبة عن القراء.
لم تظهر تقارير جديدة بعد ذلك، وأمر الصحفيون بإتلاف كافة رسائل الإيميل والتقارير والوثائق ذات الصلة بالتحقيق في حسابات الـ"إتش إس بي سي". ولقد علمت الآن، في تحول ملحوظ بعيداً عن الممارسة المألوفة، بأن محامي الأشقاء من عائلة باركلي باتوا في تلك المرحلة على علاقة وثيقة بالأمر، وحينما سألت التلغراف لماذا يتدخل الأشقاء من عائلة باركلي في الأمر، رفض المسؤولون في الصحيفة الإدلاء بأي تصريح.
لقد كانت تلك هي اللحظة المفصلية، فمنذ مطلع عام 2013 وحتى الآن باتت تستبعد كل التقارير التي تتناول
بنك إتش إس بي سي بالنقد، وعلق البنك نشر إعلاناته في الصحيفة. أخبرني مصدر من الداخل على اطلاع جيد جداً بأن الحساب الإعلاني لبنك إتش إس بي سي مع التلغراف ذو قيمة عالية جداً، كما أخبرني مسؤول تنفيذي سابق في التلغراف إن إتش إس بي سي "معلن لا تملك أن تغضبه". واليوم رفض "إتش إس بي سي" التعليق حينما سألتهم ما إذا كان قرار البنك وقف إعلاناته في التلغراف له علاقة بأي شكل من الأشكال بالتحقيق الذي قامت به الصحيفة بشأن حسابات فرعه في جيرزي.
وبذلك أصبحت استعادة حساب "إتش إس بي سي" الإعلاني أولوية ملحة، وفعلاً نجحت الصحيفة في استعادة الحساب بعد ما يقرب من اثني عشر شهراً. يقول المسؤولون التنفيذيون في الصحيفة إن ميردوخ ماكلينان كان عازماً علي عدم السماح بنشر أي تقرير أو مقال يتناول إتش إس بي سي بالنقد. ويقول صحفي سابق من صحفيي التلغراف في ذلك: "كان (ماكلينان) يعبر عن قلقه تجاه أي عنوان حتى فيما يتعلق بالأخبار الثانوية، وكان يحظر نشر كل خبر أو مقال يتعلق بغسيل الأموال حتى بالرغم من أن البنك كان قد تلقى إنذاراً نهائياً من السلطات في الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الشأن. وكان هذا التدخل يحدث على نطاق واسع. إن أي سياسة تحريرية تتأثر بالإعلانات تقع لا محالة في خانة الاسترضاء، وحالما يدرك كيان قوي ما بأن بإمكانه ممارسة نفوذه والضغط عليك فإنه يعلم بأنه قادر على العودة المرة تلو الأخرى لتهديدك أو ابتزازك. وهذا يغير العلاقة بينك وبينه بشكل تام. وحينها ستعلم أنك مهما كنت صامداً وقوياً فإنك ستترك بلا سند وسينالون منك".
وحينما وجهت عصر هذا اليوم أسئلة مفصلة إلى التلغراف مستفسراً عن علاقاتها بالجهات المعلنة، جاءني من الصحيفة الرد التالي: "إن أسئلتك مشوبة كلها بالأخطاء، ولذلك لا ننوي الإجابة عليها. ولكن بشكل عام، وكأي مؤسسة تجارية، نحن لا نصرح عادة بشيء فيما يخص أي واحدة من علاقاتنا التجارية، إلا أن سياستنا في غاية الوضوح. نحن نسعى لتوفير مجال واسع من الخدمات الإعلانية لشركائنا التجاريين. ومع ذلك يظل الفصل بين الإعلانات والسياسة التحريرية التي نلنا كل تقدير عليها أمراً أساسياً في مجال عملنا. ونحن نرفض أي مزاعم تتهمنا بعكس ذلك".
والحقيقة أن الأدلة تشير إلى عكس ما تدعيه الصحيفة، ولعل تداعيات التناول الناعم من قبل التلغراف للقضايا التي تخص "إتش إس بي سي" ستكون بالغة الأثر. هل كانت دائرة الضرائب في حكومة جلالة الملكة ستبادر مبكراً وبحماسة أكبر في التحقيقات التي بدأتها مؤخراً بشأن التهرب من الضرائب لو أن التلغراف استمرت في محاسبة بنك إتش إس بي سي بعد التحقيقات التي أجرتها في عام 2012؟ وهنا تكمن مسائل عظيمة، مسائل تضرب في صميم ديمقراطيتنا، مسائل لم يعد من الممكن الاستمرار في تجاهلها.